أحمد غلامي - الأيّائل.. ترجمة: ديانا محمود

كان مدمنا يتعاطى الهروئين. لكنه رجل طيب ومرح. الجميع كان يحبه، ويحاول مساعدته بقليل من المال كي يبني نفسه ولا يلجأ إلى السرقة، ومع ذلك كان يمد يده ويسرق أحياناً. إنه نادر، أقصد اسمه كان “نادر“، وإلا فإن جنوب المدينة مليء بأمثاله، إلا أن نادر لم يكن شخصا مزعجاً وقدم نفسه بطريقة أحبّه فيها الجميع مع انه رجل مدمن، كيف؟ ولماذا؟ ربما بسبب حلاوة لسانه، وربما لأنه لم يسمح لأحد أن يراه وهو يهلوس محتاجاً لمخدراته، فعندما كانت تصيبه الفاقة ويعجز عن شراء المخدرات كان يقصد البيوت المهجورة قرب المطار ليقضى فيها إيام نحسه ولا يعود إلا وقد تحسن وضعه فيذهب إلى الحمام ويحلق لحيته ويتجه بعدها إلى الحي.

أما صاحبه على السراء والضراء فكان “خليل“، وخليل هذا كان يعمل على عربة بيع ليست له في الأصل بل لوالده وهو عجوز سرعان ما يصيبه التعب، ولذلك ترى خليل يبيع عليها البطيخ، یجلس على “تنكة” فيما يجلس صديقه نادر على الأرض.

كان خليل يقص على نادر دائماً تفاصيل آخر فيلمٍ سينمائي شاهده ويروي له بدقة كل أحداثه، لينصت الأخير بشوق للحكاية غارقاً بكل حواسه في مشاهدها. كان خليل يتابع كل الأفلام الفارسية ويرويها بالتفاصيل لنادر، أنا إيضاً سمعت منه قصص عدة افلام منها “الفضة الساخنة” و“زقاق الرجال” و“الهروب من المصيدة” و“اليمامة المطوقة” و “قیصر” قبل أن اشاهدها، وفي الحقيقة لم تكن ممتعة بالقدر الذي رواه خليل، كانت عينا نادر تتعلق بشفتي خليل بشكل عجيب لا يمكن تصديقه.

وعندما قص خليل لنادر قصة فيلم “الأيّائل” امتلأت عينا الأخير بالدموع، وأنا نفسيّ شاهدت فيلم “الأيائل” عدة مرات وكنت أظن إنني السباق الوحيد في إعادة الفيلم لكن خليل تخطاني بأشواط وشاهد الفيلم عشرة مرات وقصّه على نادر أكثر من عشر مرات وعندما كان يصل إلى نهاية الفيلم حيث تحاصر الشرطة منزل الأبطال وتمطر بابه وجدرانه بالرصاص وتصيب البطل “بهروز” ويقول عبارته المشهورة (رشونا بالرصاص وما متنا)، ويغرق نادر بدموعه ثانيةً، فيضحك خليل ويقول ( يا زلمي هادا كلو تمثيل.. ) لكن دون جدوى فنادر لا تخفف عنه هذه الكلمات.

قلت لخليل مرة: (اقرضه ثمن البطاقة خليه يشوف الفيلم) فتوجه بالسؤال إلى نادر: (شو نادر أنت بدك تشوفو؟) فيجيب نادر: ( لا يا زلمي أنا بنعس بالسينما)، طبعاً في نهاية كل سهرة كان خليل يعطي نادر بطيخة مفتوحة أو يأكلانها معاً.

لكن والد خليل لم تكن تعجبه هذه الصداقة، فتراه عندما يأتي ويلّقى نادر عند ابنه يرميه بالكلام فيتوارى الأخير مسرعاً مع بقية الشباب بعيداً عن العربة. فنادر كان يعلم حدوده وقدره وغالباً ما كان يصمت ويمضي إلى الجهة المقابلة من الشارع ويجلس بالقرب من دكانة رجل خلوق بعض الشيء.

مع بداية الحرب ذهب خليل إلى الجبهة حيث تمطر السماء رصاصاً حقيقيا وسرعان ماعاد مستشهداً وحمل الرفاق رفاته إلى حارته في طهران التي امتلئت بحَجَلات المآتم، وغرق نادر في حزنه إلا أنه أصبح فجأة مسؤولاً عن ذوي الشهيد وصاحب العزاء فهذا يقول له (وين نحط الطناجر) وآخر يقول ( استاذ نادر ما حطينا أكل للنسوان).. حتى والد خليل رأى في نادر بقايا ولده وأعطاه العربة ليعمل عليها بعد انتهاء مراسم العزاء فيصلح فيها حاله ويساعد أهل صديقه، وبالفعل أصبح نادر رجلاً مكافحاً يجر عربته ويجلس على “التنكة” ويروي للشباب قصص الأفلام التي رواها له خليل، لكنه سرعان ما سئم من وضعه الجديد وركن العربة المتعبة في البيت ورحل دون أن يخبر أحد عن وجهته، فجلب أبا خليل شاباً آخر ليعمل على العربة. لم يمض وقتٌ طويل حتى ظهر نادر من جديد، فالرصاص على الجبهة حقيقي ونادر تمكن من أن يلعب دوره باتقان، ومن جديد ملأ الشارع بحَجَلات المآتم، وحجلة الشهيد تلك بقيت وحيدة دون أيّة عائلة…



- هامش: “الأيّائل” بالفارسية “كوزن ها“فيلم ايراني شهير أنتج عام ١٩٧٤ للمخرج “مسعود كيميايي” من بطولة الفنانيين “بهروز وثوقي” و “فرامرز قريبيان” ويحكي الفيلم قصة صديقان أحدهما سارق والثاني مدمن يموتان في النهاية بعد محاصرة الشرطة لمنزلهما. أثر “الأيّائل” في المجتمع الايراني آنذاك تاركاً خلفه أحد أفضل الحوارات الخالدة في السينما الايرانية.




- من المجموعة القصصية الإيرانية التي تحمل إسم “آدم ها“، للكاتب الإيراني “أحمد غلامي“، وتنتقل بنا المجموعة لقصة جديدة مرتبطة بفيلم فارسي إسمه “الأيّائل” لازال خالداً في ذاكرة الإيرانيين.
جاده ايران




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى