محمد السلاموني - تداعيات عن الأدب وما هو أكثر حياة من الحياة:

أشرت فى مقالات سابقة إلى أن الأدب الواقعى والطبيعى هو الذى انحرف بالأدب عن مساره كأدب، بالإختراق الأيديولوجى لتخومه الجمالية، ودس التقنيات والرؤى "الصحفية والشفاهية الرَّثة"، بين منعطفاته، مما حول الأدب إلى مجرد وسيلة لتحقيق أغراض غير أدبية...
ليس للأدب من غرض خارج كونه أدبا؛ وهو ما يعنى أن الأدب مجال مثل سائر المجالات الأخرى؛ له خصوصيته النوعية التى يتميز بها عن غيره من المجالات، أى اشتراطاته، وطرقه الجمالية الخاصة فى النظر إلى الظواهر المختلفة لمقاربة تجربتنا فى الوجود فى العالم.
كما أن الأدب ليس علما بقدر ما هو اشتغال على المنفلت من قبضة كل علم...
العلم- أى علم- يرنو عادة إلى الإمساك بالظواهر، لتقعيدها وتسنينها، أى للكشف عن القوانين التى تنتظم فى إطارها، وهو ما يعنى سعيه الدؤوب لتعيين حدود ماهو "إستثنائى، منفلت وشارد"... هذا "الإستثنائى" هو مجال اشتغال الأدب .
ولعل الفشل الذى حاق بجهود "الشكليين الروس والبنيويين وغيرهم" فى محاولتهم تدشين "علم الأدب"؛ بالبحث عما يجعل من الأدب أدبا، أو ما يطلقون عليه اصطلاح "أدبية الأدب"، هو الدليل على ما أقول .
انتهيت فى مقالى السابق عن "الشخصية الروائية" إلى أن [ الشخصية الروائية هى الإنسان حاملا تاريخه الثقافى معه، لذا تتمرأى فى اللغة بماهى تخييل دلالى "ثقافى" متناسَل من تراكمات تراثية لا حصر لها .] واختتمت ما ذهبت إليه بقولى: [ الشخصية الروائية سليلة الشخصيات التخييلية السابقة عليها .] .
"كادى أو كانديس" فى رواية [الصخب والعنف] لفوكنر:
قرأت الكثير من الروايات، ومع ذلك لست مدمنا على قراءة الروايات، لاسيما فى السنوات الأخيرة، إذ نادرا ما أعثر فى نفسى على الطاقة اللازمة لإستكمال رواية ما... نعم لقد مللت وسئمت من قراءة روايات هى إعادة كتابة لروايات أخرى... لأننى اكتشفت أننى غالبا ما أجدنى أمام "قارئ" يكتب الهياكل العظمية التى أثارتها فى نفسه رواية ما... وتلك مسألة مفصلية، لم ينتبه إليها النقاد المعاصرون "المنشغلون بالتقنيات" على الإطلاق.
نعم، هناك فارق كبير بين رواية هى عالم جذرى، ينحت وجوده كلغة فى اللغة، وبين رواية هى هيكل عظمى متبقى من رواية جذرية لمؤلف آخر...
إنه الفارق الجوهرى بين الحياة الجمالية الأدبية الحقيقية، وإعادة بعث تلك الحياة فى مخيِّلة صدئة هى "مقبرة" ممتدة بداخل قارئ يكتب مقبرته تلك، فى ممارسة فاضحة للإحتيال الأدبى.
سأتحدث عن تلك الوضعية بوضوح أكثر، لأنها فاضحة لأدبنا كله "لاسيما فيما أنتجناه من أعمال روائية ومسرحية"...
نعم، نحن لا نمتلك أدبا حقيقيا، بقدر ما نمتلك مقابر أدبية، ومن ثم فما لدينا لا يزيد عن "وهم الأدب".
// حين قرأت رواية [الصخب والعنف] فى نهاية الثمانينيات، وكنت فى الثلاثين من عمرى تقريبا، أذكر أننى لم أنم ليومين متواصلين... حتى أنهيتها.
وكنت قد استعرتها من صديق لى، قبل أن أنام، ذهبت إليه كى أعيدها إليه، حين التقينا، قلت له: أفكر فى السفر إلى أمريكا... فسألنى: لماذا ؟، أجبت بأننى أريد البحث عن "كادى" ، لقد أحببتها...
نظر إلىَّ صديقى بدهشة، ثم انفجر ضاحكا- كما لم يضحك من قبل أبدا...
وعلق قائلا: "كادى" ولِدَت فى بداية القرن العشرين، وإن لم تكن قد ماتت الآن، فلن تجد سوى بقايا امرأة أكلها الزمن؟!، وقبل هذا كله، هى شخصية أدبية وليست شخصية حقيقية...
ثم انفجر ضاحكا مرة أخرى...
هذا ما حدث .
عدت إلى البيت ونمت قرابة يوم كامل، حين استيقظت خطر لى أننى كنت أحلم...
أوووووه، ياله من حلم !.
بعد ذلك بسنوات وسنوات، وفى أعقاب الإنتهاء من قراءة إحدى الروايات العظيمة، لديستويفسكى وتولستوى، وبول دى مان وكازاينتزاكيس وماركيز... إلخ، انتبهت إلى أننى فى كل مرة أردِّد نفس الجملة: أوووووه، ياله من حلم!...
نعم، فى تلك الروايات هناك حياة غريبة، ومع ذلك، أكثر حياة من الحياة الواقعية !.
ومن هنا بدأ الشغف بالبحث عن [سِر الأدب]...
فى الحقيقة، بمتابعتى لما يُكتب لدينا فى الأدب وعنه، قليلا ما صادفت شيئا ما يمُت إلى الأدب نفسه بصلة، فكلها ثرثرات حول الأدب، بعضها أيديولوجى وبعضها الآخر هذيانات وهلاوس .
الروايات الجذرية:
الروايات العظيمة، أساطير عظيمة، تُطلِعك على "سِر" ما، دون أن تجعلك تمسك به، هى فقط تلقى بداخلك بهذا السِّر، كحجر فى الماء الراكد... الدوَّامات التى يحدثها ذلك "السِّر- الحجر"، هى الأثر "البلاغى، الثقافى، الكونى" الذى يمور بداخلك، ويوقظ كل ما هو راكد فيك...
الروايات العظيمة تقبض بقوة على الجوهر الشعرى للوجود فى رمزيته الغامضة؛ التى هى رمزيتنا نحن البشر...
نعم، الكتابة الأدبية الحقيقية "سِحر"... بكل ما تعنيه الكلمة، فى السحر يهيمن الساحر على الوجود باللغة؛ بقوة اللغة، فتتحول اللغة إلى قوة إحيائية تبسط سيطرتها على الوجود بأكمله، من خلالك أنت... فتصير أنت "البطل" الحقيقى الخالق للوجود والمُحَرِّك له فى آن .
لا أعيد قراءة الروايات العظيمة، وفى الحقيقة لم أستطع ذلك أبدا، لأننى حين قرأتها انفجرت من نفسى التى أعرفها، وتحوَّلت إلى نثارات ذائبة فى الوجود... أعنى أننى صرت كائنا آخر، تحولت إلى إله... كيف يمكن لى إذن أن أعود لنقطة البدء، إلى مجرد إنسان قارئ، يتهجى أبجدية وجود لا يزال غفلا... ؟.
// حين تقرأ الأدب، اقرأه بكل جوارحك، واتركه ينساب فيك ليودع فيك "سِرَّه"...
أمَّا السِّر فيقيم فى صَدَفة الأسطورة "التى ينطوى عليها الأدب"، إن كسرتها بعقلك فقط، لن تجد شيئا .
نعم، كل ما يُكتَب الآن لا يزيد عن أصداف مهشَّمة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى