محمد السلاموني - الدولة والثورة والجسد..

ربما أمكن الحديث الآن ، وبقوة ، عن (إستحالة الثورة) فى واقع ما بعد الحداثة ،(الكونى - الذى نحياه الآن) ، ذلك أن الجسد لم يعد ظلا للأيديولوجيا ، بقدر ما صارت الأيديولوجيا واحدة من ظلاله المتلاشية ... وأعنى هنا بالإيديولوجيا ؛ (الأيديولوجيات - أو السرود الكبرى) التى صنعت التاريخ الحديث ، سواء الليبرالية منها أو الإشتراكية ؛ فالمبادئ الثلاثة (مبدأ الذاتية ومبدأ الواقع ومبدأ التاريخانية) ، التى تأسست عليها تلك الأيديولوجيات (العقلانية) ، سقطت الآن - ولعل أهمها ، على الإطلاق ، (مبدأ الواقع) ، إذ حل الواقع الإصطناعى (الزائف) - الذى أنتجته التقنية - محل الواقع الحقيقى / وصار يتحدث باسمه ؛ مدعيا بأنه الحقيقة ؛ مما يعنى أن الواقع لم يعد ينتج الصور التى تمثله، بقدر ما صار هو نفسه نتاجا لتلك الصور ..
فى مثل هذا الواقع الإصطناعى ، (تتفكك الذات) ، تتعدد وتتبعثر وتفقد وحدتها ، لا سيما الذات العارفة ، لأن العلامة لم تعد تشير إلى معنى محدد ، وإلى مرجع محدد ، بل صارت تولد من رحم علامات أخرى ، تتناسل من بعضها - أى أن العلامات لا تدل سوى على نفسها فقط ، بمعزل عن الواقع والإنسان، مما أفقد (الوعى) نسقيته وتماسكه ووحدته ، وأصابه بالتشذر - وباختصار : لم يعد هنالك ما يضمن إمكان المعرفة ..
مما يعنى سقوط أنظمة المعنى - التى هى قوام الثقافة المجتمعية ..
وبذا لا يصير التاريخ (حدثا متماسكا ومتطورا ساعيا نحو غاية ما) ، بل يرتد على عقبيه إلى (أحداث ووقائع) متراكمة وممزقة ، لا رابط بينها - بل ويقال بأن (الوقائع ذاتها تلاشت وحل أثر الواقعة محل الواقعة، كما أن الآثار المتلاحقة يمحو بعضها بعضا)...
هكذا - ينبنى عالم ما بعد الحداثة على (غياب) المبادئ الثلاثة التى تأسس عليها المشروع الحداثى ..
هذا والدولة الحديثة لدينا ؛ التى حاولت أن تشرعِن وجودها من خلال تلك المبادئ - ونظرا لعدم هيمنتها على اللغة والأيديولوجيا ، بفعل التقدم الهائل فى وسائل الإتصال- تعانى الآن التفكك والعجز وعدم القدرة على صناعة المعنى المؤسسى اللازم لتحديد الواقع والذات والتاريخ..
سقوط أنظمة المعنى ، يعنى إرتداد الإنسان لدينا إلى مجرد (شخص) ؛ جسد ، يحتل حيزا من (الوجود) ، فى مقابل (العدم) ؛ أعنى أنه تحول إلى وجود بدون كينونة ذاتية أو إجتماعية أو تاريخية، كأنما هو مجرد شئ أو وجود خام مغلق على نفسه ، لم تشتغل عليه أنظمة المعنى لتمنحه (أنا ، فى مقابل النحن والآخر / فرد ، فى مقابل الجماعة / ذات ، فى مقابل الموضوع / إنسان ، فى مقابل الحيوان والنبات والأشياء ... إلخ) ..
الجسد أو الوجود الجسدانى هو ما تبقى لنا ، مما يعنى أن الزمن تحول إلى مجرد تتابع لحظات ( آنات - جمع آن) ، والمكان تحول إلى (نقاط) ؛ هكذا فما نحن سوى "آنات ونقاط" مبعثرة فى أمكنة وأزمنة بلا نسق؛ نحن غياب يحيا فى غيابات أخرى ...
ـــــ فى وضعية كهذه ما الذى يمكن أن تعنيه الدولة والثورة ؟..
لم تعد الدولة أداة تجسد أو تحقق التاريخ - كما قال هيجل ، وكما حاولت الحداثة أن تفعل ، والثورات التى شهدتها الحداثة أن تتمثل، بل على العكس من ذلك ، فبعد أن فقدت القدرة على إنتاج المعنى المؤسسى ، تقطعت علاقاتها بالواقع والتاريخ والذات ، وتحولت إلى شئ فى ذاته ، أى إلى حضور مغلق ومعزول ، ممتلئ بنفسه ، يحيا لذاته فقط ، كأنما هى المركز المنفصل عن المحيط !! ، وبذا صارت عبئا على الواقع والتاريخ والذات ، وبالأحرى ، صارت رمزا لغيابهم ...
وبتعبير آخر ، لقد تحولت الدولة إلى (أب ميت) ، إلى جثة ، ثقيلة ، تتأبى على الدفن ، و لا تعترف بالمراسم الجنائزية المشيِّعة لكل ما مثلته ذات يوم ، أى لا تعترف بتاريخيتها ، لأنها تعتقد بأنها هى المجسِّدة لإرادة التاريخ (هكذا مقوضة كل ما دافعت عنه فى الماضى وشرعنت وجودها من خلاله) !..
وكان عسيرا على الجسد الشاب ؛ أى على الإبن (فى العالم الإفتراضى - الفيسبوكى وغيره) ، أن يستمر هكذا فى تشييع صوره المتناسلة من بعضها البعض إلى مثواها الأخير (صور الجثث البشعة لخالد سعيد وغيره من الشباب) ، دون أن ينتبه إلى أن الغياب الذى يمارسه ، هو المقابل لحضور تستحوذ عليه دولة أمنية ، لا شئ يثبت حضورها حقا سوى الآثار التى تتركها على أجساد المعذَّبين والقتلى ، هنا إدرك الجسد أنه هو الذى يمنح الجلاد هويَّته ، وحضوره ، أو أن حضور الدولة الوحشى يتغذى على التهام الأجساد ؛ على (تغييبها) .. فكانت (الثورة) ؛ كمحاولة لإنتزاع الجسد من الغياب (الذى تمارسه الدولة نفسها تجاه شعبها) ..
مما يعنى أن الثورة لم تعد هنا تعبيرا عن (وعى أيديولوجى - متعلق بفكرة كبرى عن العالم والتاريخ) ، لم تعد تعبيرا عن مصالح فى مقابل مصالح أخرى ، بل تعبيرا عن جسد مصاب بمرض عضال إسمه الدولة الحديثة ؛ جسد إكتشف فجأة أن الدولة تقيم تحت جلده ، وبداخله ، وتسرى فى أمعائه (أغذية مسرطنة) ، جسد إكتشف فجأة أن (القطار) الذى يركبه إن هو إلا دولة تحرقه ، و (المسرح) الذى يدخله إن هو إلا دولة تحرقه و (العبَّارة) التى يركبها إن هى إلا دولة تغرقه ... إلخ ..
من هنا تحديدا [هب الجسد ليستعيد نفسه من الدولة ...] ..
أمَّا السؤال عن الدولة الجديدة التى يمكن أن تحل محل "الدولة الحديثة- القديمة" ، فهذا هو السؤال الذى لم يجب عنه الثوار ... لذا ، أسقطت الثورة (أشخاصا) ؛ (هم أجساد أيضا ، أجساد أخرى - مبارك وحاشيته) ولم تسقط النظام المُختَزِل للبشر إلى مجرد أجساد!...




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى