"في زمن العقوق والانشغال الدائم عنا، ماذا لو قمنا -بما تبقى من قوتنا-بتشييد مدينة لكبار السن، ننزح إليهاً طوعاً؟
فالنزوح المبكر قد يساعدنا كي نعتاد على معالمها.
لنتخير لها موقعاً جميلاً بالقرب من شاطئ النهر، ونبني حولها الأسوار التي تحمينا من الضياع والوحشة والحنين.
نطوقها بالزهور والرياحين، نحتاج بداخلها -مؤقتاً- لقليل من الخدمات الصحية والنفسية، وكثير من الترفيه.
مطعم يسد رمقنا بطعام يناسب أسناننا المتساقطة، مكتبة من كتبنا التي جمعناها في سنوات حياتنا الغضة، دار للعبادة، صالة للرياضة ،صالون للعناية بما ظهر منا، مسرح يتسع لرواياتنا، حديقة صغيرة ومقبرة.
قد نحتاج لاحقا لمتحف ومعرض دائم، يحتوي على صورنا وسيرنا وآثارنا فربما يزوره النادمون يوماً بعد فوات الاوان"
كان هذا جزء من رسالة بعثتها إلى صديقتي قبل عودتي لارض الوطن.
مدينة متكاملة للمسنين، شغلت تفكيري بالكامل، تسودها روح المحبة والتعاون وقيم الإنسانية، بها مكان لكل الأجناس والأصوات والابتسامات،و الوجوه المتعبة،لا مكان فيها أبداً للأرواح المهزومة.
فكرت في التواصل مع جهات تهتم لأمر المسنين ، مجتمعية كانت أو حكومية لا فرق عندي، فعدت للوطن لأجد الدعم والمشورة فالأمر جد خطير.
ظل التغير الذي طرأ في علاقتي بالإبن الوحيد الذي كان ثمرة لزواجي السعيد، الذي انتهت قصته بوفاة والده في حادث اليم يقلقني، فقد أصيبت علاقتنا بدرجة من الجفاء لا علم لي باسبابه، لكنها لم تصل بعد لمرحلة القطيعة.
قطيعة بين أم ووحيدها؟ كيف يمكنني تخيل الأمر؟
إسمي أنيسة، وأنا أرملة على مشارف العقد السادس، تركت عملي في ذلك المصرف الذي التقيت فيه بزوجي بناء على طلبه، فقد كان - رحمه الله- يعد من كبار رجال الأعمال في البلاد، وتفرغت تماماً للبيت ورعاية الطفل الوحيد الذي انتهت بخروجه -المتعسر- للحياة، جميع فرصي في الحصول على طفل آخر والحمد لله.
رضينا بإرادة الله وفرحنا به، وسارت حياتنا كأجمل ما يكون. انتقلنا للعيش في دولة مجاورة بعد أن اتسعت أعمال زوجي وآماله في تحقيق ما لا يمكنه تحقيقه بسرعة على أرض الوطن.
فانصب اهتمامي كله على تعليم ابننا الصغير، وتسليحه بما يفيد من علوم ولغات.
تفوق الإبن ونبغ والتحق بجامعة عالمية شهيرة، ثم عاد بعد تخرجه وانخرط في مساعدة والده في عمله الذي اتسع، حتى أسس شركة كبرى، لها مكاتب ووكلاء في عدة دول.
كنت أقضي أغلب أوقاتي وحيدة، فالوالد وولده منشغلان عني تماماً بالعمل.
فاقترحت على ولدي في جلسة صفاء ان يتزوج، فاحصل بزواجه عل رفيقة لطيفة، تشاركني بعض وقتي وتهب الأسرة عدد من الاطفال، فالمنزل واسع وهادئ وموحش.
وفوجئت بإجابة لم اتوقعها منه أبداً، عندما قال إنه على علاقة بفتاة منذ أيام الجامعة وسوف يتزوجا قريباً.
هكذا وبكل بساطة، وكأن الاسرة لا شأن لها بمن هي ومن تكون. قال قوله هذا وقرر وحده، فصمتت ولم أعد أتحدث كثيراً منذ ذلك الوقت.
عاد زوجي من إحدى سفرياته، فرويت له باختصار ما دار بيني وبين ابننا من حديث غريب، فوعدني بمناقشته في الأمر ولم يفعل، حتى فوجئت بإبني وقد احضر الفتاة ليريها منزلنا.
حيتني ببرود وهي تمسك ذراعه دون حياء او خجل، وصعدا معاً في جولة حول ارجاء المنزل الكبير.
لم أغادر مقعدي، لكن صوت الفتاة كان يأتيني بنبرات واضحة وجلية، وهي تعلق على نمط الأثاث القديم، وتصف ديكور المنزل بالكئيب.
لم تترك زاوية دون ان تنتقد ما فيها، وبعد مدة من الزمن، علمت أنها لا ترغب في الحياة معنا في بيت واحد، وأن ولدي بصدد شراء (ڤيلا) في مدينة أخرى ليعيشا فيها معاً بعد الزواج.
بدأ التنميل يسري بأطرافي، ويزداد التسارع في نبضات قلبي، وينتابني صداع لا اعرف مكانه - تحديداً -في رأسي.
نصحني الطبيب بالراحة التامة والبعد عن التوتر بقدر الإمكان.
ففضلت الانعزال بغرفتي، واتجهت للعبادة والصلاة، وصرت لا ارى زوجي وولدي كثيراً، وحتى وجبات طعامي اصبحت اتناولها في وحدي.
حملتني أقدامي بتثاقل وتكاسل لحضور زفاف ابني الوحيد، ووقفت بجوار زوجي نستقبل الضيوف ونودعهم، وتعلمت في تلك الليلة ان السعادة دور تسهل تاديته ولو دون قناعة.
عاد العروسان من جولتها بعد اربعة أشهر، توفي خلالها زوجي أثر حادث سير لم يمهل عمره طويلاً.
لم يترك ولدي عنواناً فبعثت له رسالة على هاتفه المحمول، أخبرته فيها بوفاة والده ،ولا علم لي في اي وقت قرأها.
تمنيت أن أحتضنه طويلاً وأبكي عند عودته، لكنه اكتفى بوضع يده على كتفي قائلاً
إنها سنة الحياة).
بقي معي هو وزوجته لعدة أيام ثم غادرا لمنزلهما،وعاد بعد فترة برفقة المحامي للتحدث في أمر التركة، عرف كل منا نصيبه، فطلب مني ان ابيعه حصتي في الشركة فوافقت.
سارت جميع الإجراءات بسلاسة، وعاش كل مناً في منزله، كان يزورني مرة كل أسبوع، ويرسل بعض التحايا على الوسائط.
بعثت له قبل اسبوع برسالة أعلمه بسفري للوطن، فوصلني رده (بالسلامة) وانا على ارض بلادي وتحت شمسها.
زرت صديقتي ومن تبقى من اقاربي، ثم ذهبت للبحث عن ارض مناسبة ومؤقتة، تصلح ان تكون داراً للمسنين، ريثما اتمكن من عرض فكرة المدينة على من قد يهمهم الأمر.
ولحسن الحظ، اقترح علي أحد الوسطاء هذا المنزل الذي اقيم فيه حالياً، وهو يقع في منتصف المسافة بين شاطيء النهر والمقبرة.
وضعت عليه لافتة مضيئة، كتب عليها بخط جميل (دار أنيسة) مشروع مدينة المسنين.
توافد عليها عدد مقدر من الذين اختاروا الفرار طوعاً من عوالم (المن) والإذلال الإبنوي.
كان لدينا في تلك الدار ليل طويل للسمر، ونهار يكفينا لنتعرف على بعضنا، ونهب ما بوسعنا لبعضنا البعض، ونتلقى الكثير من رسائل الداعمين الذين صاروا اهلنا حقاً.
تسير خطة بناء المدينة على نحو لا يرضيني، لكنني ورفاقي سعداء بمجتمع الدار ووحدة المصير، لا شيء أمتع من يد مرتعشة تحنو على أخرى لأخر لحظة من لحظات الحياة.
أنستنا إلفتنا (بدار انيسة) ، كل أشباح الإهمال ومرارت التعلق باعزاء منشغلون لن ياتوا للبحث عنا في الغد ابدا.
فالنزوح المبكر قد يساعدنا كي نعتاد على معالمها.
لنتخير لها موقعاً جميلاً بالقرب من شاطئ النهر، ونبني حولها الأسوار التي تحمينا من الضياع والوحشة والحنين.
نطوقها بالزهور والرياحين، نحتاج بداخلها -مؤقتاً- لقليل من الخدمات الصحية والنفسية، وكثير من الترفيه.
مطعم يسد رمقنا بطعام يناسب أسناننا المتساقطة، مكتبة من كتبنا التي جمعناها في سنوات حياتنا الغضة، دار للعبادة، صالة للرياضة ،صالون للعناية بما ظهر منا، مسرح يتسع لرواياتنا، حديقة صغيرة ومقبرة.
قد نحتاج لاحقا لمتحف ومعرض دائم، يحتوي على صورنا وسيرنا وآثارنا فربما يزوره النادمون يوماً بعد فوات الاوان"
كان هذا جزء من رسالة بعثتها إلى صديقتي قبل عودتي لارض الوطن.
مدينة متكاملة للمسنين، شغلت تفكيري بالكامل، تسودها روح المحبة والتعاون وقيم الإنسانية، بها مكان لكل الأجناس والأصوات والابتسامات،و الوجوه المتعبة،لا مكان فيها أبداً للأرواح المهزومة.
فكرت في التواصل مع جهات تهتم لأمر المسنين ، مجتمعية كانت أو حكومية لا فرق عندي، فعدت للوطن لأجد الدعم والمشورة فالأمر جد خطير.
ظل التغير الذي طرأ في علاقتي بالإبن الوحيد الذي كان ثمرة لزواجي السعيد، الذي انتهت قصته بوفاة والده في حادث اليم يقلقني، فقد أصيبت علاقتنا بدرجة من الجفاء لا علم لي باسبابه، لكنها لم تصل بعد لمرحلة القطيعة.
قطيعة بين أم ووحيدها؟ كيف يمكنني تخيل الأمر؟
إسمي أنيسة، وأنا أرملة على مشارف العقد السادس، تركت عملي في ذلك المصرف الذي التقيت فيه بزوجي بناء على طلبه، فقد كان - رحمه الله- يعد من كبار رجال الأعمال في البلاد، وتفرغت تماماً للبيت ورعاية الطفل الوحيد الذي انتهت بخروجه -المتعسر- للحياة، جميع فرصي في الحصول على طفل آخر والحمد لله.
رضينا بإرادة الله وفرحنا به، وسارت حياتنا كأجمل ما يكون. انتقلنا للعيش في دولة مجاورة بعد أن اتسعت أعمال زوجي وآماله في تحقيق ما لا يمكنه تحقيقه بسرعة على أرض الوطن.
فانصب اهتمامي كله على تعليم ابننا الصغير، وتسليحه بما يفيد من علوم ولغات.
تفوق الإبن ونبغ والتحق بجامعة عالمية شهيرة، ثم عاد بعد تخرجه وانخرط في مساعدة والده في عمله الذي اتسع، حتى أسس شركة كبرى، لها مكاتب ووكلاء في عدة دول.
كنت أقضي أغلب أوقاتي وحيدة، فالوالد وولده منشغلان عني تماماً بالعمل.
فاقترحت على ولدي في جلسة صفاء ان يتزوج، فاحصل بزواجه عل رفيقة لطيفة، تشاركني بعض وقتي وتهب الأسرة عدد من الاطفال، فالمنزل واسع وهادئ وموحش.
وفوجئت بإجابة لم اتوقعها منه أبداً، عندما قال إنه على علاقة بفتاة منذ أيام الجامعة وسوف يتزوجا قريباً.
هكذا وبكل بساطة، وكأن الاسرة لا شأن لها بمن هي ومن تكون. قال قوله هذا وقرر وحده، فصمتت ولم أعد أتحدث كثيراً منذ ذلك الوقت.
عاد زوجي من إحدى سفرياته، فرويت له باختصار ما دار بيني وبين ابننا من حديث غريب، فوعدني بمناقشته في الأمر ولم يفعل، حتى فوجئت بإبني وقد احضر الفتاة ليريها منزلنا.
حيتني ببرود وهي تمسك ذراعه دون حياء او خجل، وصعدا معاً في جولة حول ارجاء المنزل الكبير.
لم أغادر مقعدي، لكن صوت الفتاة كان يأتيني بنبرات واضحة وجلية، وهي تعلق على نمط الأثاث القديم، وتصف ديكور المنزل بالكئيب.
لم تترك زاوية دون ان تنتقد ما فيها، وبعد مدة من الزمن، علمت أنها لا ترغب في الحياة معنا في بيت واحد، وأن ولدي بصدد شراء (ڤيلا) في مدينة أخرى ليعيشا فيها معاً بعد الزواج.
بدأ التنميل يسري بأطرافي، ويزداد التسارع في نبضات قلبي، وينتابني صداع لا اعرف مكانه - تحديداً -في رأسي.
نصحني الطبيب بالراحة التامة والبعد عن التوتر بقدر الإمكان.
ففضلت الانعزال بغرفتي، واتجهت للعبادة والصلاة، وصرت لا ارى زوجي وولدي كثيراً، وحتى وجبات طعامي اصبحت اتناولها في وحدي.
حملتني أقدامي بتثاقل وتكاسل لحضور زفاف ابني الوحيد، ووقفت بجوار زوجي نستقبل الضيوف ونودعهم، وتعلمت في تلك الليلة ان السعادة دور تسهل تاديته ولو دون قناعة.
عاد العروسان من جولتها بعد اربعة أشهر، توفي خلالها زوجي أثر حادث سير لم يمهل عمره طويلاً.
لم يترك ولدي عنواناً فبعثت له رسالة على هاتفه المحمول، أخبرته فيها بوفاة والده ،ولا علم لي في اي وقت قرأها.
تمنيت أن أحتضنه طويلاً وأبكي عند عودته، لكنه اكتفى بوضع يده على كتفي قائلاً
بقي معي هو وزوجته لعدة أيام ثم غادرا لمنزلهما،وعاد بعد فترة برفقة المحامي للتحدث في أمر التركة، عرف كل منا نصيبه، فطلب مني ان ابيعه حصتي في الشركة فوافقت.
سارت جميع الإجراءات بسلاسة، وعاش كل مناً في منزله، كان يزورني مرة كل أسبوع، ويرسل بعض التحايا على الوسائط.
بعثت له قبل اسبوع برسالة أعلمه بسفري للوطن، فوصلني رده (بالسلامة) وانا على ارض بلادي وتحت شمسها.
زرت صديقتي ومن تبقى من اقاربي، ثم ذهبت للبحث عن ارض مناسبة ومؤقتة، تصلح ان تكون داراً للمسنين، ريثما اتمكن من عرض فكرة المدينة على من قد يهمهم الأمر.
ولحسن الحظ، اقترح علي أحد الوسطاء هذا المنزل الذي اقيم فيه حالياً، وهو يقع في منتصف المسافة بين شاطيء النهر والمقبرة.
وضعت عليه لافتة مضيئة، كتب عليها بخط جميل (دار أنيسة) مشروع مدينة المسنين.
توافد عليها عدد مقدر من الذين اختاروا الفرار طوعاً من عوالم (المن) والإذلال الإبنوي.
كان لدينا في تلك الدار ليل طويل للسمر، ونهار يكفينا لنتعرف على بعضنا، ونهب ما بوسعنا لبعضنا البعض، ونتلقى الكثير من رسائل الداعمين الذين صاروا اهلنا حقاً.
تسير خطة بناء المدينة على نحو لا يرضيني، لكنني ورفاقي سعداء بمجتمع الدار ووحدة المصير، لا شيء أمتع من يد مرتعشة تحنو على أخرى لأخر لحظة من لحظات الحياة.
أنستنا إلفتنا (بدار انيسة) ، كل أشباح الإهمال ومرارت التعلق باعزاء منشغلون لن ياتوا للبحث عنا في الغد ابدا.