د. رنه يحيى - فن الشعر وروحيته في قصيدة النثر – نص: جنونك طائر ورقي انموذجا

"الشعر العظيم هو ما يخاطب العواطف الإنسانية الأولية الكامنة في الجنس البشري على الدوام." هذا ما قاله الأديب والناقد "أرنولد بينيت"

ونص (جنونك طائر ورقي) للشاعر حسين خليل الجنابي مرآة لهذا الرأي. فمن العنوان نلتمس أقوى مشاعر الإنسان العاطفية والعقلية في كلمة جنون ، عاقداً بينها وبين أجمل سمات الجنس البشري وهي الحرية بصورة الطائر ليخلق لنا دهشة كبيرة عما سيفصح هذا النص من مشاعر ورؤى. فالعنوان يتكأ على محورين أساسيين يشكلان معاً الملمح البارز في النص الشعري المميز ألا وهما العاطفة والعقل.
والشاعر من بداية نصه يعلن انهزامه على حلبة العشق (فلا رؤية لهوسي) ليكمل ب(لا سهام يطلقها غير القدر) إلى أن يختم ب( ما من مهرب من هذا الحب).
وخلافاً للشعراء فالوحي لم يكن هنا صاحب الفكرة بل كانت السماء ، والأرض وحجر حبيبته. فالنص يحتوي على أشكال متعددة من البوح، وهذا انتزاع مقطعي تسريحي يتوافق مع ما قاله الفنان ليوناردو دافنشي: إن الشعر يتفوق على التصوير في مجال الإيحاء بالكلمات. فالقصيدة تتوقف في إيحاءات الخيال. وقصيدة النثر تكتسب حضورها الشعري حسب الجنابي من بنية الجملة والفقرة. والشاعر في هذا النص يطوع الجملة ويصور لنا ما لا يمكن رؤيته لترجمة مخبوءات النفس الشاعرة ومخبوءات اللغة.
فعلى امتداد النص تحل العين محل الأذن. إذ يقود الشاعر عين القارئ في عملية إنتاج إيقاع النص. فنشهد تحاور إيقاعي على مستوى استخدام الضمائر يتجلى في تداخل الأنا والأنت ( أنا وأنت يهيؤنا موقد واحد-أنا أحترق وأنت تكتبين تفاصيل رحلتنا- أنت دوقة وأنا عتال جنوبي- أنت طليقة وأنا أخشى وضع رأسي خارج القضبان).وبذلك يكون قد أخضع الشكل للمضمون وطوعه وفق انفعاله الداخلي.
كذلك نرى العناصر الإيقاعية في النص متداخلة ومتشابكة لايسهل فصل أحد الأصوات التصويرية والموسيقية والدلالية والتناصية فيها. فقد استطاع أن يغني الأداء الإيقاعي للنص بدلاً أن يختزله في مجال واحد. وهذا ما أكد عليه "فاضل العزاوي" حين قال: زمن القصيدة النثرية يتجلى في تقطيع الجمل وعلاقتها الإيقاعية. فقد عمد الشاعر إلى تشخيص الصور المعنوية في صور شعرية انسجمت لتعطي دلالة فعلية أحدثت جرساً وإيقاعاً صوتياً في لغته الشعرية فقربت المعنى وأظهرته.
أوليس الطاقة التصويرية تعوض عن عنصر الموسيقى في النص؟
فقد استطاع الشاعر بخبرته أن يظهر توليفاً تصويرياً غير مألوف ، يتجلى في تقاطع الصور. فهو يتراسل مع الطبيعة والإنسان والجماد.ليبدع صوراً شعرية تتكامل فيها جهود من مجالات متعددة فيسيولوجية ونفسية وثقافية ولغوية وبصرية. فتماسك النص الشعري يتمثل في الصلة القوية التي تربط بين الشعر بفعاليته النفسية والشعورية وبين الشاعر ممثلاً بالإنسان وعلاقته مع الطبيعة ومع الآخر. وفي النص تشكيل صور لمرحلة ما بعد الحداثة كما ورد عند "الآن جينسبرج". ومن أبرز الصور التي شكلها الشاعرهي( عاشقاً أبيض-جسدك خزفي-صوتك شراعاً- تنهداتك ريحاً- حجرك قارباً- قبلتك مرساة-نبعك حبلاً سرياً-المسافة مركباً من دخان وورق- المطر بلل فرنسي- النهر وريد- الدماء ريق العروق).
أما السمة التي لازمت النص هي سمة هيمنة الأفعال في كفايتها لأغراضها اللغوية وقد زادها عناية ووضوحاً الجانب الصرفي بين الصيغ والمفردات ، إذ الغاية من ذلك هي تلبية احتياجات الموقف اللغوي والتعبير عنه في صياغة لغوية قادرة على تصويرها( نشتعل –ننطفئ-تستنشقنا-تلسع-أحترق- أناضل-يطلق-). وهذه الأفعال دليل على ملكته في صوغ الكلام وتشكيل الدلالات بما يضمن تسلسل العلاقات الأفقية. فقد جاءت الصيغ في دلالة أفعال ذات بناء متعدد. وبما أن الحركية والحيوية ودوام حالة صاحب الفعل والشرح والوصف دلالات زمنية متنوعة يكتسبها من خلال السياقات والقرائن اللغوية الشعرية ،فقد وضع الشاعر الأفعال في موطنها الصحيح لتفيد التجدد وإحداث الحركية.
ولم تقتصر الأفعال على الزمن الحاضر بل عمد الشاعر إلى مخاطبة الحبيبة والمتلقي بكثرة استخدامه لأفعال الأمر، مبيناً ميزة مهمة في كتابة النص الشعري الحديث ألا وهي التوجه للآخر باعتباره عنصراً فعالاً في ترجمة عواطفه ورؤاه .فدعا محبوبته دعوة ملحة لنجدته بمفردات تختزن من القوة وحرارة الشعور والتصميم ملونة بمشاعر متناقضة تتأرجح بين الهدوء والصخب، والرأفة والقوة للوصول إلى الهدف المرجو من فكرته (لا ترتكبي- صلي- أطلقي- أرسمي-أرمي- أطفئي-أهمسي). وهذا ما بينه أيضاً قلقه وتساؤلاته التي جعلت من النص نصاً يعبر عن قلق الإنسان المعاصر وهواجسه ورغبته في كشف المجهول (كيف لجنونك أن يصبح ورقياً؟- أنى لصوتك أن يكون شراعاً؟- من أين لك هذا الصخب الهادئ؟..)
ويكتمل النص الشعري المميز هذا بإدخال الشاعر عنصر ثقافي وتاريخي وأدبي إليه ، وذلك من خلال الإشارة إلى أسطورة "برميثوس " الشهيرةوتوظيفه إياها بإبداع ليصبح النص كنزاً أدبياً ومعرفياً ورؤيوياً كبيراً. والأسطورة نظام متحول من اللغة يستخدم لتدليل قصص الميثولوجيا الغربية وقد كتب عنها كل من أبي القاسم الشابي وغوته ولورد بايرون واندرية جيد وشليغل وكافكا ولاكسمي وغيرهم .ف"برميثوس " ضحى بحياته ليحمي أبناء أثينا ورمى نفسه في أتون النار دلالة على الخلاص والتوق إلى الحقيقة، وقد أعطى الإنسان القدرة على المشي. والشاعر يشير إليه في النص من خلال (يشدنا برميثوس ونطير في قبلة) رغبة في الخلاص هو ومعشوقته خلاصاً مفتاحه العشق .
وكل شاعر في العادة يعبر عن شعره كما تتحدث به نفسه.وقد انعكس ذلك في بروز سمة لغوية وشيوع لافت لاستخدام ضمائر الذات في فردانيتها وفي تفردها مقابل الآخرين. بوصفها ملمحاً مهماً لتجلي الذات المفردة في شعر الحداثة. فضمير المتكلم "أنا" يحيل إلى فعل الخطاب الفردي الذي يحتويه كما يحدد المتكلم فيه ويساهم في بناء السردية. فهو يريد أن يبني نصاً متماسكاً بنفس سردي بفوضاه ويحتمل ان يكون عدة نصوص ( أنا بحر- أنا عتال- أنا سارق-أنا مباري-أنا عاشق). وبه يؤكد حضوره الذاتي ويتلمس إثبات لوجود الذات بالأساس فيعلن نفسه باعتباره ذاتاً روحية ومادية في آن. فبالنسبة له الشعور بالجسد برهاناً على وجود الذات أيضاً . والوجود الحي للجسد ربما يكون طوقاً للنجاة من الاستلاب. وهنا أيضاً يعد نصه نصاً حداثياً لأن كتابة الجسد مقوماً أولياً في تجربة الحداثة.
حسين خليل أجاد الكلام بما أبدعت قريحته شعراً نقياً جمع فيه بين الحب والحزن والنصر والهزيمة والقدر والحرية والماضي والحاضر...فإبداعه تجلى في ابتعاده عن الجاهز المعروف مما جعله شاعراً يتقن خطة فتح الأراضي المستباحة في براري الشعر، من خلال مهارته في الوصول إلى ذائقة المتلقي. فقد التقط الأشياء البسيطة العابرة وعبر عنها تعبيراً فنياً جميلاً يبعث فيها الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى