إيمان فجر السيد - رؤية إنطباعية لنص القصة القصيرة جداً "دجَّال" للأستاذ نظام صلاح:

نظام صلاح
"دجَّال"

(تسربلتُ رداءَ الليلِ متخفّيًا عنهم، وجدتهم أمامي على معبرِ الذلِّ.. يقضمونَ زُبرَ الحديد، فقأتُ عيني، وقدتُ الفتنة.)

نلاحظ أن هذا النص تناصٌ قرآنيٌّ لسورة الكهف متمثّلاً بالآيات الكريمة :
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا*
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا*فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}
**
رؤيتي الإنطباعية:
دجّال/عتبة النص ومدلوله وقلنسوة سلطته.
هذه السلطة تمارس إكراهاً أدبياً للنص يؤهلنا للدخول به والكشف عنه ،ومعرفة أبعاده الدلالية والرمزية؛ للوصول إلى جادة قصديته وتركيبته.
الدَّجل: هو الخلط والتلبيس، يقال دَجَلَ إذا لبّس ومَوَّهَ، والدجال المُمَوِّه الكذاب، الذي يُكثِر من الكذب والتلبيس .
ولفظة الدجال أصبحت عَلَمَاً للمسيح الأعور الكذاب
سمي الدجال دجّالاً : لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتدليسه عليهم.
تسربلتُ رداء الليل متخفيَّاً عنهم/ التّقدمة هنا أتت لتعريف بزمان النص ويعتبر عنصر الزمان من خصائص البناء السردي للققج وقد نجح الكاتب في توظيفه كدلالةٍ أولى للدجل -الليل- وهل أشدّ سوداً من عباءة الليل لإخفاء الحقائق وطمس معالمها وحياكة الفتن وافتعال المؤمرات؟
وجدتهم أمامي ينتظرون على معبر الذل/ نقلة نوعية من سقف الزمان إلى حيز المكان ليضعنا في مشهدية مكانية وبشرية تصوّر طابوراً بشرياً يقف على معبر الذل وكيف لا يكون الوقوف على معابر الوطن ذلاً والوطن دوننا والأسر والقهر نغمّسه في قصعة طعامنا ونتجرّعه في كؤوس شرابنا!!
ولكن ماذا ينتظر أولئك الواقفون قبل أن ينسلخ الفجر عن إيهاب الليل؟؟
وإلى أين سيعبرون؟
وجدتهم أمامي يقضمون زبر الحديد / وكأن أولئك المعلَّقيين على مشانق الصباح قد تراكموا أكواماً لا أقواماً، وقد نزغ بينهم الشيطان فحال دون تمكّنهم من عبور ما كّناه السارد -وهوبطل النص- بمعبر الذل وكأنَّ لهذا المعبر له مع السارد الكثير من الوجع ولعله شاهدٌ على ويلات تجترها النفوس انتظاراً وهي واقفةٌ على عتباته وهي تزدرد قذارة من ولّوا عليها وكأن المنتظريين حُمرٌ فرَّت من قسورة إن ابتسم لهم الحظ وسنحت لهم الفرصة بالعبور ليعبروا فوق جثث بعضهم البعض وقد غشي البصر ما غشيه من أنانيةٍ و قصورٍ في الخُلق وضعف في الدين والإيمان.
تحضرني الآية الكريمة من سورة الكهف
{{آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قالوا انفخوا حتى إذا جعله ناراً قالوا آتوني أُفرغ عليه قطرا}} 96 الكهف
تناصٌّ شيِّقٌ من آي الذكر الحكيم
زُبر الحديد جمع زبرة والزبرة القطعة من الحديد يؤتى بها مع الحطب ويوضع الحطب والفحم فوق الحديد ويوقد فيهما النار بل يؤجُّجها كلٌّ من (ياجوج وماموج ) كلما خمدت نفخوا فيها لتزداد اتقاداً ويظلون على الحالة هذه حتى يلتحم الجبلين مع بعضهما بفعل انصهار الحديد المسال ويصبح كالنحاس المذاب بل كالفولاذ وما من قدرة بشرية ولا حتى أسطورية تقوى على اختراق تلك السكيبة المنيعة التي تشكلت من انصهار المعادن
(فما اسطاعوا أن يظهروه ) أي ياجوج و ماجوج أن يظهروه أي أن يعلوا ظهره لا رتفاعه وملاسته (وما استطاعوا له نقبا) أي خرق صلابته لشدة سماكته ولا ثقبه من أسفله لبعد عرضه وقوته.
ثم نأتي إلى جملة الخاتمة وهي اعترافٌ خطيرٌ يباغتنا به الكاتب بشكلٍ مباشرٍ وصريحٍ
فقأت عيني وقُدْتُ الفتنة/ وهنا نعود إلى العنونة لنشابكها مع هذه القفلة الفاجعة!
علامات الأعور الدجال أنه بعينٍ واحدةٍ هل أراد بطل النص أن يتقمص دور الأعور الدجال بإثارة فتنة تمكنه من عبور نقطةٍ ما إلى نقطةٍ أخرى بعدما استحال العبور بسبب أكوامٍ بشريةٍ ضارية راحت تنهش بعضها متسابقةٍ للعبور إلى ضفةٍ أخرى لامتهان وجع جسديٍّ أكبر يفوق امتهان الكرامة، ولعمري هو أشدُّ مرارةً وأعظم نكالاً لو يعلم أولئك المتنازعون! وقد شبه الكاتب الفئتين المتناحرتين على دخول المعبر كالجبلين اللذين نفخ فيهما ياجوج وماجوج ناراً حتى التحما فاستحال اختراقهما!
هل سوّلت له نفسه إثارة فتنة كي يستطيع نقب السد المنيع الذي أشادوه من نزاعاتهم فاستحال معه عبور نقطة المعبر للوجهة التي يقصدها ليقضي منها وطرا!
هل يستسلم لنزاعاتهم؟ ويعود أدراجه بخُفيّ حنين وقد فشل في العبور لتأمين عمل يسدّ رمق عائلة تنتظر عودته بما يصلب عودهم فلا ينامون على الطوى من ليلتها!
على ما يبدو أن بطل النص هنا آثر أن يثير فتنة ببن الفئتين المتناحرتَين على المعبر تمكنّه من خوض المعركة ليكسب حرباً على الشظف وانتصاراً على الذئاب بهمة سبع!
جملة وقدتُ الفتنة / تنحر كل فضيلة حاول البطل التمسك بها حتى نالت من رمقه فآثر الفتنة على رحمة من لم يرحموا بعضهم بعضاً
تناص قرآني أبكاني والله أمام هذه النفس البشرية الممتهنة في ظل عالم ضارٍ يجتر بؤسنا ونقتات خيباته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى