د. محمد سعيد شحاتة - مشهدية الواقع وعبثية الرؤى التشكيل السردي في قصيدة (ثرثرة) للدكتور عيد صالح

(الجزء الثاني)
النص بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي


تحدثنا سابقا أن النظرية السردية البنيوية قسَّمت أشكال السرد إلى ثلاثة أشكال رئيسية بالنسبة لعنصر الزمن، وهي السرد المتسلسل (المتتابع) وهو سرد الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي، فينتقل المبدع من البداية إلى الوسط إلى النهاية، وهو الذي يتوافق مع منطق الأحداث في الزمن، والنوع الثاني هو السرد المتقطع، وهو عكس النوع الأول؛ إذ نجد المسرود لا يلتزم فيه المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث، فمن الممكن أن يبدأ من الذروة، أو منتصف الأحداث، أو نهايتها، ثم يعود إلى البداية، وهكذا لا يلتزم المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث في الزمن، ولكنه يخلق تسلسلا يرتضيه وفق رؤيته الفنية والفكرية للعمل الإبداعي، وأما النوع الثالث من السرد فهو السرد التناوبي، وهو الذي يعتمد فيه المبدع على تناوب الأحداث، فمن الممكن أن نجده يروي قصة معينة، أو يتحدث في موضوع معين، ثم نراه ينتقل إلى قصة أخرى، ثم يعود إلى القصة الأولى، أو ينتقل إلى قصة ثالثة،، والمتن الحكائي هو مجموعة الأحداث التي تتصل فيما بينها بحسب الترتيب الطبيعي في الزمن وأسباب هذه الأحداث، أي النظام الزمني والسببي للأحداث، وهذا يعني أن الأحداث تحدث وفق التتابع المنطقي في واقعها الافتراضي، أما المبنى الحكائي فيختلف تماما عن ذلك، وإن كان يدور حول الأحداث نفسها، أي أن المبنى الحكائي يكون في الأحداث نفسها، ولكن وفق ترتيب يختاره الكاتب، ولا يكون لهذا الترتيب علاقة بالواقع الفعلي والمنطقي، أي لا علاقة له بالتسلسل المنطقي للأحداث في الواقع، فيلجأ الكاتب إلى التقديم والتأخير والحذف وفق رؤيته الخاصة، وما يصبو إليه، وفي هذا الإطار يمكن أن يبدأ من بداية الأحداث متجها إلى النهاية، ومن الممكن أن يبدأ من الوسط، ثم يذهب إلى البداية، ثم يعود إلى النهاية، كل ذلك وفق ما يريده من رؤية فكرية، فإذا بدأ الأحداث من البداية متجها إلى النهاية فإن المبنى الحكائي – في هذه الحالة – يتطابق مع المتن الحكائي، أي يتطابق مع التسلسل المنطقي والطبيعي للأحداث في واقعها الحياتي، فإذا ذهبنا إلى النص/ثرثرة فسوف نجد أن الأحداث ليست متسلسلة تسلسلا تقليديا، أي ليست متسلسلة وفق حدوثها في الواقع العملي الحياتي، وهو التسلسل المنطقي الزمني والسببي، وهذا يعني أن المتن الحكائي ليس متطابقا مع المبنى الحكائي؛ لأن النص/الشاعر أراد بناء رؤية فكرية محددة، واختار من الأحداث ما يتوافق مع هذه الرؤية فانتقل بين الأحداث انتقالا تناوبيا/السرد التناوبي، ولم يرتبط في الوقت نفسه بتسلسل الأحداث من البداية متجهة إلى النهاية، فعندما يشير إلى حدث ما فإنه لا يسرد هذا الحدث كاملا، ولكنه يلتقط منه اللمحة الدالة على الفكرة، ثم ينتقل إلى حدث آخر قد يكون بعده زمنيا، أو قبله، فيلتقط منه اللمحة الدالة ويعود إلى تشكيل رؤيته الفكرية، ومن ثم كان تنقله/النص/الشاعر تنقلا واعيا وفق رؤية محددة لا تلتزم التسلسل الزمني والسببي، ولكنها تلتزم تشكيل المحمولات الدلالية، فقد يشكل النص/الشاعر حدثا من نسيجين أو أكثر في زمنين مختلفين، ثم يسنج هذين النسيجين، أو هذه الأنسجة بحيث يبدو نسيجا واحدا وكأنه من زمن واحد، ومتسلسل تسلسلا منطقيا، ومن ذلك قوله (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) فالحدث هنا يتكون من ثلاثة مشاهد: الأول المرأة التي تستند إلى عامود الإنارة في الستينات، وهي تنتمي لفترة زمنية محددة في النص/الستينات، ثم ينتقل النص/الشاعر إلى المشهد الثاني وهو ماكيز والفتاة البكر والرجل التسعيني، وهو حدث مختلف تماما زمانا ومكانا، ولا يمكن أن نقول بأن المرأة التي تستند إلى عاود الإنارة هي نفسها الفتاة البكر عند ماركيز؛ لأن لفظ المرأة في اللغة غير لفظ الفتاة في المحمول الدلالي الدقيق لكل منهما، وإن دلَّ اللفظان على الأنثى، ثم ينتقل النص/الشاعر إلى المشهد الثالث وهو المرأة التي لم تكن غانية، ولكنها كانت تريد مبيتا، أي مأوى يسترها، فهل كانت تلك المرأة هي فتاة ماركيز، أو كانت المرأة التي استندت إلى عامود الإنارة، أو هي امرأة أخرى غير الاثنتين السابقتين؟ فإن كانت هي المرأة التي استندت إلى عامود الإنارة فإن النص/الشاعر قد أقحم ماركيز والفتاة البكر والرجل التسعيني داخل حدث متسلسل، وفي هذه الحالة يكون التسلسل الطبيعي هو (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) وهنا يبدو تسلسل الأحداث منطقيا وطبيعيا من حيث التسلسل والتبرير المنطقي للحدث، وهنا يبدأ التساؤل: ما الذي جعل النص/الشاعر يقحم ماركيز وفتاته ورجله التسعيني وسط هذا الحدث الواحد المنطقي ليقطع تسلسله؟! وإذا كانت المرأة التي لم تكن غانية ولكنها كانت تريد مبيتا ليست هي المرأة التي كانت تستند إلى عامود الإنارة في الستينات فمن تكون إذن؟! بالتأكيد ليست هي الفتاة التي أشارت إليها جملة ماركيز ورجله التسعيني؛ لأننا قلنا سابقا إن لفظ المرأة ولفظ الفتاة كلاهما مختلفان في المحمول الدلالي الدقيق، وإن كانا متفقين في الدلالة على الأنثى، من ذلك نستنتج أن النص/الشاعر قد نسج ثلاثة مشاهد مختلفة في الزمن والمكان، وجعلها تبدو كأنها حدث واحد متسلسل تسلسلا منطقيا، ولكن الحقيقة أن النص/الشاعر هو الذي ابتكر لها ذلك التسلسل، ونستطيع أن نقيس على ذلك العديد من المشاهد والأحداث الواردة في النص؛ فهي كثيرة جدا، وتمثل ملمحا من ملامح التعبير، وهناك جانب آخر وهو أن النص/الشاعر ينسج كل حدث من مجموعة مشاهد مختلفة على غرار ما أشرنا إليه، ثم يقوم بترتيب تلك الأحداث ترتيبا يبدو منطقيا، ولكنه متشكِّل من مجموعة أحداث مختلفة، وكل حدث متشكِّل من مجموعة مشاهد مختلفة زمانيا ومكانيا، وإذا تتبعنا ذلك في النص فسوف يطول بنا الحديث عن المطلوب، ولكن يمكننا دراسته دراسة مستقلة؛ لأنه يمثل آلية بارزة من أليات تشكيل الرؤية عند الشاعر، إذ يبتكر تسلسلا يبدو منطقيا وواقعيا لمجموعة من الأحداث مختلفة الأزمنة والأمكنة.
الشخصيات في النص:
هناك اختلاف كبير بين النقاد في النظر إلى الشخصية في النص الأدبي، فمنهم من لا يهتم إلا بالوظائف التي تقوم بها الشخصيات؛ إذ تمثل هذه الوظائف العناصر الأساسية الثابتة في الحكي، أما الشخصية فإنها عنصر ثانوي، فنجد فلاديمير بروب يهمل الشخصيات باعتبارها عنصرا من عناصر النص الأدبي حين يبيِّن أن الأجدى" للدراسات السردية أن تتخلى عن الشخصيات وأن تبحث عن بنية الحكاية فيما تقدمه الوظائف لا فيما توهم به الشخصيات" ويسير في الاتجاه نفسه توماشفسكي؛ إذ يقول: "إن البطل ليس ضروريا لصياغة المتن الحكائي، وهذا المتن باعتباره نظام حوافز يمكن أن يستغنى كليا عن البطل وعن خصائصه المميزة" وكذلك ينظر رولان بارت من خلال تحليله البنيوي إلى الشخصية على أنها عنصر مساعد في تشكيل بنية النص الأدبي ليس إلا، وذلك من خلال كونها كائنا موجودا، ولا اعتبار لأي جانب من الجوانب النفسية لهذه الشخصية، أما جريماس فقد اهتم بالشخصية وتطورها والدور الذي تقوم به على مستويين: الأول تعتبر فيه الشخصية مجردة، وهو المستوى العاملي، وأما الثاني فتكون فيه الشخصية فاعلة؛ إذ تؤدي دورا أو عدة أدوار، وهو المستوى الممثلي، ومهما يكن من أمر فإن الشخصية تظل لها مكانة بارزة من حيث كونها شخصية أوردها المبدع في نصه متصفة بملامح محددة، وتقوم بأحداث محددة كذلك، ومن هنا تأتي أهميتها، ويقسِّم هامون الشخصيات إلى ثلاثة أقسام: الشخصيات المرجعية، وهي الشخصيات التاريخية/نابليون، والأسطورية/فينوس/زوس، والمجازية/الحب/الكراهية، والاجتماعية/العامل/الفارس/المحتال، وهذا النوع من الشخصيات يحيل على معنى ثابت حددته ثقافة ما، وقراءتها مرتبطة بدرجة استيعاب القارئ لهذه الثقافة، "وباندماج هذه الشخصيات داخل ملفوظ معين فإنها ستشتغل أساسا بصفتها إرساء مرجعيا يحيل على النص الكبير للأيديولوجيا أو الثقافة" (سيميولوجيا الشخصيات الروائية، فيليب هامون ص 35، 36) أما النوع الثاني من الشخصيات عند فيليب هامون فهو الشخصيات الإشارية، وهي دليل على حضور المؤلف أو القارئ أو من ينوب عنهما في النص، والنوع الثالث هو الشخصية الاستذكارية، والذي يحدد هوية هذه الفئة من الشخصيات هو مرجعية النسق الخاص بالعمل وحده؛ فهذه الشخصيات تقوم داخل الملفوظ بنسج شبكة من التداعيات والتذكير بأجزاء ملفوظية ذات أحجام متفاوتة (المصدر السابق، ص 36، 37( فإذا انتقلنا إلى النص متخذين من رؤية هامون دليلا لنا في الحديث عن الشخصية سوف نجد أن الشاعر استخدم الشخصية قناعا للعتبير عن رؤية فكرية محددة استدعت استدعاء هذه الشخصية تحديدا، فمثلا استدعاء شخصية التسعيني في رواية ماركيز تستدعي تلقائيا الظلال المحيطة بها، ومن هنا يصبح استدعاؤها ضروريا؛ لارتباطها بمحمولات دلالية معينة، وكذلك استدعاء الغجر، وهكذا، وإذا نظرنا إلى الشخصيات في النص نجد أنها تنقسم إلى عدة أقسام
الشخصيات الأنثوية
من الملاحظ أن الشخصية الأنثوية في النص قد جاءت عامة فلا تحديد لها، بمعنى أنها شخصية ارتبطت بدلالة ورودها في النص في المكان والموقف الذي وردت فيه، مما يدفعنا إلى القول بأن الشخصية قد خرجت عن طبيعتها الفيزيائية لتصبح تجريدا خالصا؛ فهي ليست ممثلة لنفسها بقدر تمثيلها لقيمة فكرية وإنسانية أرادها النص/الشاعر، ومن ثم كان ضروريا إخراجها من الطبيعة الفيزيائية لتتلبس بالطبيعة الإدراكية السائلة؛ ليتيح ذلك القدرة على تطويعها حسب إرادة الدلالة في النص، فالنص لم يتحدث عنها باعتبارها فردًا من أفراد المجتمع، ولكنه يتحدث عنها باعتبارها قيمة ذات ملامح مجتمعية حاكمة لفئة من فئات المجتمع، وممثلة لها، ففي البداية وردت الشخصية الأنثوية نكرة (امرأة وحيدة) وإذا وضعناها ضمن الإطار العام الذي وردت فيه فسوف نجد أنه إطار ينظر إلى الأشياء كلها على أنها نكرة، يقول النص/الشاعر (لا قصف هذا المساء – والقمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين وامرأة وحيدة وقطة تبحث في صندوق نفايات ثمة مخمور طوح عشاءه من النافذة) فالإطار العام هنا يمثل حالة من حالات التجسس للقمر الصناعي، وهو يرصد الأشياء كلها لا يفرق بينها؛ ليكتشف ما هو لافت للنظر، ومن ثم فإن ورود الشخصية الأنثوية نكرة هنا ذو دلالة بالحالة التي وردت فيها، فالمرأة هنا ليست محددة فهي امرأة عامة، وهذا ضروري؛ لأن القمر الصناعي لا يميز النساء أو الأفراد ولكنه ينظر إليها جميعا باعتبارهم أشياء عامة، ومن ثم وردت نكرة، وإذا نظرنا إلى بقية الشخصيات الواردة مع الشخصية الأنثوية فسوف نجدها كذلك (كلبين ملتحمين – قطة تبحث في صندوق نفايات – مخمور طوَّح عشاءه) وبذلك نجح النص/الشاعر في استغلال دلالة النكرة في التعبير عن الفكرة التي أرادها من أن المرأة جزء من ملامح المشهد/التجسس، وهو مشهد عام لا يتجسس على شخصيات محددة، ومن ثم كان ورود الشخصية نكرة متسقا مع هذه الدلالة، ثم تأتي الشخصية الأنثوية الثانية في النص (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا ) ومن الملاحظ أنها جاءت معرفة (معرَّفة بالألف واللام) ورغم ذلك تظل الدلالة عامة؛ فلا تعرف هذه المرأة، ولكننا نعرف أنها امرأة تمثل شريحة مجتمعية في فترة زمنية محددة/الستينات، واستدعاء الستينات يستدعي معها كل الملامح المرتبطة بها، فهي فترة انكسار الحلم/هزيمة 67 بما يمثله ذلك من انكسار في الشخصية بصفة عامة والأنثوية بصفة خاصة، ومن ثم فإن الموت هنا موت معنوي، فالشخصية ماتت نتيجة القهر الذي عانته، واستنادها إلى عامود الإنارة محاولة منها للتخلص من مخاوفها، وإيجاد طريق لها، ولكن الشخصية تشير في الوقت نفسه إلى صورة تداولها الإبداع المرأة المقهورة الباحثة عن مصدر رزق لها، والتي عبَّر عنها بصورة واضحة جلية الشعراء الرومانسيون وتعاطفوا معها تعاطفا كبيرا، بحيث أصبحت إحدى الملامح الموضوعية للشعر الرومانسي، يقول إبراهيم ناجي في قصيدة (قلب راقصة) متحدثا لراقصة رآها في مرقص ذات ليلة، ثم جمعهما لقاء في الليلة التالية:
لا تكتمي في الصدر أسرارا
وتحدثي كيف الأسى شاء
أنا لا أرى إثما ولا عارا
لكن أرى امرأة وبأساء
أفديك باكية وجازعة
قد لفَّها في ثوبه الغسق
ودَّعتها شمسًا مودِّعة
ذهبت وعندي الجرح والشفق
تمضي وتجهل كيف أكبرها
إذ تختفي في حالك الظلم
روحًا إذا أثمت يطهِّرها
ناران: نار الصبر والألم
إن المساحة التأويلية هنا تسمح بالانفتاح على الدلالتين اللتين تحتملهما الشخصية الأنثوية: دلالة الفقر/نموذج إبراهيم ناجي، ودلالة الانكسار/هزيمة 67، وإن كان النص – من وجهة نظري – أميل إلى الدلالة الثانية/هزيمة 67؛ لأن النص/الشاعر أورد لفظ (الستينات) وإيراد هذا اللفظ تحديدا ليس عبثا في النص؛ فقد كان من الممكن التعبير عن الفكرة دون إيراد لفظ (الستينات) فهي فترة انكسار حلم هيمن على الشخصية المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة، فجاءت الهزيمة؛ لتكسر هذا الحلم، وتعيد الإنسان إلى حالة من التيه والبحث عن ضوء في آخر النفق المظلم، وهو ما أشار إليه النص بلفظ (عامود إنارة) فعامود الإنارة يكون في الشارع، وهو ما يشير إلى حالة التيه والبحث، والإنارة هنا تعبير عن الضوء الذي تستند إليه الشخصية للبقاء ولفت الانتباه إلى حالة المعاناة، وموت هذه الشخصية دون كورونا يشير إلى نوع آخر من الموت، قد يكون نتيجة الفقر والعوز/نموذج إبراهيم ناجي، وقد يكون نتيجة القهر والانكسار/هزيمة 67، وتصبح كورونا هنا ذات دلالة عامة على المرض، أي أن هذا الموت لم يكن بسبب مرض أو وباء، على أنه من الممكن أن تكون هناك نظرة تأويلية مغايرة تماما لهذه النظرة، ومن حق أي أحد أن يراها مناسبة ما دامت تتخذ من النص وصياغته اللغوية متَّكأ لها، ثم تأتي الشخصية الأنثوية التالية وهي الفتاة البكر في قوله (وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني) وقد لاحظنا أيضا أنها جاءت نكرة، وهو ما يتفق مع السياق العام للنص؛ فالعجوز التسعيني لم يكن راغبا في تحديد فتاة معينة بقدر ما كان راغبا في تحديد صفات لهذه الفتاة، فهو يرغب في فتاة بكر، أي فتاة صغيرة ذات جمال، ومن ثم فإن النكرة هي الدلالة المناسبة لهذه الفتاة؛ إذ إن النكرة تدل على العموم والشمول، وهو ما يتناسب مع الموقف؛ فالطلب يعم أي فتاة بهذه الصفات المرغوبة، أما الشخصية الأنثوية الرابعة في النص فقد جاءت في قوله (المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) وهذه المرأة تتنازعها دلالتان؛ فهي قد تعود إلى قوله (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا ) وبذلك تكون المرأة التي ماتت امرأة فقيرة باحثة عن مبيت، أي مأوى، فهي لم تكن غانية تبيع نفسها ولكنها فقيرة مقهورة تبحث عن مأوى لها، وهنا نعود إلى الدلالتين السابقتين لهذه الشخصية الأنثوية، فقد يكون الفقر ماديا أي فقر حقيقي تعاني منها هذه المرأة/نموذج إبراهيم ناجي، وهنا يكون مأساة هذه المرأة أن المجتمع دفعها إلىى هذه الحالة نتيجة تخليه عنها، وهو إدانة للمجتمع وأفراده ومنظومة قيمه، وقد يكون بحثها عن مبيت أي مأوى متسقا مع الدلالة الثانية/هزيمة 67، ويكون المبيت هنا ذا دلالة رمزية تتفق مع دلالة الانكسار والهزيمة، أما الدلالة الثانية التي تتنازع هذه المرأة فهي البكر التي أرادها العجوز التسعيني، أي أن المرأة التي يتحدث عنها النص هي هذه البكر التي أرادها التسعيني؛ لتكون هدية عيد ميلاده التسعين، وهنا تكون الدلالة متجهة إلى ما تعانيه المرأة من الاستغلال، فهذه المرأة لم تكن غانية، ولكنها كانت محتاجة، وفي جميع الأحوال فإن الشخصية الأنثوية هنا دالة بصورة واضحة على ما أراده النص/الشاعر، والذي جعل الدلالتان تتنازعان في المرأة في قوله (المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) هو أنه لم يكن هناك ما يشير إلى دلالة محددة؛ فقد جاءت هذه الجملة الشعرية (المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) بعد الجملتين المحتويتين على المرأة/الشخصية الأنثوية الثانية والثالثة دون أية إشارة دالة على المقصود من هذه المرأة/الشخصية الأنثوية الرابعة، إذ يقول النص (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني/المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) وقد لاحظنا أن الجملتين (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة - فتاة بكر) مرتبطتان بحرف العطف الواو الدال على المشاركة، ومطلق الجمع، ثم جاءت الجملة التالية (المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا) بعدهما مباشرة مما أحدث هذا التنازع بين الجملتين السابقتين في الدلالة، على أنه يمكن أن تكون هناك دلالة ثالثة للمرأة التي لم تكن غانية، وهي أن الشخصية الأنثوية في الحالتين (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة - فتاة بكر) وجهان مختلفان لدلالة واحدة، وهي الاستغلال القاسي للمرأة؛ ففي الوجه الأول استغلالها في تهميشها وجعلها هائمة على وجهها في الشارع وحيدة/تستند لعامود إنارة، وفي الحالة الثانية استغلالها جنسيا من خلال جعلها فتاة للبيع لرجل تسعيني متهالك يبحث عن متعة آنية يشتريها بأمواله، ثم تأتي الشخصية الأنثوية الخامسة (تقلبت البكر في نومتها) ونلاحظ أيضا أنها جاءت معرفة (معرفة بالألف واللام/البكر) ورغم ذلك كانت دلالتها عامة، وقد جاءت هذه الشخصية الأنثوية في إطارين دلاليين/عدم السعادة وانتهاك الخصوصية، وذلك في قول النص/الشاعر (والغجر لم يكونوا سعداء/تقلبت البكر في نومتها/وتجمدت نظرات الفتي في النافذة) فالدلالة الأولى تمثلت في قوله (الغجر لم يكونوا سعداء) وهي دلالة صريحة، وإيراد لفظ الغجر في هذه الجملة له محمولات دلالية أخرى أشرنا إليها سابقا، وهي لا شك تدخل ضمن الإطار العام لدلالة الشخصية الأنثوية هنا/عدم السعادة، أما الدلالة الثانية/انتهاك الخصوصية فقد تمثلت في قوله (تجمدت نظرات الفتي في النافذة) فقد تعرضت هذه البكر التي تتقلب في نومتها لانتهاك خصوصيتها من خلال النافذة التي أطل منها الفتى في إشارة واضحة على أن البكر لم تكن طرفا فاعلا في هذه الحالة/انتهاك خصوصيتها، فهي لم تكن تعلم بما تتعرض له؛ إذ كانت نائمة، وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل سابقا، ثم تأتي الشخصية الأنثوية السادسة والأخيرة في النص في قوله (ولا جارتي العقور) وهي على عكس كل الحالات السابقة، فإذا كانت الشخصية الأنثوية في الحالات السابقة كلها قد جاءت مقهورة، أو منتهكة خصوصيتها، أو معتدى عليها وعلى حقها في الحياة الكريمة فإن الشخصية الأنثوية هنا قد جاءت على صورة مغايرة تماما؛ غذ جاءت بصورة المعتدية المؤذية لجيرانها، وغير المحترمة لحقوق الجار، وقد عبَّر لفظ (العقور) بوضوح عن هذه الدلالة القاسية لهذه المرأة، وقد أشرنا سابقا إلى أن كلمة (العقور) تطلق على الكلب، فيقال الكلب العقور، و(العَقُور): صيغة مبالغة على وزن (فَعُول) من الفعل (عقر) ويوصف الكلب بالعقور إذا كان متوحشا، وعندما يشير النص/الشاعر إلى أنه لا يحب جارته العقور فهو يشير إلى أنها لم تلتزم بحقوق الجار؛ فالجار ينبغي أن يحافظ على جاره، ولكنها أصبحت مصدر إضرار للجار، وإشارة النص إلى سلبية هذه الجارة يتسق مع المصداقية التي يتبناها من أنه يقدِّم رؤية موضوعية للشخصية الأنثوية في هذه المرحلة من النص، على أننا نلاحظ أن النص/الشاعر قد أورد ملامح الشخصية الأنثوية في المراحل السابقة من خلال أربع دوائر دلالية هي القهر والفقر والاستغلال وانتهاك الخصوصية؛ ليعبر بذلك عن معاناة المرأة في مجتمعاتنا، ثم تأتي الدائرة الخامسة والأخيرة، وهي ليست في صالح المرأة، وهي المرأة العقور/المؤذة، ولكننا نلاحظ أيضا أن هذه الشريحة من الشخصية الأنثوية يتوقف إيذاؤها على الدائرة الصغيرة المحيطة بها/الجار، ومعنى ذلك أن النص/الشاعر يشير إلى أنه إذا كانت هناك شخصية أنثوية سلبية فإن سلبيتها تكون في دائرة ضيقة، ولا يمتد إيذاؤها إلى دوائر أخرى في المجتمع، وكأن النص/الشاعر يريد أن يشير إلى أن الإطار العام للشخصية الأنثوية هو أنها شخصية تعاني على مستويات متعددة ومختلفة، وأن معاناتها لا حدود لها؛ لأنها ليست قادرة علىدفع هذه المعاناة، وكأنها إشارة إلى أن معاناة الشخصية الأنثوية سيمتد لفترات طويلة، وقد لاحظنا أن النص/الشاعر لم يورد أسماء لشخصيات أنثوية، مما يؤكد ما قلناه من أن الشخصية قد خرجت من طبيعتها الفيزيائية لتصبح تجريدا خالصا، مما يحوّلها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين الشخصيات الأنثوية بصفة عامة الساعية إلى الانعتاق من قيم مجتمعية متحكمة في مصيرها وحاكمة لحياتها.
الشخصيات الذكرية
من الملاحظ أن الشخصية الذكرية في النص قد جاءت غير سوية من طرق مختلفة، ومعنى كونها غير سوية أنها لا تتسم بالصفات النفسية والاجتماعية الطبيعية والمتزنة التي تتوافق تصرفاتها مع قيم المجتمع، ومنظوماته المختلفة، إما نتيجة الضغوط الاجتماعية، أو النفسية أو المادية، وغيرها من الضغوط، أو نتيجة معاناتها القاسية، ولم ترد الشخصية الذكرية في النص بملامح إيجابية إلا في موضع واحد، في قوله (والأطفال في نومهم يحلمون بالحلويات وملابس العيد) مما يؤشِّر إلى استنتاج عام مؤداها أن النص/الشاعر يرى أن الحالة الوحيدة للشخصية الذكرية التي تتسم بالبراءة والعفوية والأحلام هي عندما تكون في مرحلة الطفولة، أما في مراحل العمر المختلفة فإن التغييرات المتنوعة والكثيرة تصيب تلك الشخصية فتبدو مهترئة نفسيا وأخلاقيا وماديا، كما تبدو في قمة معاناتها في أحيان كثيرة، وإن بدت الصياغة هادئة في تصوير ذلك، ولكنه الهدوء الذي يستخدم ألفاظا دالة ومعبرة كأنها خناجر تخط ملامح الدلالة بعمق علىى ضلوع النص، وتتجلى قضية المعاناة بملامحها المتنوعة في النص، وتتقاطع أشكالها ومحمولاتها الرمزية؛ لتشكل زاوية مهمة من زوايا الرؤية، فالنص يحتفي بالبسيط والمهمَّش من الشخصية الذكرية، ويرسم صورة محددة تضعهما/البسيط والمهمَّش في متن الرؤية، ومحور الفعل الشعري، وإن لم يهمل إلى جانب ذلك الإشارة إلى غير المهمَّش (والساسة المتأنقين في الشاشات) على أننا ينبغي أن نشير إلى أن الشخصية الذكرية في النص قد وردت ممثلة لقيم عامة، بمعنى أنها تخلت عن صفاتها الفيزيائية، واكتست بصفات تجريدية سائلة، كما حدث مع الشخصية الأنثوية، وكأن ذلك يمثل معادلا بين الشخصيتين/الأنثوية والذكرية، وأولى الشخصيات الذكرية التي وردت في النص هي شخصية الأطفال في قوله (والأطفال في نومهم يحلمون بالحلويات وملابس العيد) ومن الملاحظ أن ورود الأطفال في البداية يعطي إيحاء بأن النص/الشاعر سوف يتتبع الشخصية الذكرية منذ بدايتها، فيقارن – بطريق غير مباشرة- بين مراحلها المختلفة، ويرصد انحراف تلك الشخصية عن المسار الذي كان ينبغي أن تسير فيه من خلال الاحتفاظ بملامحها الطفولية، أو يرصد تطوِّر تلك الملامح مع تطور مراحل الشخصية الذكرية؛ لتصبح ذات قيمة إنسانية ومجتمعية، وتأثير فاعل وديناميكي، فهؤلاء الأطفال يحلمون، وتتناسب أحلامهم مع مرحلتهم العمرية، ولكن هذه الأحلام لم تخرج إلى العلن؛ فهي أحلام في النوم، وليست أحلاما علنية تتمثل في التعبير عن رغبات معلنة، وكأن النص/الشاعر يريد من البداية أن ينزع الحالة الطبيعية عن الشخصية الذكرية منذ الصغر؛ فأحلامهم لم تتخطَّ النوم، وإذا وضعنا هذا الملمح للشخصية الذكرية في إطاره الذي ورد فيه ستتضح الصورة؛ فقد ورد في مقابلة صورة أخرى أكثر ضدية (فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة) فحتى هؤلاء الأطفال رغم براءتهم، وصغر أحلامهم وضعهم النص/الشاعر في مقابلة مع ملمح أكثر عنفا وعدوانية، وذلك من خلال اشتماله على ثلاثة مكونات، هي التلصص، والكوابيس، وصناعة الأحداث الكثيرة، وكلها تؤشِّر – بطريق غير مباشرة – لما سيتعرض له هؤلاء الأطفال/الشخصية الذكرية البريئة من تغييرات في مراحل عمرها التالية، وبخاصة إذا تأملنا قوله (يصنعون أحداثا كثيرة) فما يحدث هو صناعة أي أحداث مصطنعة، وهو ما يدل على أن التغيير في ملامح الشخصية الذكرية الذي سيأتي فيما بعد هو نتيجة هذه الأحداث المصطنعة، وإذا أضفنا إلى ذلك لفظ (الكوابيس) فإن ذلك يدل على أن هذه الأحداث المصطنعة لم تكن أحداثا إيجابية نهائيا، وقد أجاد النص/الشاعر في تحديد ملامح الشخصية الذكرية فس هذه المرحلة/الأطفال بما يتفق مع الإطار العام للنص؛ فهي شخصية لأطفال بما تحمله الطفولة من براءة ونقاء،ثم أضاف لهؤلاء الأطفال الحلم ولكنه حلم لم يبرح حالته السلبية؛ فهو حلم في النوم، بما يحمله النوم من غياب عن الواقع، وما يحمله الحلم من رغبة قد لا تتحقق، ولكنه يبقى حلما متناسبا مع الطفولة فهو حلم بالحلويات وملابس العيد، وهذه النظرة المباشرة من التأويل إذا أخدنا الدلالة على صورتها المباشرة فإذا انتقلت الدلالة |إلى مرحلة أعمق في التأويل التي يمكن أن تتفق معه دلالة النص في إطاره العام فإن الأطفال يمثلون مرحلة البراءة من الشخصية الذكرية، وأن هذه المرحلة معبَّأة بأحلام بسيطة ولكن هذه الأحلام رغم بساطتها تظل أحلاما بعيدة؛ لأنها مجرد أحلام في النوم، وهذا يعني أنها تفتقد تلك الأمور وتحلم أن تتحقق، ولكن واقعها لا يساعدها على ذلك فتلجأ إلى النوم لعله يحقق لها أحلامها البسيطة، وهذه النظرة التأويلية تتسق مع الإطار العام للنص الذي يرسم صورة قاتمة لكل شيء، وتتسق كذلك مع ما أشار إليه النص/الشاعر في البداية (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك) فعدم الإخبار يتناسب مع النوم؛ ففي النوم لا ينتقل ما يراه الرائي إلى غيره، وبذلك تكون تلك النظرة مقدمة لما سوف يأتي به النص/الشاعر تاليا من ملامح للشخصية الذكرية، أما الملمح الثاني للشخصية الذكرية ففي قوله (ثمة مخمور طوَّح عشاءه من النافذة ليلتقطه بعض السيارة) وهي صورة للشخصية الذكرية المنفصلة عن الواقع، والمُغيَّبة إراديا عنه، ولا إراديَّا في الوقت نفسه؛ فإذا كان اللجوء للخمر نتيجة الضغوط الكثيرة على تلك الشخصية، وهو ما يتناسب مع الإطار العام للنص، فإن هذا المخمور لجأ إلى تغييب وعيه إراديا عن طريق اختيار الخمر وسيلة للهروب من الواقع الذي تطارده مرارته، وهنا يكون التغييب إراديا، وأما من الناحية اللارادية فإن هذا المخمور يطوِّح عشاءه، أي لا يعرف قيمة ما يحمله، وما يفقده/عشاءه، نتيجة غياب وعيه، فالفقد هنا لا إرادي؛ لأنه يفقد الطعام دون أن يكون واعيا بما يفعل فهو لا يعرف قدر ما يحمل/الطعام فيطوحه، ولو أنه كان واعيا لما طوَّح طعامه، والإتيان بلفظ (مخمور) نكرة لنقله من إطاره الفيزيائي إلى إطار آخر يمثل قيمة مجتمعية، أو نسيجا من أنسجة المجتمع، وليس بوصفه فردا من الأفراد، أي أن الشخصية الذكرية هنا تتعادل مع الشخصية الأنثوية؛ إذ خرجت من طبيعتها الفيزيائية لتصبح تجريدا خالصا، مما يحوّلها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين الشخصيات الذكرية بصفة عامة، فإذا انتقلنا إلى الورود الثالث للشخصية الذكرية (وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني) فسوف نجد هذا الورود مشتملا على نموذجين (ماركيز - الرجل التسعيني) أما الأول (ماركيز) فإن إيراده هنا محايد، وإن كان مرتبطا بالفكرة المراد التعبير عنها/ملامح الشخصية الذكرية/الرجل التسعيني، ورغم ذلك فإن النص/الشاعر اقتطع من شخصية الرجل التسعيني الواردة عند ماركيز ما يتناسب مع رؤيته، فاتخذ من الرجل التسعيني ملمحا للشخصية الذكرية المنفصلة عن زمنها التي تحاول أن تستعيد هذا الزمن من خلال إثبات ذكوريتها بعلاقة حميمية مع فتاة بكر جميلة؛ ليكون ذلك هدية عيد ميلاد تلك الشخصية الذكرية/التسعيني لنفسها، ومن ثم فإن تلك الشخصية الذكرية لم تخرج أيضا عن الإطار العام للشخصية المرسومة في النص، وإن أضاف لها ملمحا جديدا، فهذا الرجل التسعيني يمثل جانبين، أما الجانب الأول فهو الاستغلال الذكوري للأنثى من خلال الإصرار على علاقة حميمية مع فتاة بكر جميلة، وقد عبر النص/الشاعر عن ذلك بقوله (وماركيز أصرَّ) فالإصرار وارد في النص صراحة، أما الجانب الآخر فهو ما أشرنا إليه سابقا بأنه شخصية ذكرية منفصلة عن زمنها وتحاول أن تستعيد هذا الزمن، وإلى جانب ذلك ما أشرنا إليه أيضا سابقا من أن الأخلاق والقيم لدى هذه الشخصية مسألة نسبية تتغير وتتبدل بتغير أزمان الإنسان وتبدلها، وهذا ما أشارت إليه روسا كباركاس القوَّادة صاحبة البيت السري التي اعتادت أن تتصل بزبائنها الجيدين عندما يكون لديها جديد من الفتيات الجميلات؛ لتعرضهن على هؤلاء الزبائن، فعندما كان البطل التسعيني لا يستسلم لإغراءات روسا الفاحشة لم تكن تؤمن بنقاء مبادئه، وكانت تبتسم ابتسامة خبيثة، وتقول: الأخلاق مسألة زمن أيضا، ولسوف ترى، وعندما اتصل بها البطل التسعيني؛ لتحقيق رغبته بعد زمن طويل، (فتنهدت قائلة: آه يا عالمي الحزين تختفي عشرين عاما وتعود؛ لتطلب مستحيلات ... فقط، وفورا) وهذا يدل على صدق ما قالته له بأن الأخلاق مسألة زمن، أي أنها نسبية، وأن نقاء المبادئ شيء وهميٌّ يطوِّعه الإنسان حسب رغباته، ومن هنا بدت الشخصية الذكرية متسقة تماما مع الإطار العام للنص، ومعبِّرة عن جانب من الرؤية الفكرية، ثم ننتقل إلى الملمح الرابع من ملامح الشخصية الذكرية، وهو ما أشار إليه النص/الشاعر بقوله (والولد كان ضائعا في حجرة بالبدروم/ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء/لم تكن المناديل الورقية قد انتشرت) ومن الملاحظ أن هذا الملمح للشخصية الذكرية مختلف تمام عن الملامح السابقة؛ فهو هنا يدل على الفقر المدقع من خلال إيراد القول (حجرة بالبدروم) وهو إشارة صريحة للفقر المدقع، كما يدل على المرض من خلال إيراد ذلك صراحة (ولم يجد علاجا) إن المعاناة من الفقر والمرض هي الطاغية على هذا الملمح، وإذا انتقلنا إلى مساحة تأويلية أعمق فإننا نستنتج إشارة النص/الشاعر إلى التناقض الشديد الذي يعيشه المجتمع، ويهيمن على فئاته المختلفة، واستغلال هذه الفئات بعضها لبعض، ففي الوقت الذي نجد فيه الرجل التسعيني يسعى إلى إهداء نفسه ليلة ماجنة مع فتاة بكر جميلة نرى في الجانب الآخر الولد الضائع في حجرة بالبدروم، ولا يجد علاجا للتعرُّق الشديد، وضمن هذا الملمح نجد الاستغلال للشخصية الأنثوية، ويستمر ملمح الشخصية الذكرية المنتهكة للأنثى في الورود الخامس لها في النص في قوله (وتجمدت نظرات الفتي في النافذة) فهي شخصية متلصصة على الآخرين، وبخاصة الأنثى المسالمة التي تتقلب في نومتها، ثم ينتقل النص/الشاعر إلى ملمح أشد سلبية وتناقضا في الشخصية الذكرية عندما يقول (والساسة المتأنقين في الشاشات) فإيراد لفظ (المتأنقين) إشارة ضمنية إلى ما يتمتعون به من نفاق سياسي؛ فهم منفصلون عن الواقع، أو يعرفونه ولكنهم يقولون ما ينبغي أن يقال، وليس ما هو واقعي، وهو إشارة إلى أن الساسة في المجتمع لا يعبرون عن واقع هذا المجتمع، فالمجتمع ومشاكله وقضاياه في واد والساسة في واد آخر، وإيراد هذا الملمح متأخراله دلالة كبيرة؛ لأنه يعدُّ بمثابة الحكم القاطع على أنه لا أمل في الخلاص؛ فالساسة الذين في أيديهم مفاتيح الحلول لهذه المشاكل المجتمعية من خلال تركيز النظر عليها للوصول إلى حلول لها، هؤلاء الساسة مشغولون بالظهور المتأنق على شاشات التلفاز، وهنا يكون الختام في الحديث عن الشخصية الذكرية قاطعا بأن الأمل في الخلاص بعيد المنال، لقد نجح النص/الشاعر في رسم الأطر العامة للشخصية الذكرية بما يتناسب مع الإطار العام للنص، ولم يكرر ملمحا مرتين، وقد كل ملمح كان يصبُّ في الرؤية العامة؛ ليبرز جانبا من جوانبها، والمتتبع لنماذج الشخصية الذكرية الواردة في النص سوف يكتشف ذلك.
لقد نجح النص/الشاعر في الكشف عن ملامح الشخصيات/الأنثوية والذكرية بحيث أصبحت عنصرا فاعلا في النص، وكاشفا عن الرؤية الفكرية التي أرادها النص/الشاعر في الوقت نفسه.
وتتنوَّع الشخصيات من حيث الحضور المؤثر الدال وغيره، فقد جاءت بعض الشخصيات ذات حضور مؤثر في الدلالة الكلية للنص، وبعضها كان ذا تأثير في الدلالة الجزئية لفكرة من أفكار النص التي تتعانق مع فكرة أخرى؛ لتكوِّن بذلك عناصر الرؤية، وبعض الشخصيات كان حضوره محايدا.
وننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الفجوات السردية في النص، وقدرتها على الكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية، ومساعدة المتلقي على تفسير تلك الفجوات، ومحمولاتها الدلالية، وما تركه النص/الشاعر للمتلقي ثقة في قدرته على المغامرة، واكتشاف مكامن الإبداع، والمسكوت عنه في النص، على أن يكون ذلك في جزء مستقل إن شاء الله تعالى.
ثرثرة
د. عيد صالح
لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك
وأنت تضع رأسك علي وسادة مملوءة بالهواء
فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة
والأطفال في نومهم يحلمون بالحلويات
وملابس العيد
لا قصف هذا المساء
والقمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين
وامرأة وحيدة
وقطة تبحث في صندوق نفايات
ثمة مخمور طوح عشاءه من النافذة
ليلتقطه بعض السيارة
المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات
ماتت بدون كرونا
وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني
المرأة لم تكن غانية
كانت تريد مبيتا
والولد كان ضائعا في حجرة بالبدروم
ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء
لم تكن المناديل الورقية قد انتشرت
فيلم الأمس كان كئيبا
والغجر لم يكونوا سعداء
تقلبت البكر في نومتها
وتجمدت نظرات الفتي في النافذة
القيظ عُرْيٌ
ورغبات لا تتجاوز المسافات
لا تعبث بعيدان الثقاب
لم نتعود انقطاع الكهرباء
لا أحب المفاجآت
ولا جارتي العقور
ولا الكلاب الضالة
والساسة المتأنقين في الشاشات
قلت له:
ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟!
وتحتل الطرق الرئيسية
ومحاور المدن
واختناقات المرور ؟!
لم يكن يسمعني
ولم أنشغل بالردِّ
وأنا أضع طوابير النمل في رأسي
وأغلق باب فكرة مجنونة
تتحرش بي في اضطجاعتي التي طالت
وأنا لم أر أحفادي منذ كرونا


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى