أبووردة السعدني - عمارة المسجد النبوي في عهد السلطان عبدالمجيد الأول

عبدالمجيد الأول السلطان الحادي والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية ، والد السلاطين : مراد الخامس وعبد الحميد الثاني ومحمد رشاد الخامس ومحمد وحيد الدين ، الابن الأكبر للسلطان محمود الثاني ، جلس على عرش الدولة العثمانية إثر وفاة والده سنة 1255 /1839 ، جمع بين الثقافتين الإسلامية والغربية ، أجاد اللغات العربية والفارسيةوالفرنسية ، وكان مولعا بالموسيقى الكلاسيكية ....
.... شهد عهده صدور خطين همايونيين لمواصلة تحديث الدولة العثمانية وفق النظم الأوربية ، ومع اقتفائه خطى والده إلا أنه كان يهيم حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - و يرى - كما رأى أسلافه السلاطين - " أن المدينة المنورة أعلى قدرا ومقاما من العاصمة العثمانية " ، تجلى ذلك في العمارة العظمى التي شهدها الحرم النبوي الشريف في عهده.....
.... ورد تقرير من شيخ الحرم النبوي الشريف أن المسجد النبوي " آل بعض سقوفه إلى السقوط والخراب " ، فشمر السلطان الشاب عن ساعد الجد ، وأرسل العمال وغيرهم من خبراء المعمار إلى المدينة المنورة ، ورصد الأموال للإنفاق على ما تتطلبه عملية الإعمار ، فوصل المكلفون إلى المدينة المنورة وأقاموا "الورش " في محيط المسجد النبوي ، كما توجهوا إلى الجبال خارج المدينة المنورة ، إلى منطقة " الحرة " في الجهة الشرقية لجلب الصخور السوداء منها ، وتمكنوا من الوصول إلى جبل في وادي العقيق ، على مسافة أربع ساعات غربي المدينة المنورة ، وكان جبلا شامخا، تميل صخوره إلى لون العقيق الأحمر ، فأقاموا " ورشةعمل " وقطعوا صخوره لصنع الاسطوانات المطلوبة في عملية إعادة بناء المسجد النبوي الشريف. ...
.... استغرقت عمارة مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم - إثنتي عشرة سنة ، من سنة 1265 /1848 إلى أوائل سنة 1277 /1860 ، لم ينقطع - خلالها - وصول المؤن والحديد والخشب والرصاص والأدهان وكل متطلبات عمارة المسجد النبوي من العاصمة العثمانية إلى المدينة المنورة ، أنفق عليها مائة وأربعون ألف كيس من الذهب المجيدي ، وصل عدد العمال أكثر من ثلاثمائة وخمسين عاملا ، من البنائين والحجارين والنقاشين والجباسين والنجارين والحدادين والسباكين ومن إليهم ، بالإضافة إلى المهندسين والموظفين وغيرهم من مباشري عملية العمارة. ...
.... جدير بالذكر أن القائمين على عمارة الحرم النبوي الشريف كانوا يحرصون حرصا شديدا على أن يكون عملهم في هدوء وسكينة ، وأن لا يحدثوا صخبا أو ضجيجا ، تعظيما وتوقيرا لرسول الله صلى الله عليه ، كما حرصوا - أيضا - على راحة سكان مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم تعطيل الصلاة في المسجد النبوي الشريف . ...
.... يذكر البرزنجي -ت1317 /1899 - أن المسئولين في المدينة المنورة رأوا تخليد اسم السلطان عبدالمجيد الأول ، بأبيات من الشعر تكتب على لوحة منحوتة من الجرانيت الأحمر تعلق في " المسقف القبلي " في المسجد النبوي ، واختاروا قصيدتين ، نذكر من الأولى :
بشرى مليك الورى عبدالمجيد بما
قد فاز من فخر دنياه وعقباه
توجهت لعظيم الأجر همته
وكي ينال من المختار زلفاه
فجددت مسجدا تهوى ملائكة
لو أصبحت فيه من عمال مبناه
ومن الأخرى :
الله أكبر فاز سلطان الورى
عبدالمجيد بأعظم الإحسان
طوبى له قد شاد أرفع مسجد
يسمو على الأفلاك بالعدنان
بشرى لقد حاز الثواب مليكنا
وحوى عظيم الأجر من رحمان
.... لكن السلطان عبدالمجيد الأول - حين عرض الأمر عليه -- أجاز الشاعرين بجائزة قيمة ، ورفض كتابة الشعر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ برأي شيخ الإسلام وكبار العلماء ، فأمر بكتابة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " ....
.... تجدر الإشارة - أخيرا - إلى أن هدايا السلطان عبدالمجيد الأول للمسجد النبوي الشريف كانت متواصلة ، منها - على سبيل المثال وليس الحصر - : مباخر وقماقم ، و " شمعدانات " من الذهب الخالص ، وأخرى من الذهب المرصع بالألماس لإضاءته ليلا. ...
.... وقد لحق السلطان عبدالمجيد الأول بالرفيق الأعلى في شهر ذي الحجة سنة 1277 /1861 ، إثر إصابته بمرض " السل " - بعد حكم دام اثنين وعشرين عاما - عن عمر ناهز ستا وثلاثين سنة ، عانت الدولة العثمانية خلال حكمه مشاكل داخلية وخارجية لا يتسع المقام لذكرها .....



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى