يمر توصيل المضمون القصصي من المنشئ إلى المتلقي من خلال التشفير بمراحل عدة تبدأ عند القاص بالمضمون وتنتهي بالمستوى الإملائي مرورا بالصورة السردية والكلامية ثم النظم ومستويات النحو والصرف والمستوى المعجمي والصوتي، بينما يبدأ المتلقي لحل الشفرة من الاتجاه العكسي مبتدأ بالمستوى الإملائي ليصل في النهاية إلى الدلالة.
وما يوجد في الصورة السردية ليس هو المضمون نفسه وليس هو الدلالة أيضا، وإنما هو مجموعة خطوط وألوان وأشكال وأشخاص وأفعال وزمان وأماكن مصورة بطريقة جميلة عن طريق اللغة.*
اختار القاص "العتمة" عنوانا لقصته بما يحمله من دلالة مزدوجة، فالعتمة ظلمة الليل في ثلثه الأول، فهي ظلام يختفي فيه السارق (زمان القصة قبل دخول الكهرباء)، وفي المقابل فهو يستر ذو الفاقة والمسكين ليتخفى بأسماله البالية عن عيون الناظرين.
وتأتي القصة كقطع الفسيفساء التي تأتلف لتفجأك بلوحة، عليك أن تنظر إليها من بعيد لتدرك سر جمالها.
المشهد الأول أو لنقل قطعة الفسيفساء الأولى:
المهجرين قسريا في يوم كيوم الحشر، والمكان قد يراه البعض فلسطين ٤٨ أو كوسوفو أواخر التسعينات أو...أو... فالجراح باتساع الخارطة تنزف.
في القطعة الثانية، أرى مهجري مدن القناة في العدوان الثلاثي ١٩٥٦ وخاصة أن الزقازيق والدلتا كانتا من أكثر المناطق استقبالا لهم.
ولكن وبصورة استثنائية لم يكن حظهم بأحسن حالا من مهجري المشهد الأول، فكان نصيبهم القسوة والسياط قولا وفعلا.
القطعة الثالثة أو مشهد دخول القرية:
إذا كان الأحيمر السعدي قد استأنس بالذئب حيث يقول:
عَوى الذِئبُ فَاستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذ عَوى
وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ
فهؤلاء قد "استأنسوا بالعتمة" علها تداري مأساتهم عن العيون.
ويكمل القاص المشهد في القرية بصور متعددة تأتلف متضافرة لترسم لوحة للشقاء والبؤس، ثلاثي الفقر والجهل والمرض.
الاختيار ما بين الظلام (بون الجاز والنور أم البقاء على قيد الحياة (كسرة خبز) مع المذلة والامتهان (مغموسة بالمشي داخل الحيطان).
ويترك المبدع السؤال مفتوحا، فالإجابة لا تحتاج كبير جهد؛ إنها العتمة، العتمة الحقيقية (الظلام)، وعتمة الذل والانكسار!
مشهد جمع "اللطع" أو " العُونة" وما ينال الأطفال فيه من صلف "الخولي" الذي يتابعهم بعصاه في هجير الصيف بشمسه الحارقة.
الأكباد التي تفترسها البلهارسيا، ويلخص المأساة في صورة مبكية لمثلها يذوب القلب من كمد "صبية يلهون بأكفانهم، ولا يدرون أنهم يختصرون المسافات إلى المقابر"!
ويأتي "الجهل" متجسدا في " هياكل مدرسة لم يدخلها أحد فأغلقتها القوارض الجائعة" وفي خروج "الحكيم خائفًا يترقب"، وفي غلق شبابيك كُتّاب الشيخ مصطفى (النور ) والذي يقض مضجع النائب/ الحاكم الفرعون والذي سيكون جزاء من يستعمل عقله الصلب على جذوع النخل، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف.
وكأني بالرصافي في رائعته "يا قوم لا تتكلموا" في سخريته اللاذعة يهتف بالقوم:
يا قـوم لا تتكلَّـموا إن الكــلام محـرَّمُ
ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا
ودَعُـوا التفهُّم جانبـاً فالخير ألاَّ تَفهـمـوا
وتَثبتُّوا في جـهـلكم فالشرُّ أن تتعلَّــموا
أما السياسة فاتـركوا أبـداً وإلاَّ تندمـوا
ويجاوبه الجواهري في "تنويمة الجياع":
نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ
نامي فإنْ لم تشبَعِي مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ
نامي على زُبَدِ الوعود يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ في جُنْحِ الظلامِ
تَتَنَوَّري قُرْصَ الرغيفِ كَدَوْرةِ البدرِ التمامِ
وَتَرَيْ زرائِبَكِ الفِساحَ مُبَلَّطَاتٍ بالرُّخَامِ
ويأتي المشهدان الأخيران بين الواقع والخيال أو لنقل "الواقعية السحرية".
فالجسر في "الطريق إلى بيت العائلة القديم والمهجور" هو جسر إلى الأصالة/ الهوية المفتقدة والنحل/ الأمل الكاذب الذي فقد قدرته على إنتاج العسل في بيئة فقدت رحيق الزهر والعلم فهجرها إلى التلال.
النص مفعم بمفردات الظلام المعجمية والدلالية المتكررة في العنوان (العتمة)، الليل، القبور، وبالتناص القرآني مع قصة آدم عليه السلام
" فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان" ومع قصص موسى عليه السلام "خائفا يترقب"، و"سيصلبكم على جذوع النخل، وسيقطع أرجلكم وأيديكم من خلاف"، و"تتخطف من حولهم".
والتضمين في "قال ربي نجني من القوم الظالمين"، القصص٢١.
والقصة مليئة بالصور وكأنها شعر منثور، ولنلتقط صورة " الأم والأب مضغا وعود الحواة، فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان على لحوم أطفالهما العارية، بما حملوه من أسمال" والتي هي مقابل لصورة سيدنا آدم عليه السلام فوعود الحواة الكاذبة هي وسوسة الشيطان وورق الجنة هو أسمال الفقراء البالية، وكأنه كان من الواجب على الأبوين ألا ينخدعا، وأنىَّ لهما فهما ولدا آدم.
وكذلك السخرية اللاذعة في "خازوق دق ولن يُقلع"!
ويأتي مشهد الختام معلنا الاستسلام اعتزالا للحياة بين الجهل والخرافة والانمحاء " الموت".
وأجدني أستدعي ما كتبته في أواخر الثمانينات:
صهٍ صهٍ صوت الصمت
ما عاد يجديك بعض الوقت
فزمانك ولى منذ زمان
ومماتك يحتاج لبعض الموت.
" العتمة" قصة قصيرة عالية التكثيف تختزن الكثير وتهيب بنا أن نخترق العتمة ونفتح الشبابيك على كُتّاب الشيخ مصطفى.
* السرد في الرواية المعاصرة (الرجل الذي فقد ظله نموذجا)، د. عبد الرحيم الكردي، مكتبة الآداب ٢٠٠٦ ص: ١٤٩-١٥٠
وما يوجد في الصورة السردية ليس هو المضمون نفسه وليس هو الدلالة أيضا، وإنما هو مجموعة خطوط وألوان وأشكال وأشخاص وأفعال وزمان وأماكن مصورة بطريقة جميلة عن طريق اللغة.*
اختار القاص "العتمة" عنوانا لقصته بما يحمله من دلالة مزدوجة، فالعتمة ظلمة الليل في ثلثه الأول، فهي ظلام يختفي فيه السارق (زمان القصة قبل دخول الكهرباء)، وفي المقابل فهو يستر ذو الفاقة والمسكين ليتخفى بأسماله البالية عن عيون الناظرين.
وتأتي القصة كقطع الفسيفساء التي تأتلف لتفجأك بلوحة، عليك أن تنظر إليها من بعيد لتدرك سر جمالها.
المشهد الأول أو لنقل قطعة الفسيفساء الأولى:
المهجرين قسريا في يوم كيوم الحشر، والمكان قد يراه البعض فلسطين ٤٨ أو كوسوفو أواخر التسعينات أو...أو... فالجراح باتساع الخارطة تنزف.
في القطعة الثانية، أرى مهجري مدن القناة في العدوان الثلاثي ١٩٥٦ وخاصة أن الزقازيق والدلتا كانتا من أكثر المناطق استقبالا لهم.
ولكن وبصورة استثنائية لم يكن حظهم بأحسن حالا من مهجري المشهد الأول، فكان نصيبهم القسوة والسياط قولا وفعلا.
القطعة الثالثة أو مشهد دخول القرية:
إذا كان الأحيمر السعدي قد استأنس بالذئب حيث يقول:
عَوى الذِئبُ فَاستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذ عَوى
وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ
فهؤلاء قد "استأنسوا بالعتمة" علها تداري مأساتهم عن العيون.
ويكمل القاص المشهد في القرية بصور متعددة تأتلف متضافرة لترسم لوحة للشقاء والبؤس، ثلاثي الفقر والجهل والمرض.
الاختيار ما بين الظلام (بون الجاز والنور أم البقاء على قيد الحياة (كسرة خبز) مع المذلة والامتهان (مغموسة بالمشي داخل الحيطان).
ويترك المبدع السؤال مفتوحا، فالإجابة لا تحتاج كبير جهد؛ إنها العتمة، العتمة الحقيقية (الظلام)، وعتمة الذل والانكسار!
مشهد جمع "اللطع" أو " العُونة" وما ينال الأطفال فيه من صلف "الخولي" الذي يتابعهم بعصاه في هجير الصيف بشمسه الحارقة.
الأكباد التي تفترسها البلهارسيا، ويلخص المأساة في صورة مبكية لمثلها يذوب القلب من كمد "صبية يلهون بأكفانهم، ولا يدرون أنهم يختصرون المسافات إلى المقابر"!
ويأتي "الجهل" متجسدا في " هياكل مدرسة لم يدخلها أحد فأغلقتها القوارض الجائعة" وفي خروج "الحكيم خائفًا يترقب"، وفي غلق شبابيك كُتّاب الشيخ مصطفى (النور ) والذي يقض مضجع النائب/ الحاكم الفرعون والذي سيكون جزاء من يستعمل عقله الصلب على جذوع النخل، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف.
وكأني بالرصافي في رائعته "يا قوم لا تتكلموا" في سخريته اللاذعة يهتف بالقوم:
يا قـوم لا تتكلَّـموا إن الكــلام محـرَّمُ
ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا
ودَعُـوا التفهُّم جانبـاً فالخير ألاَّ تَفهـمـوا
وتَثبتُّوا في جـهـلكم فالشرُّ أن تتعلَّــموا
أما السياسة فاتـركوا أبـداً وإلاَّ تندمـوا
ويجاوبه الجواهري في "تنويمة الجياع":
نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ
نامي فإنْ لم تشبَعِي مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ
نامي على زُبَدِ الوعود يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ في جُنْحِ الظلامِ
تَتَنَوَّري قُرْصَ الرغيفِ كَدَوْرةِ البدرِ التمامِ
وَتَرَيْ زرائِبَكِ الفِساحَ مُبَلَّطَاتٍ بالرُّخَامِ
ويأتي المشهدان الأخيران بين الواقع والخيال أو لنقل "الواقعية السحرية".
فالجسر في "الطريق إلى بيت العائلة القديم والمهجور" هو جسر إلى الأصالة/ الهوية المفتقدة والنحل/ الأمل الكاذب الذي فقد قدرته على إنتاج العسل في بيئة فقدت رحيق الزهر والعلم فهجرها إلى التلال.
النص مفعم بمفردات الظلام المعجمية والدلالية المتكررة في العنوان (العتمة)، الليل، القبور، وبالتناص القرآني مع قصة آدم عليه السلام
" فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان" ومع قصص موسى عليه السلام "خائفا يترقب"، و"سيصلبكم على جذوع النخل، وسيقطع أرجلكم وأيديكم من خلاف"، و"تتخطف من حولهم".
والتضمين في "قال ربي نجني من القوم الظالمين"، القصص٢١.
والقصة مليئة بالصور وكأنها شعر منثور، ولنلتقط صورة " الأم والأب مضغا وعود الحواة، فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان على لحوم أطفالهما العارية، بما حملوه من أسمال" والتي هي مقابل لصورة سيدنا آدم عليه السلام فوعود الحواة الكاذبة هي وسوسة الشيطان وورق الجنة هو أسمال الفقراء البالية، وكأنه كان من الواجب على الأبوين ألا ينخدعا، وأنىَّ لهما فهما ولدا آدم.
وكذلك السخرية اللاذعة في "خازوق دق ولن يُقلع"!
ويأتي مشهد الختام معلنا الاستسلام اعتزالا للحياة بين الجهل والخرافة والانمحاء " الموت".
وأجدني أستدعي ما كتبته في أواخر الثمانينات:
صهٍ صهٍ صوت الصمت
ما عاد يجديك بعض الوقت
فزمانك ولى منذ زمان
ومماتك يحتاج لبعض الموت.
" العتمة" قصة قصيرة عالية التكثيف تختزن الكثير وتهيب بنا أن نخترق العتمة ونفتح الشبابيك على كُتّاب الشيخ مصطفى.
* السرد في الرواية المعاصرة (الرجل الذي فقد ظله نموذجا)، د. عبد الرحيم الكردي، مكتبة الآداب ٢٠٠٦ ص: ١٤٩-١٥٠