الدكتور: صلاح الدين أبوبكر هداد - قراءة نقدية تحليلية لراوية دائرة الأبالسة للكاتب السوداني محمد الخير حامد

المقدمة:

اضاءات حول الكاتب :
الاسم: محمد الخير حامد


وباحث في الشؤون الفكرية والسياسية وشاعر وإعلامي سوداني، تخرج في جامعة الخرطوم ،باحث مجتهد في مجال السياسة والعلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، نشر إسهامات بحثية في مجال تخصصه، ومشاركات ثقافية، وقدَّم عدداً من الأعمال الإبداعية والأوراق البحثية والعلمية بمؤتمرات دولية

والعمل الذي بين أيدينا (دائرة الابالسة )هو الراوية الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي الدورة السابعة عشرة 2019م ، عدد الصفحات 192، الطبعة الأولى 2021م، واستطرادا حري بنا أن نتناول واقع الراوية السودانية من خلال تساؤل مشروع ،هل توقف تدفق العمل الإبداعي بعد رحيل شيخ الرواية السودانية الطيب صالح ؟ الإجابة ليست بالمطلق ولكن نسبيا نفرد اجنحة الامل والفرح بأن هناك اشراقات دفعت باعمال تتسم بالنضج والعمق الى سوح التلقي مما يعطي مؤشر أن الابداع لن يتجمد عند محطة ما ،وفي ذات الوقت يبشر بأن المستقبل سيكون افضل بمزيد من التجريب و التجويد .

التصـدير:

يقول (جيرار جينيت) أن التصدير ، هو تركيب لغوي يقوم على الاقتباس أو الاستشهاد بنص من ثقافة معينه، أو مصاغ صياغة تتكئ على معطى من معطيات تلك الثقافة. والتصدير يتموضع عامة على رأس الكتاب، أو في جزء منه، ويكون غالبا حكمة، أو شعرا أو قولا مأثورا من الحضارات الأخرى أو من الأقوال الدينية والكتب السماوية أو من أقوال العظماء، يتوسل الكاتب بها لمقولاتها وتعلقها بالنص الروائي. فهو بالتالي عتبة استباقية دلالية لهوية النص اويكون التصدير ذاتيا، يلجأ فيه الأديب إلى تصديرات من أدبه، أو تصديرات لغيره يتلمس فيها ما يخدم نصه، وتعين القارئ على تكثيف مقولات النص ،و ورفده بعافية الكشف وفك الشفرات ،والاستبصار للمتلقي والناقد .

حيث استهل الكاتب روايته باقتباس رائع وبكلمات مفعمة بالعمق والدلالات من حدائق العملاق الفيتوري ، يصدر الكاتب المبدع روايته بواحدة من درر الفيتوري الشاعر السوداني المتجاوز،حيث يفتتح الراوية بأبيات غاية في الجمال و الثراء :

دنيا لا يملكها من يملكها
اغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر ؛من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظن الأشياء...هي الأشياء

بهذا التصدير الماتع قدم الكاتب لمنتجه الرائع الموسوم ب(دائرة الأبالسة) ،ولعل في حضرة شاعرية المرهف الراحل محمد مفتاح الفيتوري نتنسم عبق الحكمة والذوق والنفس الصوفي المعتق ،وكأنما يريد الكاتب بذلك ان يأخذنا الى دنياوات عامرة بالزهد والاحتفاء بالجمال ،وانتزاعنا ع من وهاد الغفلة الى سوح الاستبصار وربما في الاهداء يشير لفضيلة تكاد مندثرة وهي حفظ الود والمعروف والفضل للأخرين في زمن اصبح الجحود قاعدة ، وقد وفق الكاتب في عكس صورة واقعية كاشفة خدمة للنص والعناية ببنائه الفني المرتبط بتفاصيل الحدث.

اللوحة : لوحة الغلاف

يتزين الغلاف بلوحة عالمية للفنان العالمي بيكاسو والتي تعد من روائع المدرسة التكعيبية التعبيرية التي تميل الى التجريد والفلسفة وتجسيد الجمال في خطوط هندسية ومكعبات ، ولفرط الدهشة حاصرتني الحيرة في تفكيك تفاصيل ومكونات اللوحة ،الا ان اختيار الكاتب لذات اللوحة اثار في نفسي حنين جارف وتوق فياض ورغبة مؤكدة لقراءة مضمونها ،وأقول بتواضع انها تحكي عن الحياة بكل تناقضاتها وتناسخها وما تحتويه من متناقضات وثنائيات تدس رسائل للتخلص من ذل العادي والرتيب ورغائب الشيطان ، فهل ثمة علاقة ما بين لوحة الغلاف وبين وقائع الراوية، لاسيما من خلال قراءتي المتواضعة حيث نشاهد ذراعا ممتدة ‘إلى أعلى ،وعلى الأفق حلقة بيضاء تفسق عنها وردة كأنما في ذلك رمزية للنماء والخضرة والخصوبة بينما على الخلفية مجموعة من البشر عراة كما ولدتهم أمهاتهم ولعل في ذلك رمزية عميقة للبراءة الأولى والفطرة السوية ثم أتصور من بعد ذلك تصادهم شراك الابالسة فيتحول الى الكون الى صراعات عبثية لا أخلاقية ،وبرغم ما سقته من انطباع وما نقدح في ذهني ازعم ان الإجابة قد لا تتيسر الان بل يمكنا القول هي مفتاح لفهم وادراك لواعج الكون وصراعاته بين الخير والشر والاستمرار رغم الوعثاء والكدر.

حول العنوان : في عتبة العنوان :

دائرة الابالسة ...الدائرة شكل هندسي مغلق مما يشئ بالفخ المحكم الذي تنصبه الأبالسة ، أَبالِسَة (اسم) الجمع : أَبَالِيسُ ، أَبَالِسَةٌ ،و اِبِليس : عَلَم للشيطان، كبير الشياطين ورأسهم، روح مجسّدة للشرّ وهو عدوّ لله تعالى... وهو مهمته في الكون اغواء واضلال الانسان ..ومن يقع في حبائله يشق عليه الفكاك والنجاة منه ، فهو ابليس وقسمه التاريخي في اضلال البشر ،والعزة بالإثم والكبر والاستعلاء ،فكان ميلاد كل الشرور في الكون من ابليس والابالسة لإل يمكن لنا ان نعزو الإخفاقات والتصدعات وخطابات الكراهية والاستعلاء العرقي والاستبداد السياسي الى السقوط المريع في دائرة الشر

في النص:

يبتدر السارد في بداية الراوية مساره بضمير الغائب ،وبالطبع السارد ليس هو الكاتب ،وبالتمعن في أسلوب الخطاب، الذي جاء به السرد في هذا النص، من إيجاد ضمائر تدل على شخصية ما، تختلف بصيغتها عن الضمير المتكلم، منها ما جاء بصيغة الخطاب أو المخاطب، وأخرى بصيغة الغائب؛ "هي، هو". وهي الضمائر المعنية في هذا القسم. إن السرد بضمير الغائب يعتبر سيد السردية وأكثرها تداولا بين السراد، وأيسرها استقبالا لدى المتلقين، وأسهلها للفهم ، فهو وسيلة ملائمة وآمنة وصالحة ليتوارى وراءه الكاتب لكي يتسنى له تمرير أفكاره ومشاعره ،وفي ذات الوقت يجنبه السقوط في مستنقع الانا والذاتية المقيتة.

الراوية بشكل عام يمتزج فيها الخيال بالواقع ،تنقلك بحب وسلاسة من عالم لآخر دون التفريط في سر الحبكة ، في ص11 يتناول طبيعة العلاقة بين طرفين وما شاب ذلك من أمور ملتبسة بعلاقته مع والد (اريج) التي بحدث قلبها العاطفي كانت تتوهم ان يخرجها من حالة والدها لذا كانت تلح في الاتصال بكل بوسائل التواصل ،وهو بقسوة لا يرد عليها ، وتمضي رحلة السرد وفي ص13الى ص16 يسرد حكاية تعلق بوجدانه وعواطفه نحو انثى يلتقيه قدرا على المصعد وهي تفوح منها العطور وترتدي الفرو مما يثير فيه غريزة الاحتفاء بالنساء ،ولعل الحوار الذي دار بينهما حيث قال ممازحا: "يقولون النساء يشعرن بالبرد أكثر من الرجال " فترد عليه: "كثيرا ما احس بهذه الحقيقة فعلا" في تلك الصفحات تجلت قدرة الكاتب في تصوير ووصف الحالة الإنسانية والجمالية بإدهاش ولغة رقيقة .

تعددت الشخصيات وتنوعت في مشاربها وسلوكياتها في حزمة من العلاقات الحياتية فهناك يونس العامل القادم من الهامش ويمتهن غسيل السيارات ،وشخصية (حسن فكة ) عامل لكنه وصل بعلاقته بالمدير العام وهو محمي به وبامكانه ان يتوسط ،وهذا يعكس كيف يتوارى كبار الإداريين خلف البسطاء لتمرير مصالحهم بل قل فسادهم .

ومن هنا تبدأ تفاصيل وجذور الراوية تتضح جليا حيث عملت بشكل أساسي على فضح الممارسات التي تقعد وتنسف شعارات العدالة والمساواة ،ومن هنا نلتقط الثيمة الجوهرية للراوية المتحورة حول الفساد بكافة انماطه (الإداري والسياسي والأخلاقي) وعلاقة الفساد بالواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والتغول في حقوق الاخرين ، تظهر شخصية(عاصم مأمون الرشيد) ، وفي ص23 وصف لمكتب المدير

مكتب فاخر يعكس الثقافة الاستهلاكية أي العناية بالمباني دون المعاني ..وفي 31 حينما يدلف عادل مرحوم (موظف) الى مكتب (صادق عبد الرحمن)يستحثه على توقيع خطاب الاجازة بناء على رغبة زوجته التي تريد ان تتخلص من ابنة خالة زوجها ..وهذا النوع الاستضافة انتشر في الآونة الأخيرة بعد التوسع في الجامعات ،وهو كنوع من التكافل والتراحم بين الاسر الممتدة ،ولكن زوجته خوفا على مملكتها اخترعت تلك الحيلة .

العلاقة المتباينة (هالة/ اريج)(إبراهيم وهبي وظلمه في كتابة تقارير الأداء لا تخضع لمعايير موضوعية فقط الهوى والفساد/ سليم عوض السيد ، لا ظهر له بالمؤسسة) (عاصم/ وداد السكرتيرة) (يونس وحسين وفكه واعتقاد المدير في قدراتهم على الشفاء يشير الى بعض العلاقات والاعتقادات النفسية) (المدير في ص75 يناقش كمال غريب الذي يمتنع عن تنفيذ طلبات المدير وردة فعله بطلبه استرداد المديونية) في ص83 ( عاصم يطلبه المدير على غير العادة ليخبره بما تم نشره في صحيفة صوت الجماهير)، وفي ص86 ظهور كشف التنقلات التي تتبدى فيه روح الانتقام والتشفي ضد غير المرغوب فيهم (المغضوب عليهم)

وبالعودة إلى أريج والحب الذي يقلقها ومشكلة كتمان المشاعر ، نكتشف كيف للأنثى اذا احبت تصنع المستحيل لمبتغاه ،( ص(102) نجدعاصم يقدم الاجتماع تبرز خصال الغيرة والحسد عندما اعترت الحضور حالة من الانبهار بالورقة ،صاح فيهم عادل مرحوم بان وقت الصلاة قد حان ليس حرصا على الصلاة انما تنفيس لما يعتمل في صدره غل وحسد لنجاحات عاصم الذي اظهر براعة في إدارة شان الشركة وشئون الخاصة

في تقديري أن أريج تجسد نموذج الحسناء التي ترعرعت في كنف النعيم والرفاهية المادية ،وهنا تبرز رسالة وعي مهمة مفادها أن بهجة الحياة ليست في الماديات وإنما هناك بعد لا يمكن تخطيه يتمثل في اشباع الجانب الإنساني والمعنوي من حيث الحب والتقدير وتحقيق الذات .

في ص 171ـ في الفصل(13) تكتحل عيناك بتعبير في منتهى العذوبة :"والشمس تحبو خجلة ، نحو تكرار عادتها اليومية بالانسحاب الوشيك من السماء ؛كان عاصم وحسام يحتلان نفس الطاولة...." من هنا تبدأ العقدة في التكشف ، ويونس بدافع الحرمان والانتقام لمن تحرش بشقيقته ، وبعد حصوله على الذاكرة سلمها لعاصم وحسام ...هنا يتبادر الى الذهن تساؤل :هل هذا المسلك يندرج تحت مكافحة الفساد ام هو هتك لأسرار الاخرين؟ عموما تلك تعقيدات النفس البشرية وتقلباتها .

الختام:

أدهشتني في هذه الراوية غرابة أحداثها، وبلاغة لغتها الجميلة، وصورها المبهرة التي لا تخطر على بال، وجرأة التناول والطرح برؤية استشرافية مبصرة وسابرة في جزيئات وتفاصيل الاحداث.

لقد استطاع الكاتب في روايته الرائعة أن يخترق جدر الممنوع ، ويميط اللثام عن الخبايا ويزيل الأقنعة ويكتب ويقرر حربه على بالفساد والمفسدين ...وكان في موفقا ايما توفيق في احكام نسج الحبكة بذكاء فخرجت متماسكة ومقنعة بعيدا عن الاسفاف والشطط والحشو فكل عبارة ومفردة تتبوأ مكانها المناسب بأسلوب سردي درامي عميق ،ومما يعلي سقف الدهشة تصويره الدقيق ورسمه الشائق بالكلمات للأشخاص والأمكنة والأفكار بلغة مترعة بالجمال والشاعرية كأنما يصور اللقطات بعدسة رقمية عالية الدقة ،و لا اداري فرحي وابتهاجي واستمتاعي بهذا العمل المدهش الذي تناول قضية خطيرة تتمثل في الفساد مدمر الأمم والحضارات حاملا ناقوس الخطر ومصباح الحقيقة .

وفي ما يتعلق بالجوانب الفنية فقد برع الكاتب إلى استخدام تقنية الاسترجاع (تقنية القلاش باك) للإضاءة على ماضي الشخصيات وبناء الحدث، وقد احتفت الرواية بذكر الأمكنة ودلالاتها ، وعلى الرغم من الاتجاه الواقعي، تبرز في الرواية لمحات رمزية وأخرى اسطورية ، وتدل لغة السرد على ثراء المخزون المعرفي والحكائي لدى

وأما عن الزمكانية في هذه الرواية، فمن المعروف أنه لا مكان من دون زمان، ولا زمان بلا مكان. فالمكان والزمان توأمان مرتبطان بحبل سري واحد، وهذان العنصران هما قطبا الرحى الذي يخلق الحركة، فينتج الصوت والصورة، وبالتالي يسرد الروائي روايتهما

وقولي عن "الزمان " في هذه الرواية التي أعدت قراءتها عدة مرات بشغف ، أراه يضفي فاعلية وجماليات فنية من شانها أن تمنح النص توجهات شعرية عبر ما يسمى بالانزياح فطبيعة الادب ليست نقل للواقع بل في جوهره محاولة لتغييره وإعادة تركيب انطولوجي وجودي ، والماكن في الادب ليس مجالا هندسيا مضبوط الحدود والابعاد والقياسات الجغرافية والطبوغرافية انما فضاء متجاوز وهذا ما نلحظه في التنقل السلس بين الزمن والمكان دون الاخلال بمنطقية الاحداث ،ويمعن الكاتب في وصف الشخصيات وأبنيتها ، مع تعدد الشخصيات تمكن الكاتب باحترافية ورؤية إبداعية ان يبني شخصيات الراوية بطريقة مقنعة دون غلو او شطط ، ليفصح عن تأكيده على ما وصل إليه الواقع من تردى ، ففي الرواية نجد من يتخذ الدين والدجل والشعوذة ستارًا لأهوائه ومصالحه(حسن فكة) ، جنبًا إلى جنب مع حاملي المجامر والبخور من مطبلين حول المدير للمداورة على خبث سرائرهم.، وأيضا كيف يلعب الجنس في تشويه الواقع وتكريس القبح من خلال الايماءات (السكرتيرة) .

وبذكاء لم تكن خواتيم رواية مغلقة بل مفتوحة تعمد الكاتب ان يمنح المتلقي فرصة وسانحة للتجريب وصناعة نهايات مقنعة ،فنحن لا ندري ماهو مصير (أريج) ولا والدها الذي هو طريح الفراش في العناية المركزة أحي أم مات جراء صدمته العنيفة من فضائح السرقة ، وما مصير عاصم ؟ كل ذلك تركه الكاتب ،وهذا تكنيك متقدم يعطي مساحة للمشاركة بين المؤلف و القارئ.

لقد تذكرت رواية البطل الحكيم للكاتب البيروفي (أمريكا اللاتينية ) ماريو بارجاس يوسا الحائز على جائزة نوبل في الأدب ،حيث يقول "نحن في عالم يؤدي الطموح فيه عادة إلى انهيار المبادئ والقيم " وقد وصف الفساد (بأنه سرطان حقيقي للتنمية )

في تقديري ان الراوية تحليلا واقعيا لقضية اقعدت البلاد والعباد من النهوض في اطار سياقات بلاغية واسلوبية راقية فضلا عن استخدام تقنيات حديثة تجعل من العمل فتحا مبهرا واضافة نوعية لمكتبة الادب السوداني.... أرى أن الحل يكمن في تفعيل دولة القانون، و يقظة الضمير، وبناء الإحساس الوطني ووضع الكفاءات في مكانها الصحيح.

د/صلاح الدين هـداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى