أبووردة السعدني - يوم أن بكت إستانبول

.... إنه اليوم الذي نزف فيه قلب عاصمة الدولة العثمانية الإسلامية بعد أن تحجرت العيون عن أن تذرف الدموع ، يوم الثاني عشر من نوفمبر سنة 1918م ، اليوم الذي دخلت ، فيه ، قوات الحلفاء عاصمة الخلافة العثمانية دخول الظافرين المنتصرين ، في مواكب ضخمة فخمة ، في طليعتها الجنرال الفرنسي " فرانشي ديسبيري Franhet D, Esberey " بأعلامه ، منتشيا ، عالي الرأس ، مرتديا قبعة حمراء وقميصا فضفاضا ، ممتطيا صهوة جواد رائع ناصع البياض ، ردا على ما فعله السلطان العثماني محمد الثاني ، حين فتح المدينة عينها سنة 1453 م ، ودخلها دخول الفاتحين على ظهر جواد أبيض ، وحولها من عاصمة مسيحية إلى عاصمة إسلامية !! ، ثم جاءخلفه جنرال بريطاني بأعلامه وجنوده ، ثم جنرال إيطالي - أيضا - بأعلامه وجنوده ، وأخيرا كتيبة من الجيش اليوناني - تشفيا في العثمانيين !!
.... تجرعت عاصمة الخلافة العثمانية كأس الاحتلال تنفيذا لشروط هدنة " مدوروس " التي وقعتها مع الحلفاء في الثلاثين من أكتوبر سنة 1918 م ، تلك الهدنة التي أنهت القتال بين الدولة العثمانية والحلفاء في الحرب العالمية الاولى ، وكان من بين شروطها - المهينة - تسريح الجيش العثماني وتسليم أسلحته ، والاستيلاء على مضيقي الدردنيل والبسفور ، واحتلال ما يراه المنتصرون - من ممتلكات العثمانيين - ضروريا لأمنهم '!!....
.... هرب الأشاوس المغاوير الثلاثة من العاصمة العثمانية بعد أن أوردوها موارد الردي ، هربوا - جبنا - بعد تسع سنوات من حكم استبدادي متغطرس متعجرف ، عانى خلاله المسلمون ، وغيرهم من الرعايا ، الفرقة بعد الاتحاد ، والعداء بعد الإخاء ، والفاقة بعد الرخاء ، حتى إن النسوة كن يصرخن ويولولن - جوعاً وألما وحسرة - وقت تشييع جنازة السلطان عبدالحميد الثاني (10 فبراير 1918 م ) ، قبل ثمانية شهور من هذا اليوم الحزين ، قائلات :
لم تركتنا وتخليت عنا ؟! ، في زمانك كان لدينا خبز نأكله ، أما اليوم فنحن نموت جوعا !! ....
..... لقد حكم الثلاثي التركي الطوراني : أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا السفاح " جلاد الشام" حكما مطلقا ، حجروا على السلطان محمد رشاد الخامس - ت 30 /7 /1918 م - فلم يكن له من الأمر شيئ ، أدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى سنة 1914 ، دون إذنه أو حتى مشورته ، أجبروه على التصديق على إعدام أحد أصهاره - ظلما وعدوانا - فصدق - صاغرا - وهو ينتحب من شدة البكاء ، أرغموه على النزول - إذلالا له - من قصره - مخالفا البروتوكولات العثمانية المتبعة طوال قرون - لاستقبال الإمبراطور الألماني " ولهلم الثاني" في محطة وصوله إلى إستانبول سنة 1917م !!....
... حرص الثالوث التركي المتعجرف على إقامة الاحتفالات وتعليق الزينات ابتهاجا بالانتصارات في ميادين القتال في الحرب العالمية الأولى ، في الوقت الذي كانت تلحق ، فيه ، بجيوشهم الهزائم الساحقة الماحقة ، حتى فاقت أعداد القتلى والجرحى كل عد أوحصر ، تفشت الأمراض والمجاعات ، وعز وجود الأقوات ، وانتشر التسول في العاصمة العثمانية التي كانت تباهي بالرخاء ، و تشع نورا حضاريا طوال قرون عديدة ، تحولت من مدينة ينعم سكانها - على اختلاف أديانهم وأعراقهم - بالوئام والسلام ، من عاصمة قاهرة ، ترتعد من ذكرها فرائص دول أوربا رهبا وفرقا ، إلى عاصمة مقهورة ، ترفرف في جنباتها الأعلام البريطانية والفرنسية والإيطالية واليونانية ، حتى الأعلام الأرمينية !! ، ومن يمر من سكانها المسلمين على علم من تلك الأعلام دون أن يؤدي له التحية يعاقب عقابا شديدا !!
..... تحولت إستانبول من مدينة زاهرة تصدح في سمائها مٱذن المساجد منادية " حي على الصلاة " ، ومن مدينة تحفل بمدارس العلم ومعاهده ، إلى مدينة يكثر فيها الرقص والمجون و معاقرة الخمر ، ومواقعة النساء !! ....
.... إنها إستانبول التي كانت !!......



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى