د. سامي عبد العال - النَّص الديني.. كيف يتأسّس؟!

إلى الآن، لم ( تفكِّر ) الثقافةُ العربية الإسلامية في: كيفية تأسيس النصوص الدينية وتداولها؟! لقد جاءت النصوص وحلَّت بمعطى لغويٍّ تؤكده ماهيتها دون نقاشٍ. لدرجة أنَ ما ينطبق على النص الأول ( القرآن ) سينطبق تباعاً على نصوص الفقهاء والمفسرين والدُّعاة حتى نصوص كبار شُرَّاح اللغة والشعر والنثر. وربما المُعضلة أكبر من ذلك، إذ يصبحُ الاقترابُ من هذه النصوص أمراً ممنُوعاً على الدوام، لتقف ( دوائرهُا المحرّمةُ ) دون المقاربة الفعلية تأويلاً وتداولاً. فالنطاق الدلالي المضروب بمحيط النصوص لا تعاينه الألفاظُ والعبارات العادية، إنما يحتاج إلى كلمات حذرةٍ ومنتصبة على الحافةِ حدَّ الرعبِ.

لقد أوجدت النصوصُ الدينية مُعجماً ضخماً من كلمات اللا مساسTaboo بصدد تدوين مادتها المعرفية والفكرية. ولكن على الرغم من ذلك، سنجد أن تلك الأنشطة ( التدوين، المعرفة، الفكر ) تدخل حيز القراءة. وطالما هي هكذا، فإنها تفترض ضمناً تاريخية اللغة حتى تجري بحريةٍ وبدقة أيضاً. ولو كانت هذه الأنشطة ( فيما هو ملحوظ ) بلا فاعليةٍ هذه المرةِ، وإذا كانت النصوص عصيةً على تأثير اللغة وافتتاح عملها، فستكون ثمة استحالةٌ لتجارب المعنى. هل نتصور أنَّ نصَّاً يوجد بلا معنى؟ بل هل هناك نص خارج اللغة إبتداءً؟ ولأنَّ كل نص هو لغةٌ بالأساس، فالمنطقي ألّا يبعد عنها وعن الثقافة بقدر ما توجد الاثنتان داخله وعبر جميع التفاصيل الخاصة به. ولهذا، فإنَّ كل التفسيرات التي ستخرج (لو تجاهلنا هذه الفكرة البسيطة ) ما هي إلاَّ فرض الرؤى فرضاً حتميّاً. وأنَّ النص سيظل بهذا المنطق ( حجرّاً سحرياً ) لا يعتريه معنى ولا يتفاعل مع الثقافات المختلفة!!

هنا يجب التفرقة بين مفهومين رئيستين: مفهوم ( التأسيس ) و مفهوم( الأصل- المصدر )، فالقرآن ( وهو النص الأول في الإسلام ) مصدره الوحي، وقد توجد هناك نصوص تفسيرية للقرآن في جميع المذاهب والطوائف، وهذه هي النصوص المتعارف عليها بالمصادر الشارحة. ولا غبار إطلاقاً في أن يُنسب ( النص ) إلى مصدره الإلهي ( القرآن) أو أن يرجع إلى مصدره البشري( التفسير). أمَّا التأسيس، فهو فعل ثقافي اجتماعي قيد التراكم حتى يحوز النص قدراته أثناء عبور الزمن والوعي المباشر. أي أنه تراكم القوى التي تُنسب إلى النص وتجعل كافة تأويلاته( خارج التاريخ النسبي ) بقدر استعماله في مجالات السياسة والخطابة والرأسمال الرمزي للمجتمعات.

قد يقول أحدهم إنَّ ذلك أمر طبيعي بحكم مصدرية النص ذاته، وهنا يعد هذا القول غير فاهم لطبيعة( التراكم السلطوي ) الذي يسلّب قدرة النص على توليد قراءات مختلفة وجد متنوعة وثرية. لو نتخيل أن هناك تطابقاً بين ( التأسيس والأصل )، فذلك معناه التطابق بين البشري والماورائي، بين الوحي والتاريخ. بينما التأسيس هو ولادة النصوص مرات ومرات في مسيرة الثقافة وتحولاتها، أي كيف تتأرخ كمعان وتأويلات وتصبح أفعالاً إنجازية قابلة للمزيد من الإنجاز مع تطورات الزمن واختلاف الرؤى. وذلك الأمر ( بخلاف فكرتي التأسيس والمصدر ) هو شرط أنْ يكون النص نصاً مثلما أنْ تكون اللغة لغةً في الحقيقة.

لحظةُ التأسيس في ثقافتنا العربية الاسلامية ليست خاطفةً ولا مؤقتة. هي تستغرق عصوراً من العمل عليها وتكرارها: أي هي عملية من الإخفاء، ومن إلباس النصوص كل أنظمة القيمة والدلالة والقداسة وأحياناً الأدلجة والإطلاق. فالنصوص لا تُولّد فقط من خلال الوعي بها مباشرةً، لكنها تدور كذلك مع ( طباق الثقافة السائدة ) لتمتين صورتها المُثلى. وحتى إذا كانت النصوص نصوصاً ثانويةً، فإنَّ ( التقديس ) يتلامس في جوهرها مع معنى(التأسيس). وبخاصة أنَّ الجانب الأكبر من ( التأسيس ) هو صنو ( التقديس ) في الثقافة الاسلامية. بل أنهما يتبادلان المقاعد وجها لوجه، فيغدوان معبرين عن الشيء ذاته.

من ثمَّ تبدو الأسئلة الفلسفية مهمةً حول تلك القضايا. فلو تساءلنا فعلياً حول الوضع النصي السابق، لكان لنا مسافة حرة تسمح برؤية الأشياء والأفكار والمعتقدات على حقيقتها. المشكلة أنَّ العقل العربي الاسلامي لا ينظر في طبيعة الأسس عادةً. من أين جاءت، وكيف كانت، ولماذا صارت بهكذا معانٍ وإيلام ستؤول في المستقبل؟! سؤال مصير الأفكار والرؤى وتحولاتها لا يشغلنا كثيراً، حتى وإنْ كان السؤال قريباً جداً في إطارٍ دمويٍّ هو جماعات الإرهاب الديني التي رأيناها ترتدي عباءات النصوص!!

لكن هل تفكر الثقافة هكذا ( أية ثقافة ) بنبرةِ الجمع الفكري؟ أي بهذا الزخم النوعي لنسق التصورات داخل آفاق الإنسان. طبعاً قد يكون ذلك ممكناً: فالزخم يفترض وجودَ مناخ فكري عام يتيح التأمل بكثافةٍ مغايرةٍ فيما يصاغ. لأنَّ تأسيس النصوص يقع عادةً في المنطقة الخفية من العقل الجمعيٍّ. إنَّه يخاتل الوعي ليربطه بأسباب عميقة خارج الواقع تمهيداً لجعله سلطة بعيدة عن التاريخ أو على الأقل يضعه بين يدي سلطة عامة تجيد توظيفه واستعماله.

هي إذن ( فكرة القداسة المجانية ) الممنوحة للنصوص ( في موضعها وغير موضعها تارةً أخرى ). والكيفية المشار إليها بالأعلى هي مبادئ واجراءات وقيم تتيح لمن يفكر أنْ يكون حُرّاً دون حدٍّ. تجعله في حالة تعمُق بامتداد لجذور الأفكار وكيف تتحول من مرحلةٍ إلى أخرى، و تباعاً ايجاد طرائق مبتكرة لغربلة التأسيسات ونقدها المتواصل.

كانت أهم بدائل التأسيس في هذا السياق (عقيدة الإعجاز ) الكامنة في النصوص لا الدينية فقط، بل كذلك الأدبية. وهي عقيدة رغم كونها تنطوي على دلالة الإدهاش والندرة في المعاني والعجز عن الاتيان بالمثيل ( ربطاً بالمصدر )، لكنها دفعت هذا النص أو ذاك إلى (مستوى فوقي متعالٍ ) بمنأى عن الأفهام ( انحرافاً إلى التأسيس). وهكذا كان النص الديني إعجازاً تأسيسياً مضاعفاً لا في رؤاه الحية، إنما في انفصاله عن الواقع. ولهذا كانت النصوص المقدسة قادرةً على قلب العالم والتاريخ رأساً على عقب. فإعجازها يُعلِّق بها كافةَ مناحي الحياة ليصبح تطور الأخيرة وتحولها لا قيمة لهما بجوار النص. الاعجاز عقيدة، لأنه غير مُبرّر إلاَّ على إيمان ليس محله النص فقط، لكن هناك تصورات بديلة تسنده مثل الوجود الإلهي والحقائق التاريخية وصور المقدس والمحرمات... ثم يأتي الاعجاز تتويجاً لها. كما أنه يرسخ مفاهيم ( اللغة التوقيفية ) من مشكاتها العُليا. أي مهما تكن اللغة إنسانية الطابع ومتغيرة، غير أن الإعجاز يرجعها ثانيةً إلى مصدرٍ غير إنساني.

الاعجاز يحتاج إلى الإيمان تحديداً دون الرأي والاختلاف، وهذا ما يجعل كل اعجاز سلسلة من العقائد لا مجرد فكرة ولا مفهوم. وقد يسهل بالاعجاز أن يضم داخله موضوعات جديدة طالما تلتقي بالنص المعجز. وهذه السلسلة لا تنفصم عُراها، بل تقوم على الاستحضار وتبادل اليقين بين المفردات والعناصر. ولا يعتمد أي اعجاز على النقاش والحوار، فالأخيران يأتيان في تبيان سمات النص ومفارقته للواقع والحياة. وهذا مرتهن لدينا بقدرتنا على نقل واستظهار النصوص كما هي بدعم مطلق من سلطة ما تتميز بسرية الحركة والإلزام.

بهذا المنحى النافي للاختلاف، تعدُّ الثقافة الاسلامية ثقافةً نصيّةًtextual culture في المقام الأول. حيث يمثل النّصُ ثقلاً تاريخيّاً في( ميزان الثقافة ) نزن به كافة مظاهر الحياة ومواقفها الغامضة. فهو يضاف إلى المعاني سلباً أو إيجاباً، بجانبنا أو ضدنا، حينما يُستشهد به عادةً. لكون النص معياراً خفياً يحضر حيث تغيب حقائق الواقع بالتبعية. وحتى لو كان الواقع حقيقياً، فلن يعدّ الأخير كذلك سوى بشهادة النص قبل أي شيء. ماذا وراء هذا التأسيس الميتافيزيقي لواقعنا وللنص بالتساوي؟

أولاً: يتجلّط معنى النص وتأويلاته ( بهذا الشكل المادي ) على هيئة ( بقعة دلالية تامة ) غير قابلة للذوبان. وهذا واضح في جعل النصوص مادة سحريةً ليست لها، ومن حينها تسند كل كلام تاريخي وثقافي ومعرفي مرتبط بها أو في محيطها. وهذا واضح تماماً بصدد استعمال الآيات والمقولات والعبارات والقصص الدينية في غير سياقها حتى أضحت تمائم وأحجبة وتعويذات جالبة للخير ودافعة للشر. وتجرى كأنها تُمرر المضمون على جناح التأسيس الثقافي المُسلِّم به. فالمستوى البعيد لها جعل كل مَنْ يتمسح بها يدعم مواقفه خلال الحياة العامة.

ثانياً: طالما أنَّ النص كذلك، فإنه سيحتاج إلى طبقةٍ آلية من المفسرين والشُرّاح والحواريين. لأننا كأناسٍ عاديين لم نستطع فهمه بداية نتيجة الخلط بين ( المصدر والتأسيس ). بالتالي سيكون مُتاحاً لمفسريه أنْ يلاصقونه ويعتبرنه مادةً للتكَّسب والتسلُّط. إنَّ كلَّ نصٍ مؤسس بهكذا طريقة إنما ستُنذر له مجموعاتُ من الشُرّاح وراء الشُراح حتى يأخذون مكانه. لدرجة أنَّهم سيقفون جنباً إلى جنبٍ مع قداسته العليا. وفي تاريخ الإسلام السياسي، كان المفسرون لهم أهمية تفوق ما يقصده النص الأصلي. الأمر هنا جزء من( لعبة اللغة ) التي تستبدل الصورة والنسخة، بالأصل. وستكون هذه النقطة أكبر ثغرات التأسيس، لأنَّها ستنوعه وستجعله عرضةً للنقد المباشر.

ثالثاً: يفترض التأسيسُ كون النص غامضاً دوماً ولا سبيل إلى فك شفراته. هو ليس منطوقاً في كلماتٍ، لكنه كتلة لغوية فيزيائية صماء كما هو. لن يجدي تحليله وسبر أغوار معانيه في غالب الأحيان لدى القارئ العادي. فهذه أشياء تحتاج تأكيداً لمعانٍ بجانب الأخرى وتتطلب ابرازاً للمختلف دون سواه. وتلك القضايا الجارية لا يسمح بها التأسيس بالمفهوم السابق. كل اختلاف طالما لم يمس التأسيس الأوسع للنص لن يكون فاعلاً ولن ينصرف إلى رؤى ثريةٍ في الحياة والمعنى.

رابعاً: يتعارض الوضع التأسيسي للنص مع إمكانية الإيمان به. الإيمان يحتمل معايشة المعنى وفهمه بشكل متنوعٍ ومع إمكانية الاختلاف حوله( فالمعايشة فردية ومسئولية خاصة). والسؤال المنطقي: كيف سيتم ذلك مع طباق الحواجز التفسيرية المانعة للوصول إليه؟ بل كيف سيكون متاحاً مع حجبه بعيداً عن المتناول؟! بالتالي، فإنَّ العجز عن الوصول إلى المعنى سيكون بمثابة العجز بحثاً عن حقائقه. فالنص المقدس بالتحديد ما لم يتحول إلى ( تجارب تاريخيةٍ ) لن يكون مؤثراً. وبدلاً من كون التأسيس تجدُّداً مفتوحا،ً سيصبح مطرقة تحطم أدمغة معارضيه ومؤيديه على السواء. لأن كل تجربة تاريخية يصعب اغلاقها ويستحيل اعتبارها في الوقت نفسه كاملة وتامة.

خامساً: يدعو هذا التأسيس إلى تقديس النصوص المُجاورة للنص الأصلي. لأنَّها ستزعم امتلاكاً لحقيقته واحتكار التحدث باسمه. وهذا يفسر توالي أجيال المفسرين من عصر إلى عصر، بينما ( جوهر الدين ) نفسه لم يتحقق فعلياً في المجتمعات الاسلامية. إنَّ رجال الفقه ومعارفهم وأطرهم الثقافية رغم كونهم موجودين ويجيبوا عن أسئلة الحياة، لكنهم يعزلون الدين عن ( الوجدان الحي). يمنعونه وراء مماحكات وأمور هي أقرب إلى الطبائع الخاصة بهم منها إلى المعرفة الفعلية. كما أن هؤلاء الوسطاء كانوا "نموذجاً وظيفياً " functional paradigm لخدمة أغراض السياسة والطوائف والمذاهب المتصارعة.

سادساً: سيدعو التأسيس إلى التحارب حفاظاً على وجوده المفارق باسم السلطة. ومن ثم سيجري القتال على تفسير النص بلا نهاية. فحينما رفع الخوارج المصاحف على أسنة الرماح ( تأسيس ثقافي) في إحدى المعارك، قال على ابن أبي طالب حاربناكم على تنزيله (المصدر والموحى إليه ) وسنحاربكم اليوم على تأويله ( كل تأويل هو أحد أفعال النص ). فأي تأسيس دجمائي هذا الذي سيُحول النص إلى ميدان حربٍ بلا طائل. أبرز مظاهر الاختلاف الديني في تراثنا العربي الإسلامي: هذا التناحر بين الفرقاء إلى درجة الإبادة الجماعية للطوائف والملّل والنِّحل. وليس الدواعش بالأمس القريب إلاَّ نسخة أخيرة تتواتر في تراث المسلمين. حتى هؤلاء الأكثر اعتدالاً ( سواء كانوا مؤسسة أم مذهباً ) يحملون بذور التقاتل الشرس. فصدمة التأسيس ستتحور لديهم إلى منطق صراعي يثير الفتن والحروب عاجلا أم آجلاً. ويظهر ذلك في الفتاوي التكفيرية والقمعية والدموية والمواقف من أصحاب الديانات الأخرى.

سابعاً: سيقف التأسيس بهذا الخلط ضد منطق اللغة وقوانينها. فاللغة تغاير معانيها بحسب السياقات المتنوعة. كما تتسع أبنيتها إجمالاً بحكم التراكم الدلالي النوعي. كيف سيكون ثمة تغاير بينما يعلن التأسيس من الوهلة الأولى ثبات اللغة حرفياً؟ هذا الفهم الحرفي للنصوص كان طابعاً مشتركاً في تاريخ جماعات العنف الديني، بل كان بمثابة القاعدة البارزة في الثقافات التقليدية. ولهذا كان الفهم بالحرف يقتل في كل الأديان، فلم تخرج جماعة إرهابية عن المجتمع إلاَّ بفضل الفهم الحرفي للنصوص.

إذن ليست القضية ما إذا كان النص ذا مصدر إلهي أم أرضيّ على أهميتها. فهذه قضية مهمة بالفعل في تحديد درجة التأسيس، بيد أَّها لن تزيد المعالجة إلاَّ ثنائيات متناسلة. مثل .. الله / الإنسان، الانبياء / البشر، الأرض / السماء، الواقع / الغيب، المقدس / الدنيوي. فهذه الثنائيات تحكمها هكذا المعاني المتنافرة، لأنَّها فوق ذلك تظل عصية على الإثبات و ربما يتساوى التفكير فيها من عدمه. فلن نستطيع تجاوز وضعها المتناقض، نظراً لاستقطابها الحاد لكل الأفكار المنفتحة. كما أن الثقافة العربية الاسلامية لديها مقدره مهُولة على التأرجح فوق النهايات الحادة. وفي هذا الاتجاه، لن يختلف نصٌ ديني بشري عن غيره أيا كان مصدره. ببساطة لأن طرائق تعاملنا مع النص تسلب أيَّ تنوع في وجوده. فلن يبلغ القارئ معانيه المتنوعة دونما اعتباره مقدساً وفوق مستوى القراءة منذ البداية. كأنَّ التأسيس الثقافي بهذا الشكل يضع العربة أمام الحصان. فالحصان( التأويل – القراءة ) يجر عربة النص دون طايل، إذ يأتي التقديس اللا تاريخي ليقلب الأمر.

لكن المفارقة تظل تلعب دورها حتى النهاية، فطالما ثمة لغة فلا يوجد " تأسيس نصي" خارج التاريخ. اللغة والخارج يتعارضان تعارضاً يهدر المعنى مع اهدار السياق. لأنَّ الأخير دوماً في حاجةٍ إلى تجربة حية بالنسبة لمتلقيه. كما أن عملية الفهم هي تجربة النص عبر أزمنة تأويليةٍ لا تتوقف. هذا مبدئيا يطيح باعتقاد سلفي( أصولي ) باعتبار النصوص الدينية أصولاً مستعادة كما هي، أي باعتبارها ( مادة لا تُفنى ولا تُستحدث ) من عدم على غرار المواد الطبيعية. وهنا ستجد اللغة نفسها مشابهة للطبيعة عن كثب. فاللغة ليست مادة في أقنية معلبةٍ ومحجوبة عن التغير والهواء الطلق. إنها محض دوال signifiers قادرة على التوالد اللانهائي، أي أنَّ التداعي الحر للدلالات يناطح أيَّ أصل يناوئها.

وهكذ فإن كلُّ نص حتى يكون كذلك بملء الكلمة يفترض سلفاً حركة التاريخ التي يتفاعل معها. النص ذاته هو الفعل اللغوي لمضمونه استناداً إلى( تراث هو الحاضر- الغائب). ورغم بنيته التعبيرية التي لا خلاف عليها، إلاَّ أنها تتعدد في كيانها الاشتقاقي وفي مسيرتها الدلالية. يأتي النص، أي نص، كمضمون بعيد وناءٍ عبر اللغة. فلن يكون النص حاضراً في معانيه من أولِّ وهلة. التعبيرات كي تنتج المعنى لابد لها من أصداء ثانية وثالثة ... ومتواترة باستمرار. وعليه ينبغي استعمال الإيقاع الحياتي لما يجعلنا نفهم الكلمات كما لو كانت هي نحن. فاللغة تتمتع بالطابع التاريخي لإيجاد الأشياء وتضييعها بالمثل. والتضييع ليس التلاشي، لكنه التراكم( أو التحول ) الاختلافي لما كان مقصوداً من وراء المعنى.

من هنا، فلن يشكل النص الديني معطى ثابتاً غير قابل للغياب. فطالما يجري داخل لغة سائلة، فسيخضع لعملية انتاج الدلالات. وبخاصة أن الدلالات هي آثار الغياب نتيجة وجود معاني النص إلى حد المعاناة. أو كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: المعنى في العربية آتٍ من المُعاناة. فمعنى الشيء هو حالته التي صار إليها وخرج منها بعد مشقةٍ. وبهذا، فإن المعاني في العربية ناجمة عن محن النص الوجودية التي آلت إليه ومر بها. وحدها بنيةُ معناه ستظهر وستتجلى حينما يعاني هذا النص أو ذاك من خلال التجارب الخاضغ لها. فالمعاني إذن هي آثار عميقة بفضل تغاير الأشياء والعلاقات عبر التجارب طويلة الأمد. أليس ذلك جديراً بإعادة النظر في أسس النصوص وقراءتها؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى