أحمد القطيب - قراءة أسلوبية/بلاغية وسردية لثلاثة أبيات شعرية للشاعر ''كثير عزة''

بصُرتْ عيناي ظهيرة هذا اليوم بكتاب 'الشعر والشعراء' لابن قتيبة ،فنفضت غباره وقرأت مبتدأه إلى أن وصلت في باب ''أقسام الشعر'' إلى قوله: ((... وضربٌ منه حسن لفظُه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى،كقول الشاعر :

ولمَّا قضينا منْ منىً كلَّ حاجـــــــةٍ **** ومسّح بالأركان منْ هو ماسـحُ
وشُدّت على حُدْبِ المهاري رِحالــنا **** ولا ينْظُر الغادي الذي هو رائح
أخذْنا بأَطْرافِ الأحاديثِ بيننـــــــا **** وسالتْ بأعناق المطِيِّ الْأباطِحُ

هذه الألفاظ ،كما ترى،أحسن شيء مخارجَ ومطالعَ،وإن نظرت إلى ماتحتها من المعنى وجدته: لما قطعنا أيام منىً واستلمنا الأركان،وعالينا إبلنا الإنضاء،ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح،ابتدأنا في الحديث،وسارت المطيّ في الأبطح،وهذا الصنف من الشعر كثير..)) "الشعر والشعراء" الطبعة الرابعة 1991..دار إحياء العلوم ص25-26

**********

لا أخفيك أيها القارئ أنني أحفظ هذه الأبيات منذ فجر الشباب ،منذ أن قرأتها في كتاب (الصناعتين) لأبي هلال العسكري،ولم أكن أعرف صاحبها إلا بعدئذ ؛فقد نُسبت إلى الشاعر "كُثيّر عزة" ،وهذا واضح من أسلوبها السهل الممتنع، الذي دأب عليه الغَزِلون عامة في عصر بني أمية..بل إنني كثيرا ما كنت أردّد هذه الأبيات ذات الطِّلى .. ولا أخفيك أن الذي حملني على كتابة هذا المنشور هو رأي 'ابن قتيبة' ذاته، فحين قرأته مجددا ،عقدت النية على أن أدلوَ بدلوي قصيرِ الحبل،منافحا عن جمالية الأبيات وامتيازها الفني..وإن كنت قد قرأت فيما مضى للجرجاني في ''دلائل الإعجاز'' ردّا باهرا تناول فيه عجُز البيت الثالث ،ونفى من خلاله نفيا بيّنا أطروحة الفصل بين اللفظ والمعنى ،مُرجعا مزية الكلام إلى نظمه وانصهار مضمونه بشكله..وهو ما كرره بتفصيل عن الأبيات ثلاثتها في كتابه(أسرار البلاغة).
ولنتتبعْ الأبيات شطرا شطرا.. ولنسجل ملاحظاتنا مكتوبةً خاضعةً لإرغامات الحوارية دأْب المدرّسين لا النقاد الكتبة المتخصصين..

1/(ولمّا قضينا من مِنىً كلّ حاجة) :


يبدأ البيت بلمّا،وهو ظرف زمانٍ يؤدي مؤدى (حين) ، و يقتضي جوابا نعثر عليه في البيت الثالث (أخذنا)،فالأبيات إذن معقودة النواصي بحُمول ملتحمة مشدودة بروابط وفق مسمى ''التضمين'' الذي عُدّ عيبا من عيوب الشعر،واعتبره نقادنا المحدثون أساس تشكل الوحدة العضوية بين أجزاء النص،وعليه، فالجمل منضدة ٌ و متصلة فيما بينها بموجب العطف (لما قضينا..+..ومسح..+..وشدت..+..ولا ينظر..+..أخذنا (جواب الظرف).+..وسالت،))ولا ننفي هنا القيود الدلالية الرابطة بين الحُمول المتعاطفة ،المنشرطة بالتناظر والتناسب ،ناهيك عن الربط الدلالي والتركيبي بين الحمل الأول والحمل الخامس ،الذي يرسم جوابا لظرف الزمان الفاتح ..فنحن إذن أمام انسيابية مقصودة من الشاعر لرسم سيرورة منطقية في المكان،متتابعة في الزمان تبدأ بفعل ابتداء وتنتهي بفعل انتهاء،وفق نسق سردي يرسم أقصوصة شعرية ،توفرت لها معينات القصة ؛من سرد ووصف وشخصيات وحوار ،وزمان وفضاء يؤطران الأفعال السردية ،إضافة إلى ملْح تشويق ،دليله جاذبية النص وحكايته البسيطة المتصلة بالوجدان الجمعي ..ومن رأى قط أسرودة غير متماسكة اللحظات في خط حبكتها..وبعد هذا البيان الأولي هل نعتبر (التضمين) في الشعر عيبا؟؟
ولنعد إلى البيت من جديد..
إن الشطر الأول يدخلنا في باب (الكناية) التي تلعب أرجوحتها بين الحقيقة والمجاز،فهي تُبنى على معنيين ؛لأن ملفوظها كلمةً أو تركيباً ،يطلقُ ويراد منه لازم معناه،فالقضية فيها معنى أول ومعنى ثانٍ،إلا أن الكناية يجوز أن تُحمل دلاليا على سطحها (المعنى الأول)أو غورها(المعنى الثاني) وهذا لا يتأتى في المجاز الذي يَنقُضُ فيه المعنى الثاني للكلمة المجازية ، المعنى الأول المعجمي ويئده ،بموجب القرائن المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظيةً أو مفهومية ..ومنتهى الكلام هنا أن المتلقي يتردّد في الشطر الأول بين المعنى الصريح القريب ،وهو (قضاء المآرب والغايات،مما يعنّ للإنسان في أي مكان من شرب ونوم وتبضّع وزيارة) ،والمعنى المكنى عنه؛ وهو إتمام (أركان الحج ومناسكه )مع ما في ذكر (منىً) من إيحاء بالاقتضاء ،بتحقق الركن الأعظم وهو الوقوف بعرفات،قبل أيام التشريق وما يجري فيها من رمي الجمار وذبح للهدي ..
وتأمل معي قول الشاعر ( قضينا كل حاجة) فـ"كل" بإطلاقها لاتمنع بدورها تردد الذهن في (الكناية) بين المعنى الملزوم واللازم ، فهي مصباح ذو لونين؛أبيض معتاد (قضاء المآرب الشخصية من زيارة ..وأكل ..وشرب ..وتجارة ونحوها)؛وأخضر وهاج يحدد المعنى الهدف (أداء فرضة الحج).

2/ومسّح بالأركان من هو ماسح:

كلمة الأركان جمع ركن،والتمسح بالأركان الأربعة لا يكون بلا طواف بحكم الاقتضاء والضرورةأيضا ،فلو قيل (الركن) ،لانصرف البال إلى تمسّح عابر إثر مرور بالصدفة مثلا ،لكن الجمع هنا له اعتباره بما يدل عليه بداهة من التعبير بـ"الكناية " مجددا،فقد كنّى الشاعر بمسح الأركان عن 'الطواف'، لأن الطواف ركن أساس، ولمس أركان البيت عادةً مندوب بين الناس للتبرك،ولا يقوم المندوب مقام الفرض والواجب..ثم إن التمسح بأربعة أركان نفي للصدفة ،وهو مما لا يتم إلا بطواف وحركة.تحيط بالبناء.فإن كان الدخان دالا على النار، فالتمسّح بأربعة أركان من البيت العتيق دال على الطواف بحكم الاقتضاء والضرورة كما سلف.
وترى معي أن كلمة الأركان معرّفة بـ(ال)،لا بالإضافة(أركان الكعبة)فالمضاف إليه المفترض محذوف ونابت عنه (ال) ..و الحذف أولى لبديهة المتلقي من الذكر مادامت (منىً) دليلَ تفسير وتأويل.ومادام القارئ مشاركا الشاعر في استحضار المقدس وفي المرجعية الثقافية والدينية ، .فانظر إلى جمال التلميح، وغثاثة التصريح لو قال(أركان الكعبة) ، لتدرك بعض مفاتن النص التداولية..
ولا يفصل النص في نوع الطواف،أهو طواف إفاضة أم طواف وداع،فكلاهما يكون بعد المبيت بمنى، ،ولا مانع أصلا من استحضار أنواع الطواف في الحج والعمرة ؛أولها وأوسطها وآخرها، فجدار معنى البيت سميك فسيح، إلا أن البيت الثاني يقيد التأويل ويصرفه إلى طواف الوداع تحديداً بعد الفراغ من الحج، وقبيل الرجوع منه.وهي مخاتلة بارعة،فانفتاح التأويل إلى غنى في عجز البيت الأول،ينغلق فجأة ويتقلص مداه بعد قراءة البيت الثاني،فلا يضيع المكسب بينهما، لأن مشاعر المتلقي حركت (السيناريو) كله من طواف القدوم إلى طواف الإفاضة ثم الوداع،فإن أوحى البيت الثاني بطواف الوداع ككوّة صغرى للتفسير، فهذا لا يدفع بالممحاة إلى ذهن القارئ ،الذي استنفر صورا ومشاهد وتجليات روحانية وتجاوبا نفسيا لا يضيع ولا يُسكب إن ضاق التأويل فجأة ..لأن المشهد الخاص واحد ومكرر ،وهو (طواف الوداع) بعد أن اغتذى من البيت الأول بتلك السعة والغنى.
وانظر معي إلى جمالية المجانسة الاشتقاقية في موقعيها من العجز بين (مسّح)و(ماسح) ،كانطباق الغطاء على وعائه ،وانجذاب المفتاح إلى قفله ، بيد أن ماسح اسم فاعل من مسَح لا مسّح،والتضعيف هنا دال على المبالغة في الكيف،وكأنما الشَّدّة على الحرف ،في معنى التعلق وتلمس الأركان شِدّةٌ.وهذه تعبير عن توقد العاطفة الدينية، واعتبار المقدسات.
ولنعد إلى الشطر مجددا(ومسّح بالأركان من هو ماسح)أفلا يستقيم الشطر للشاعر لو قال
frown.gif
ومسّح بالأركان في البيت ماسح) .. فقد يقتصد الشاعر الجملة الموصولية،ويقايض العروض بالعروض ،لكنه بهذا قد يخسر من الشطر عطورا وبخورا،ومعانيَ مضافة،فالفعل منسوبٌ إلى اسم الموصول (من) المتصل بجملة الصلة التي تتكون من حمل اسمي (هو ماسح) ..والفرق الدلالي وفق هذا التعبير واضح بيّنٌ ؛لأن اسم الموصول (مَن) مفتوح الإحالة يَطلب عموم العقلاء، وجملة الصلة توقع تخصيصا يوضح إبهام (من) بـ(هو) المخبر عنه بحكم أو مسندٍ هو (ماسح)فإن قلت (مسّحَ ماسح) على التعديل الذي اقترحتُه،فأنت تنحو إلى التفريد والإخبار عن واحد ، وإن قلت (مسح من هو ماسح)فأنت تعمم و تتكلم عن فئة ،وعن فعل جمعي لا فردي..

3/وَشُدّت على حُدْب المهاري رحالنا:

كان بالإمكان أن يكون البيت جوابا لـ(لمّا)لو بدأ البيت بفعل (شددنا )،لكن الشطر كما ترى ليس غاية الوصول،وإنما هو حلقة من حلقات رحلة النص، ورحلة الشاعر في حالاته ووضعياته المرسومة قبل رحلة القفول من الحج،فهي إذن إجراءات الاستعداد في شقّ منها..

ولاحظ الفعل المبني للمجهول أو المبني للمفعول كما يقول النحاة،فالفعل 'شُدّتْ' غير 'شَددنا'...فالأول أحلى وقعا، وأكثر سعة،فحذف الفاعل في الأصل وإنابة المفعول عنه يكون لدواعٍ منها العلم به،فمن يشد الرحال إلا أصحابها؟؟فالحاج يتكلف بشؤونه،وليس من العادة في مواسم الحج أن يصطحب المتنسك الخادم والعبد،بل يكتفي بنفسه عمّن سواه ،والحج محضر التواضع والتذلل.وفيه منتدبون للرفادة والسقاية منذ الجاهلية.

وقبل هذا وبعده..إن الشطر بدوره يبني (كناية) بشدّ الرحال على المطيّ،عن بدء الرحلة والسفر،مثلما نكنّي عن انتهائها بإلقاء العصا .. فيتأرجح الشطر بين معنى ملزوم ولازم عنه،لأن شدّ الرحال على المطيّ معنى أول ..والسفر وابتداء الرحلة معنى ثانٍ في طيّه.

وفي صفة (الحُدْب) "كناية" أخرى عن موصوف هو النوق،فقد دل باحديداب الأسنِمة على نوع المهاري،والمهر هو حديث الولادة في الخيل والحمر وغيرها ،قبل أن يفصل عن أمه ،فلما ذكر الحدْباء بالجمع فهمنا أن الكلام عن النوق تحديدا..مثلما نُكني عن المرأة بالمخضبة مثلا..ويلزم عن بروز حدبة الناقة صفة الشبع والقوة أيضا(من باب الكناية دائما)،ويفهم من ذلك كله حسن إعداد المطيّ للرحلة،لأن المهزولة يذوب شحمها ويضمر سنامها، فلا تقوى على السفر الطويل،لأن السنام مخزن وقود السفر الطويل.
وأرى في كلمة ' المهاري' توظيفا غريبا يدلنا على فتوّة النوق وصغر أعمارها..لكن المهْر من الدواب عادة لا يصلح للركوب والأحمال،فلا تركب الناقة إلا لعامين وتسمى القلوص ،ولعل الشاعر ركب مركب المبالغة،وأراد على مرمى هذا الوصف أن يوحي بأن نوق القافلة في قوة وشبع وصغر سنٍّ ،دليلا على حسن اختيارها،والإحسان إليها في موسم الحج بأعلافها ومائها..من باب حسن الإعداد لرحلة الحج أولا والقفول منه ثانيا..

4/ ولم ينظُر الغادي الذي هو رائح:

بين (الغادي )و(الرائح) طباق إيجاب باعتبار زمن الفعل لا الفعل ذاته،فالشطر يوحي بحركة الحجيج العازمين على القفول، موتورةً بالاختلاط وتضارب الوجهة،واختلاف النية في التوقيت مابين الغدو والرواح،اعتبارا لاختلاف المقاصد،فالغادي يمشي بالضرورة نهارا تحت الشمس والرائح يمشي ليلاً توقيا منها،وفي هذا نفهم اختلاف المسافات والوجهات قربا وبعداً،واختلاف الأبدان طاقة وصبراً،وتفاوُتَ الحجيج في إعداد العدة للسفر،ولما أراد الشاعر وصف انقطاع كل فئة إلى شؤونها، وعدم التفاتها إلى متأخر،قال (لم "ينظُر" الغادي الذي هو رائح)وقد فسرها نص ابن قتيبة بـ"لا ينتظر" وفي نظري إن الفعل المجرد هنا (لم ينظر) أدل على النظر من الانتظار فالعربية تجيز (نظرالشيءَ) أي أدركه بصره، كما يستعمل الفعل متصلا بـ'إلى'( نظر إلى الشيء)، فالسياق يفترض معنى النظر اقتضاء،لأن يوم الرحلة كيوم الحشر، لا يلتفت المرء إلا إلى نفسه ومسألته ومآربه،ولا ينشغل بغيره نظرا ً ولا انتظاراً ..وعدم الالتفات إلى الشخص المجهول و المعروف بالنظر يدل على الصوم عن الكلام ايضا ناهيك عن عدم انتظاره بالمرة ..لهذا قلنا إن عدم النظر أبلغ..

5/أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا:

هنا يعلن السرد عن بداية الحوار في معمار هذه الأقصوصة الشعرية،لكن الحوار لا يعرض إلا بصوت السارد /الشاعر،في إشارة عامة إلى مضمونه،ولا ضيرفي ذلك ؛فالقارئ يمتلك "خطاطته" الذهنية ،وبمقدوره تحريك"السيناريو" الملائم من خبراته،لافتراض الغائب،وهو موضوع الحوار،بل هي الأحاديث بالجمع؛ بتلاوين ما يخفف وعْثاء الطريق ومشقته ..وقد استعمل الشاعر صورة استعارية في قوله(أخذنا بأطراف الحديث)فقد جسّم ما يتناوله الفم من كلام،وأخبار،وقرّبه بالمحسوس مما تتناوله اليد من أطراف الأشياء المادية،والعلاقة المشتركة أو الوجه الجامع هو أخذ الشيء من مبتدئه ،وتناول جزئه الذي يغني عن كلّه، مع التنويع...ولك أن تتخيّل نتف الحوار التي يعنيها الشاعر من خبر إلى خبر إلى طرفة أو نكتة إلى لغز أو وصف...بما يدل على الإيناس والاستئناس بالرفيق،والفرح بالسير إلى الأهل والصديق،وعدم الاحساس بالوحشة في الطريق..

6/ وسالت بأعناق المطيّ الأباطح:

ما زلت أذكر أن 'عبد القاهر الجرجاني' أفاض في تحليل هذه الصورة الشعرية،وأقام عليها دعواه في ارتباط مزية الكلام بالنظم،لا باللفظ وحده أو المعنى وحده، ومما أذكره من ذلك تثمينه نسبةَ السيل إلى الأبْطُح لا إلى النوق، أو لعله قارن بين قول الشاعر ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)واستعارة أخرى بديلة مثل قولك (سالت أعناق المطي في الأباطح)؛فالاستعارة قائمة في كلّ ،لكن الأولى أرفع وأبلغ، مما يدل أن المعتبَر هو النسق الذي ينحوه المتكلم في تأليف الكلام ونظمه ،وفق المقتضى والهدف الدلالي المرغوب،في انسجام وتداخل وتماهٍ بين الشكل والمضمون.. وبين المنحى النفسي أوالذهني ،والإنجاز الذي يحققه..
فإن عدنا إلى منطق الحركة فالنوق هي المتحركة لا المكان !! فإن قلت :''سالت أعناق المطي''،كنت كمن شبه الحركة المادية للسيل ،بأخرى مادية من حركة الأخفاف والأجسام والأعناق...لكن الشاعر لما أراد قطف الأغنى والأرفع بلاغة ،والدال على كثرة النوق وتدفقها في المسير،وامتلاء البطحاء بها، جعل السيولة صفة للأباطح، وجعل المطي تجلّيا ،كالمحمولة بالسيل لا تتبين منها إلا الأعناق،كأجسام طافية تتقلقل من اثر الفيض الذي غمرها،فنحن في مشهد حركي مركب،خلاف الاستعارة المبدلة التي اقترحناها للمقارنة فهي مشهد من مستوى واحد.
ويروق لي في الصورة تركيز الشاعر على الأعناق دون سائر الجسد،لأنها أبرز عضو متحرك وأطوله ،بل لعله مقياس سرعة الناقة والبعير،سيرا وعدواً .وكيف تظهر الأبدان أصلا وهي في غمْر متماسك متصل الأطناب،لا يظهر منه إلا أطول عضو؟!.
ولقد خلف المستعار منه المحذوف في هذه الصورة الشعرية (السيْل ) لازمة من لوازمه وهي فعل" سال "،كفعل دال على معيار الحركة ومقياسها وهيئتها،فيدل على السرعة،والهدوء والانسياب،وانعدام الاضطراب، لأن جريان الحديث بين الحجيج ،مع إيقاع السرعة،وتدفق المطيّ،معادلة صعبة،لا تنجحها إلا المهاري الفتيّة،لأن التوازن بين السنّ والقوة،يخدم توازن السير ، وما يجري فيه من حوار بلا تفاوت في المسير،ولا وهن ولا فتور،ولا ملل في النفس والضمير.

وفوق هذا وذاك وظف الشاعر ضمير (نحن)في السرد،بما يجعل البطولة جماعية لا فردية،وهو ضمير مغوٍ يدخل المتلقي من حيث لا يدري في أمشاج الشهادة والفعل ،فيتحول من كائن (خارج حكائي) إلى شخصية (داخل حكائية) ،ويصطنع الأقوال والأفعال والمشاعر وكأنها منه لا من المتكلم الشاعر..بل إن أي قارئ مر من تجربة الحج سفرا وإقامة،لابد أن يجد شهادته الخاصة في طي شهادة الشاعر ،لا توهما بل حقيقـــــــة..بل إن غير الحاج نفسه سيركب صهوة الأمنية ليعيش ظلال التجربة حلما تُصَوْرنه الأبيات حقيقة، وذلك من لطائف هذه الأبيات..

ولعلك أدركت أن هذه الأبيات على قصرها كانت خزانا لحليات وجماليات شتى،فتوفرت فيها الكناية التي تشبه اللغز في مبناها وفضّ معناها وكفى بها وسيطا لاستمالة المتلقي وإغوائه،كما استعمل الشاعر الاستعارة في شطرين ، ووظف جناس الاشتقاق والطباق ،ووفر للإيقاع الداخلي طلاوة مأتاها غمرُ الأصوات المتوسطة المائعة الهائل،فهذه الأصوات لا تقل انسيابية عن حركة السيل/النوق ،'فاللام' و'النون' و'الميم' و'الراء'،و"الياء"وسمت النص بوسم مميز مطرد لا تخطئه الأذن ،وانضافت للأصوات المتوسطة بعض الأصوات الرخوة 'كالحاء' الذي بنيت عليه الأبيات رويّا،و'السين' و'الخاء' و'الشين' ، أما جلبة الأصوات الانفجارية فمحدودة جدا ،ولا يسمع منها إلا (الباء)في البيت الشعري الذي يعلن عن بداية أطراف الأحاديث والحوار ..أفليس للحوار صدىً؟؟

والأبيات كما أسلفنا تبني حبكة سردية بسيطة ،وتستثمر تقنية (الإيجاز)السردي مُنبّرة العناوين الكبرى لمجريات الحج ومناسكه،مسلطة الضوء على لحظة الرحلة الجامعة بين الشخصيات الآدمية والحيوانية،مادامت تجربة العيش في الصحراء قد خلقت بينهما ميثاقا غليظاً، وينضاف إلى ذلك الوصف في تصويره الحالات والوضعيات، ورسمه المشهد الحركي للسير ببراعة ،و ينضاف الحوار، وتأثيث الفضاء بشقيه؛ الزماني والمكاني، ولا ننسى ما يحيط بهذا كله من مناخ عاطفي مبهج قوامه العاطفة الدينية،والشوق إلى الديار والإسراع إلى الموطن، وألفة الصديق والمؤانسة في الطريق . فكل هذا أنجح المزج بين الشعري بلوازمه ،و السردي بلوازمه ومعيناته ،مع الاستغناء عن درامية الصراع والقلق المألوفة في القصص ،واستبدالها بإيحاءات مشاعرية سارة ومبهجة..وتلكم خاصية أخرى تفسر التذاذنا بالأبيات.. فقد شغلنا الشاعر ،وشغّل فينا الحواس كلها بصرا..وسمعا..ولمسا..وأضاف ملْح الأحاسيس ..وقربنا من شذا الديار حتى كدنا نشمها بمشاعر لهفة الشاعر وشوقه..

من هنا يتبين أن (ابن قتيبة )،لما نفى أن يكون في هذه الأبيات معنى مفيد ،وأرجع مزيتها إلى اللفظ دون المعنى،كان باله مصروفا إلى حمولة فكرية خاصة،تبعا لاهتماماته كناقد، أو عالم بالأخبار،فالمفيد وفق رأيه هو ما يحمل خبرا تاريخيا أو سياسيا ،أو ما يشهد على شخصية تاريخية اعتبارية ،أو ما تضمن حكمة سائرة رجحها العقل الجمعي...والحال أن المشاعر والأحاسيس ليست بضاعة مزجاة لدى الناقد،وإن كانت هي الفيصل في نجاح الوظيفة التعبيرية التي تقتطع حق الشاعر لنفسه،قبل حق المجتمع عليه.
إن لحظة الصدق مع النفس ..وإشهار المشاعر والعواطف.. واستعمال السرد الذاتي أو قصّ حكاية الشاعر الخاصة،عنوان بارز سيتضح أكثر لدى شعراء الغزل الأموي ومنهم شاعرنا (كثيّر)..وسيؤسس تجليات مشرقة لدى جميل بثينة ،وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما ،فحكاية الشاعر الخاصة بعيدا عن المدح الرسمي والشعر السياسي ،مرايا للوجدان العام تتمرأى فيها آلاف التواريخ المشابهة مادامت الأفئدة معلقة بحبّ الديار ومن فيها.. ومن ذلك ستشرق شمس الغزَل البهية واقاصيصه الشعريةالدرامية ،كما اعترف( ابن قتيبة) نفسه حين ربط بين الشوق إلى الديار ،وبين الشوق إلى ساكنيها ،وصولا إلى المحبوبة تحديداً ،لأن الغزل لائطٌ بالقلوب..(لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل)).. الشعر والشعراء ص31 .


01/4/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى