محمد كمال سالم - اُكتُب

كان آخر حديث دار بيني وبينك.
كانت كتيبتنا الرابعة لمدفعية الميدان، تصطف ضمن كل كتائب الجيش الثاني على طول شاطئ قناة السويس.
أنا وأنت وبعض الجنود المعاونين في كابينة إدارة النيران. لم يمنعك هول الموقف والتجهيز لساعة الصفر، ورحت تثرثر معي كعادتك:
- لا أصدق أن ساعة الحسم قد أوشكت.جُندت ضابطًا احتياطيًّا،ومدة خدمتي ثلاث سنوات، وها قد مرت ست سنوات وأكثر، لعلها ساعة الخلاص، إما بالنصر وتحقيق أحلام مؤجلة، أو الشهادة، ومغادرة هذا العالم السخيف.
_ لن أهتم لترهاتك هذه الآن، فقط للمرة الألف أقول لك لا تخلع خوذتك أبدًا ، أنا الآن رئيس العمليات، قائدك فقط. أطع الأوامر حضرة الضابط (نبيل)، أرسل لعسكري الإشارة البديل البليد هذا، أن يتعجل في إرسال باقي إحداثيات الأهداف، لو أني علمت أن المعركة وشيكة، ما أرسلت رقيب الإشارة (فدائي السويسي) ليشتري لنا السمك من السويس. تبا لغبائي، لا أتعلم من أخطائي، كلما اشتقت لسمك السويس اللذيذ أرسلته، فيغيب هذا الحقير شهرًا!! شهرين!! ثم يأتي بالسمك بعد أن نفقد الأمل في عودته!
كم مرة انتويت أن أوقع عليه جزاء وعقوبة شديدة، ثم أكتفي برميه في سجن الوحدة لبعض الوقت لتأديبه وفقط، حرصا على مستقبله العسكري، ها قد غاب مرة اخرى وترك لي هذا البليد الذي لا أستطيع الاعتماد عليه.
_ أفضفض معك سيدي.
_ لسنا في تدريب أيها الضابط نبيل، لم لا تقدر الموقف، اِلبس خوزتك من فضلك.
قطع أزيز طائرات الفانتوم المنخفض حوارنا، بهدير مجلجل من الرهبة وتكبيرات الجنود.
بدأت ساعة الحسم، صوت الانفجارات في كل مكان، صياح ووابل من الأوامر كلٌ يلتقط ما يخصه منها، ويشرع في تنفيذها.
كانت أوامرنا بالضرب، بعد عودة طائراتنا من شرق القناة، القوارب المطاطية بدأت بالعبور تحمل جنود الحماسة للخلاص.
_ بلغ أيها الضابط الإحداثيات لمرابض النيران.
_ سريّة اليمين.....إضرب
سريٍة اليسار......إضرب
القنابل، دانات المدافع تزلزل الأرض تحت أقدامنا، تُقلب الرمال عاليها سافلها، سحابات من الدخان والغبار، صيحات التكبير تختلط بصرخات المصابين، فقد بدأ العدو يحاول مبادلتنا النيران.
أوامر:
(كتيبة أربعة مدفعية الميدان، إخلي موقعك وتوجه للعبور لشرق القناة)
_ سرعة الأداء يارجال، القاطرات تقطر المدافع، الجنود معي للقوارب المطاطية.
هذا هو ساترهم المنيع (بارليف) صار كالزبد يذهب جفاءً في ماء القناة. أصبح واهنًا تحت أقدام الجنود. الدشم الحصينة صارت خاوية على عروشها، كجحور فئران فرت من هول مبيدات بشرية.
_رُد على جهاز اللاسلكي أيها الضابط نبيل؟
أيها الضابط نبيل؟؟
(هات ياعسكري الجهاز ده)
إبعت الإشارة...
الطرف الاخر من اللاسلكي:
كتيبة اربعة، هدف للإسكات، شماليات ثلاثة الاف متر، شرقيات انحراف زاوية خمسة وأربعون، ارتفاع عشرون جزءًا، اِنتهى.
_ رقيب فدائي؟؟
* تمام يا فندم.
_ كيف أتيت إلى موقعك؟
* عبرت مع المؤخرة يا فندم.
_ ضع نفسك في سجن الوحدة بعد انتهاء العمليات، انتهى.
جندي يناولني أقراصًا معدنية!
قرأتها ثم سألته غير مصدقِ. هي للضابط نبيل، أين هو؟
لم يكن لدي وقت لأنتظر إجابته، وحبست دموعي وأجلتها كغيرها، وشعرت بمائها المالح في حلقي.
أكملنا المهمة يا رفيقي، دون ثرثرتك المملة، وانشأنا رؤوس الكباري، بعد خمسة عشر كيلو مترًا في عمق سيناء،
نسيت أن أجيب عن سؤالك لما جئتني في حلمي الأخير:
يا فندم، ما الذي أتى بالرقيب فدائي هنا؟
رأيته بمنزلة عالية عند ربي؟
أخبرك الان:
لما اصطففنا عند رؤوس الكباري، اِقترب مني الرقيب فدائي، كان يحاول أن يبرر لي غيابه الطويل، وقتها غافلتنا طائرات العدو بغارة كثيفة، فإذا فدائي يقفز فوقي وينبطح بي أرضا، وغطى بكامل بدنه جزعي ورأسي، وانهالت فوقنا قذائف العدو، حتى رأينا الهلاك بأعيننا، ورفعوه من فوقي كتلة من اللحم والدماء المختلطة بالرمال، وكان معه أطرافي الأربعة، سلّم عليه حين تراه، وقل له: حانت ساعة اللقاء.
هاهي روايتي كتبتها إليك وحدك، يرافقني معك كاتبي هذا الذي رافقني على مضض، وكان هذا فصلها الأخير، رغم علمي أنك بعيد، ولكني على يقين أنه قد وصلتك فصولها.
أرني بني ماذا كتبت الان؟
ليس هذا عنوانها!
* أنت قلت (اُكتُب)
_ كان هذا أمرًا لك بالبدء في كتابة ما أمليه عليك !!
أُكتب الان العنوان (فدائي نبيل)






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى