في الصباح الباكر لأحد أيام الشتاء، فتحت باب الجراج لأجد إحدى إطارات السيارة قد تفرغ هواؤها، ترجلت على الرصيف على أمل أن تلحق بي وسيلة توصلني إلى عيادتي، بعد دقائق من السير أحجمت عن فكرة انتظار وسيلة، وقررت أن أتمشى قليلا ما دامت العيادة قريبة والوقت يسمح بذلك.
الشارع مزدحم بالباعة الجائلين ومليء بالحصى الناتيء الذي أشعر بنخزه عبر نعل الحذاء، وعلى الجدران بقايا إعلانات ورقية للدعاية الإنتخابية لمجلسي الشيوخ والنواب، السماء ترتدي ثوب الحداد الداكن؛ غيوم كثيفة في الأفق، والأشجار عارية إلا من بعض الأوراق الصفراء، ورياح عاصفة تولول كامرأة ثكلى، وتجمع أوراق الخريف المتساقطة، وتبعثر أوراق مخلفات التجمعات السكنية في الهواء.
قطعت الشارع وسط السيدات اللاتي أتين من القرى المجاورة للمدينة؛ للتسوق وبيع ما معهن من خيرات الريف؛ الجبن والزبد والبيض،....
بينما أفسح الطريق لواحدة وتتجاوزني أخرى، فإذ بفتاة في مقتبل العمر اعترضت طريقي، انعطفت يمينا انعطفت معي ملت يسارا مالت معي، كعنق فرس جموح أثقلها الشوق لديارها، نظرَتْ إليَّ بوجه صبوح وثغر تفتر عن بسمة حانية وبعينين كحَّلهما الحزن، نظرْتُ إليها هنيهة وأطرقت بنظري إلى الأرض وأفسحت لها الطريق لتمر، لكنها أوقفتني قائلة:
-أهلا دكتور.
وأردفت: ألا تتذكرني يا دكتور؟
والنفَس المستعجل الخفيف يشهق من شفتيها.
أعدت النظر إليها، ورحت أستجدي الذاكرة، استرجاعا للوجوه التي عبرتها، ولكن دون جدوى، خمنت أنها ابنة مريض أو مريضة أتابع حالتها، طلبت منها تذكيري بالاسم:
-عفوا، ذكريني بالاسم.
-ذكرتني، فإذ بها ابنة صديق الطفولة وابن قريتي، الذي وافته المنية إثر حادث سير أليم منذ أعوام.
تذكرت تلك التلميذة النجيبة، التي كنت عندما أجلس مع أبيها وأختبرها، كانت بذكاء منقطع النظير تصطاد الأسئلة وتجيب عنها بكل فصاحة ولباقة، كنت أتوقع لها بذهنها الحاضر، ووجها المشرق، وعينيها المشعتين بالحلم؛ مستقبلا باهرا في الطب أو الهندسة أو الأدب...
وفي غمرة استرجاعي لشريط الذكريات أيقظني صوتها الكسير:
-كيف حالك وحال أسرتك؟
-بخير، شكرا لك.
-إلى أين وصلت في دراستك؟
-إلى لا شيء.
وأشارت إلى بوابة المستشفى، وانسابت من عينيها دمعتان صافيتان كقطرتي مطر على ورقة خريف صفراء، وفتحت كيس تحمله لترني بدلة عاملات زرقاء، واستدركت:
-والله ما تكاسلت ولا تقاعست قط، لكن...وسكتت.
وقبل أن تنصرف في أدب طلبت مني أن أتوسط لها عند المدير، ليرفع عنها خصم يوم من التعاقد لتأخرها خمس دقائق عن موعد البصمة، وانصرفت.
ظللت واقفا تحت رذاذ المطر، أحدق صوبها، أشيعها بنظرة أخيرة وغصة مريرة، وهي تضع قدميها في فم الفقر الذي ابتلعها...!
إبراهيم مصري النهر
مصر
الشارع مزدحم بالباعة الجائلين ومليء بالحصى الناتيء الذي أشعر بنخزه عبر نعل الحذاء، وعلى الجدران بقايا إعلانات ورقية للدعاية الإنتخابية لمجلسي الشيوخ والنواب، السماء ترتدي ثوب الحداد الداكن؛ غيوم كثيفة في الأفق، والأشجار عارية إلا من بعض الأوراق الصفراء، ورياح عاصفة تولول كامرأة ثكلى، وتجمع أوراق الخريف المتساقطة، وتبعثر أوراق مخلفات التجمعات السكنية في الهواء.
قطعت الشارع وسط السيدات اللاتي أتين من القرى المجاورة للمدينة؛ للتسوق وبيع ما معهن من خيرات الريف؛ الجبن والزبد والبيض،....
بينما أفسح الطريق لواحدة وتتجاوزني أخرى، فإذ بفتاة في مقتبل العمر اعترضت طريقي، انعطفت يمينا انعطفت معي ملت يسارا مالت معي، كعنق فرس جموح أثقلها الشوق لديارها، نظرَتْ إليَّ بوجه صبوح وثغر تفتر عن بسمة حانية وبعينين كحَّلهما الحزن، نظرْتُ إليها هنيهة وأطرقت بنظري إلى الأرض وأفسحت لها الطريق لتمر، لكنها أوقفتني قائلة:
-أهلا دكتور.
وأردفت: ألا تتذكرني يا دكتور؟
والنفَس المستعجل الخفيف يشهق من شفتيها.
أعدت النظر إليها، ورحت أستجدي الذاكرة، استرجاعا للوجوه التي عبرتها، ولكن دون جدوى، خمنت أنها ابنة مريض أو مريضة أتابع حالتها، طلبت منها تذكيري بالاسم:
-عفوا، ذكريني بالاسم.
-ذكرتني، فإذ بها ابنة صديق الطفولة وابن قريتي، الذي وافته المنية إثر حادث سير أليم منذ أعوام.
تذكرت تلك التلميذة النجيبة، التي كنت عندما أجلس مع أبيها وأختبرها، كانت بذكاء منقطع النظير تصطاد الأسئلة وتجيب عنها بكل فصاحة ولباقة، كنت أتوقع لها بذهنها الحاضر، ووجها المشرق، وعينيها المشعتين بالحلم؛ مستقبلا باهرا في الطب أو الهندسة أو الأدب...
وفي غمرة استرجاعي لشريط الذكريات أيقظني صوتها الكسير:
-كيف حالك وحال أسرتك؟
-بخير، شكرا لك.
-إلى أين وصلت في دراستك؟
-إلى لا شيء.
وأشارت إلى بوابة المستشفى، وانسابت من عينيها دمعتان صافيتان كقطرتي مطر على ورقة خريف صفراء، وفتحت كيس تحمله لترني بدلة عاملات زرقاء، واستدركت:
-والله ما تكاسلت ولا تقاعست قط، لكن...وسكتت.
وقبل أن تنصرف في أدب طلبت مني أن أتوسط لها عند المدير، ليرفع عنها خصم يوم من التعاقد لتأخرها خمس دقائق عن موعد البصمة، وانصرفت.
ظللت واقفا تحت رذاذ المطر، أحدق صوبها، أشيعها بنظرة أخيرة وغصة مريرة، وهي تضع قدميها في فم الفقر الذي ابتلعها...!
إبراهيم مصري النهر
مصر