سعد عبد الرحمن - الشعرية ليست صورا ومجازات فقط (إعادة)

أحيانا صدق الشعور وحرارة الانفعال يكونان كافيين في النص الشعري لجعله نصا بديعا فليس بالمجازات والصور الفنية التي يحشدها بعضهم ويحشرها حشرا في النص يكون النص الشعري بديعا .. الأمثلة على ما أقول كثيرة أكتفي منها بنص قديم لقتيلة (بضم القاف وفتح التاء) بنت الحارث بن كلدة ترثي فيه أخاها النضر وكان من ألد أعداء الإسلام والمسلمين في بداية الدعوة فلما ظفر به المسلمون وأسروه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله فضرب الإمام علي بن أبي طالب عنقه في منطقة تسمى (الأثيل) وتقع في وادي الصفراء غرب المدينة المنورة .
وإلى جانب رثاء قتيلة للنضر نجدها تستغرق عدة أبيات من نصها القصير في عتاب الرسول (ص) على قتله لأخيها ولا أبالغ عندما أقول إن عتابها يقطع نياط القلوب؛ ولذلك روي أن الرسول (ص) قال عندما سمع أبياتها: لو كنت سمعتها قبل قتله ما قتلته، النص لا يتضمن - كما ترون - مجازات ولا تشبيهات ولا استعارات - إلا قليلا جدا يكاد لا يلفت الانتباه - ولا حليات بديعية مما يتوقعها بعضهم في نص مثله لا شيء من ذلك إلا جمل وتعبيرات ومفردات مشحونة بالانفعال الحار والشعور الصادق، وبالرغم من ذلك يعد نصا شعريا بديعا بل في غاية الإبداع لصدق الشعور وحرارة الانفعال المتغلغلين في جمله وتعبيراته ومفرداته، وإليكم النص:
يا راكبا إن الأثيل مظنة .. من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية .. ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليه وعبرة مهراقة .. جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته؟ .. لو كان يسمع ميت أو ينطق
أمحمد ولأنت ضنء كريمة .. في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما .. من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من قتلت قرابة .. وأحقهم إن كان عتق يعتق
أو كنت قابل فدية فلينفقن .. بأعز مايغلو به ما ينفق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه .. لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا .. رسف المقيد وهو عان موثق
ولمن لا يمكنهم التعامل مع لغة النص القديمة سأحاول شرحه و تبسيطه :
تخاطب قتيلة المسافر على طريق (الأثيل) وهو المكان الذي دفنت فيه جثة أخيها بعد قتله و(راكبا) جاءت في النص نكرة غير مقصودة لأنها تعني عموم المسافرين على نفس الطريق لا مسافرا بعينه كما تفيد أنها تخص المسافرين ركوبا على ظهور دوابهم كالخيل أو الإبل أو غيرها بالحديث لا المسافرين رجالا على أقدامهم، فتقول قتيلة لكل من أولئك المسافرين الراكبين: أتوقع أن يكون وصولك إلى موضع الأثيل إذا كنت موفقا فلم يعطلك شيء في طريقك صباح الليلة الخامسة من بدء المسير، فإذا وصلت فأبلغ اخي المدفون هناك تحياتي وأبلغه مدى ما بقلبي من حزن ولوعة عليه وإن دموعي التي تسيل من عيني ودموعي المحبوسة كمدا وراء جفني لشاهدة على عميق ألمي وحسرتي على فراقه، ويغلبها الأسى فتحدث نفسها متسائلة هل إذا ناديت النضر سيسمعني ويرد علي كما كان بفعل دائما إلا انها ترد على نفسها بالنفي في جملة مكتنزة بالحزن الشديد والألم: لو كان يسمع ميت أو ينطق، و(لو) في بداية الجملة تفيد استحالة أن يسمع النضر نداءها.
ثم توجه حديثها إلى الرسول (ص) الذي لم يمنعها حزنها ولا ألمها على مقتل أخيها من مدحه فتصفه بالمعرق في حسبه ونسبه من ناحية الأم والأب كذلك ، وتقول معاتبة له - وهنا ذروة الالم والحزن - على قتل أخيها: لم تكن ستخسر شيئا لو أنك مننت عليه وأطلقت سراحه وكثيرا ما يمن الإنسان بالعفو على عدوه بالرغم مما يملأ نفسه من غيظ وحنق عليه، ولو كنت طلبت يا محمد فدية نظير عدم قتله لقدمنا إليك لافتدائه أعز ما نملك.
وتستطرد في عتابها قائلة له: إن النضر الذي قتلته لم يكن شخصا غريبا عليك فهو من أقرب أقربائك (أسرة النضر قرشية من بني عبد مناف)
وتنهي نصها بتذكر أخيها يساق إلى الموت على أيدي أهله وأقاربه وهو متعب يرسف في الأغلال.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى