يجلس العمدة على كنبته، ومن خلفه تلمع فوهات البنادق، في غرفة "السلاحليك"، الملاصقة لدوار جنابه، مكفهر السحنة جاحظ العينين.
يجلس بين يديه شيخ الخفر، لمح في عينيه قلقًا استفز دهشته، قليل الكلام على غير عادته، فيما لا يكف شيخ الخفر عن الرغى والثرثرة.
ـــ سلامة جنابك يا عمدة! سأله وهو ينفخ عود غاب الجوزة، ويرص بالماشة، قطع الفحم المشتعل فوق المعسل.
أزاح بيده اليسرى، طاقيته قليلاً عن مقدمة رأسه، تنهد بحرارة، وقد شرد بصره وامتقع لونه، وأحس شيخ الخفر بزفيره، الذي كاد يحرق بناره، شاربه المفتول من جانبيه، مثل قرون البقر.
ليلتها رأى العمدة في منامه، وكأن جدران الدوار قد تصدعت، تخرج من بين شقوقها الحمير وهي تحمل أمتعته وعباءته الفاخرة التي يستقبل بها الباشا المأمور، والمواشي تفر من زريبة الدوار مذعورة، وضروع أبقاره الممتلئة تحلبها نساء "عارف أفندي" الذي أمر بإلقاء جسده المعتل حيًا في براد جثث الموتى.
ــــ لا دخان بدون نار جنابك، الولد "أبو دياب" داير في الكفر، يقول إنه شاهد البيه المأمور يهبط درج المركز متأبطًا بذراع "عارف أفندي"، تميل الرأسان إلى بعضهما ليهمسان ثم تبتعدان ويضحكان.. وعندما هم بفتح باب السيارة التي تقله إلى الكفر، شمخ رأسه، فحياه الباشا منتشيًا:
ـــ شرفتنا يا عمدة.
وجم وجهه واندلعت عيناه وتطاير منها الشرر وغمغم بكلام وقد علا الزبد شدقيه:
فهم شيخ الخفر أن النتف التي بقيت من ضميره، والتي تتردد بين سباتها العميق ويقظتها القصيرة، وتتلذذ باتباع شهوات العمدة معصومة العينين، سيعلقها شيطانه، الذي يخفيه داخل ظلمات قفصه الصدري، على أعواد المشانق.
ـــ طلبك عندي! "كلاف" هارب من الثأر، يقضى نهاره في خدمة المواشي ونقل روثها إلى الغيطان، وينام تحت حوافرها بالليل. شقوق كعبيه تأوي إليها الجرذان، التصق جلده بعظامه من الجوع.. والجوع كافر جنابك!
ـــ "أئتوني به أستخلصه لنفسي"!
جمع كل أمتعته الرثة في صرة ملاية مهترئة، أخفت ملامحها عشرات الرقع، كان يتدثر بها لتقيه من قسوة الليالي الشاتية، ألقى بها على جسر الرشاح، وقفل عائدًا ليقف تحت نعلي شيخ الخفر.
ـــ سمعًا وطاعة يا سيد الناس
اصطحبه إلى امرأة غجرية، تسكن في كوخ من الخوص على أطراف الكفر، ألقى في حجرها شيئًا، نهضت بعدها. انحنت برأسها إليه. التقطت يديه تقبلها بهوس، حتى نهرها متجهمًا وأمرها بالاعتدال لتسمعه جيدًا.
طلبت منه أن يمهلها شهرًا، ثم يستلمه منها، كائنًا آخر مستوفيًا لشروط مهمته الجديدة.
ذات مساء، وجد الناس "الكلاف" يرتدي جلبابًا وطرطورًا، وصنعوا له دمية من الخشب، رأسها صورة "عارف أفندي" مكسوة بفستان نسائي من قماش أحمر اللون مطرز باللون الأصفر وعلى رأسه طرطور من القماش. يتحكم "الكلاف" في رأس الدمية بإصبع السبابة، ويحرك يديها بإصبعي الوسطى والإبهام، ودربته الغجرية على تغيير صوته ليجسد صوت العمدة وهو يأمر "عارف أفندي" بتقبيل نعلي جنابه فيقبلها، ويمتطي ظهره وهو يغني متهكمًا:
ـ "شى يا حمارى يا مريحنى طول مشواري"
بمضي الليالي، انصرف نصف الناس عن "الكلاف"، وفقد النصف الآخر شهيته للضحك.. فالقرويون يؤذيهم سوء الخُلق..والسيئ منهم يُلفظُ مثل القذى في العين.
نزل ضابط الدورية من على صهوة فرسه مترجلا، تسلل في الظلام بين الحشود القليلة، سمع ورأي.
في الصباح شهد الناس "عارف أفندي"، يشق الكفر بموكب عظيم، مستقبلا داره، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هانئة، محاطا بمشاة حرس الشرف وفرق الخيالة تتبعهم عربة على متنها غرفة السلاحليك.
يجلس بين يديه شيخ الخفر، لمح في عينيه قلقًا استفز دهشته، قليل الكلام على غير عادته، فيما لا يكف شيخ الخفر عن الرغى والثرثرة.
ـــ سلامة جنابك يا عمدة! سأله وهو ينفخ عود غاب الجوزة، ويرص بالماشة، قطع الفحم المشتعل فوق المعسل.
أزاح بيده اليسرى، طاقيته قليلاً عن مقدمة رأسه، تنهد بحرارة، وقد شرد بصره وامتقع لونه، وأحس شيخ الخفر بزفيره، الذي كاد يحرق بناره، شاربه المفتول من جانبيه، مثل قرون البقر.
ليلتها رأى العمدة في منامه، وكأن جدران الدوار قد تصدعت، تخرج من بين شقوقها الحمير وهي تحمل أمتعته وعباءته الفاخرة التي يستقبل بها الباشا المأمور، والمواشي تفر من زريبة الدوار مذعورة، وضروع أبقاره الممتلئة تحلبها نساء "عارف أفندي" الذي أمر بإلقاء جسده المعتل حيًا في براد جثث الموتى.
ــــ لا دخان بدون نار جنابك، الولد "أبو دياب" داير في الكفر، يقول إنه شاهد البيه المأمور يهبط درج المركز متأبطًا بذراع "عارف أفندي"، تميل الرأسان إلى بعضهما ليهمسان ثم تبتعدان ويضحكان.. وعندما هم بفتح باب السيارة التي تقله إلى الكفر، شمخ رأسه، فحياه الباشا منتشيًا:
ـــ شرفتنا يا عمدة.
وجم وجهه واندلعت عيناه وتطاير منها الشرر وغمغم بكلام وقد علا الزبد شدقيه:
فهم شيخ الخفر أن النتف التي بقيت من ضميره، والتي تتردد بين سباتها العميق ويقظتها القصيرة، وتتلذذ باتباع شهوات العمدة معصومة العينين، سيعلقها شيطانه، الذي يخفيه داخل ظلمات قفصه الصدري، على أعواد المشانق.
ـــ طلبك عندي! "كلاف" هارب من الثأر، يقضى نهاره في خدمة المواشي ونقل روثها إلى الغيطان، وينام تحت حوافرها بالليل. شقوق كعبيه تأوي إليها الجرذان، التصق جلده بعظامه من الجوع.. والجوع كافر جنابك!
ـــ "أئتوني به أستخلصه لنفسي"!
جمع كل أمتعته الرثة في صرة ملاية مهترئة، أخفت ملامحها عشرات الرقع، كان يتدثر بها لتقيه من قسوة الليالي الشاتية، ألقى بها على جسر الرشاح، وقفل عائدًا ليقف تحت نعلي شيخ الخفر.
ـــ سمعًا وطاعة يا سيد الناس
اصطحبه إلى امرأة غجرية، تسكن في كوخ من الخوص على أطراف الكفر، ألقى في حجرها شيئًا، نهضت بعدها. انحنت برأسها إليه. التقطت يديه تقبلها بهوس، حتى نهرها متجهمًا وأمرها بالاعتدال لتسمعه جيدًا.
طلبت منه أن يمهلها شهرًا، ثم يستلمه منها، كائنًا آخر مستوفيًا لشروط مهمته الجديدة.
ذات مساء، وجد الناس "الكلاف" يرتدي جلبابًا وطرطورًا، وصنعوا له دمية من الخشب، رأسها صورة "عارف أفندي" مكسوة بفستان نسائي من قماش أحمر اللون مطرز باللون الأصفر وعلى رأسه طرطور من القماش. يتحكم "الكلاف" في رأس الدمية بإصبع السبابة، ويحرك يديها بإصبعي الوسطى والإبهام، ودربته الغجرية على تغيير صوته ليجسد صوت العمدة وهو يأمر "عارف أفندي" بتقبيل نعلي جنابه فيقبلها، ويمتطي ظهره وهو يغني متهكمًا:
ـ "شى يا حمارى يا مريحنى طول مشواري"
بمضي الليالي، انصرف نصف الناس عن "الكلاف"، وفقد النصف الآخر شهيته للضحك.. فالقرويون يؤذيهم سوء الخُلق..والسيئ منهم يُلفظُ مثل القذى في العين.
نزل ضابط الدورية من على صهوة فرسه مترجلا، تسلل في الظلام بين الحشود القليلة، سمع ورأي.
في الصباح شهد الناس "عارف أفندي"، يشق الكفر بموكب عظيم، مستقبلا داره، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هانئة، محاطا بمشاة حرس الشرف وفرق الخيالة تتبعهم عربة على متنها غرفة السلاحليك.