كمِينٌ مُدجَّجٌ جميع أفراده بالبنادق الآلية، وعَددٌ يُقارب العشرة من ضباطٍ تَحمل أكتافهم نجومًا ونُسورًا وسيوفًا متقاطعة، عوائقُ مُروريةٌ تُجبر السائقين على خَفْض السرعة ليمرُّوا من خلالها بحركاتٍ ثُعبانية.
يتوقف قائد السيارة النصف نقل المُحمَّلة بالبرسيم يُحيطُ بها من الأمام ومن الخلف ومن الجانبين جنودٌ مدربون على القَفز السريع والصِّياح والجثُوّ على الركبتين في ثوانٍ، في لمح البصر يُوجهون فُوَّهات البنادق إلى السيارة من جميع الجهات، ضابطان يجريان نحوها، يجذب كل منهما بابًا من السيارة ليفتحه، ينزل السائق القروى مَبهوتًا رافعًا يديه إلى أعلى كما اعتاد أن يشاهد في الأفلام، تنزل من جواره سيدة أربعينية في ملابس سوداء شبه بدوية، رابطة الجأش لم تعبأ بما رأته ولم يَهتز لها طرْف، يَحذو حَذْوَ السائق اثنان آخران كانا يستقلان السيارة فوق البرسيم، يُقبَض عليهم جميعا، ويُسَلَّمون إلى آخرين للتَّحفظ عليهم.
عددٌ آخر من الجنود أكثر مهارة يقفزون فوق السيارة، يُلقون بالبرسيم على الأرض بحركات مُتلاحقة، وكأن شريطًا سينيمائيًا يقوم "المُونتير" بتسريعه لتمر اللقطات سريعًا كي لا تُلمَح كامل معالمها، طبلية خشبية تكسو صندوق السيارة، ينزعونها في لحظاتٍ معدودة ويُلقون بها أرضًا هي الأخرى، وكأنها ورقة في مَهَب الريح، ويرفعون من تحتها خمسة بنادق آلية، وصندوقًا خشبيًا مملوءًا عن آخره بذخائر مما تستخدم على ذات الأسلحة.
السيدة غَزَّاوية، لها مُصاهرة مع أهل محافظة بشرق البلاد، جاءت عبر الأنفاق واستَجْلبَت السيارة بما عليها عائدة بها إلى بلدها، قالت بصوتٍ أجَش ورأس مرفوعة هي أسلحتي، والذخيرة ذخيرتي، وضَعْتُها في السيارة كما ضبطتموها ومن فوقها البرسيم، وهؤلاء لا يَعلمون عنها شيئًا، وضعتها بالسيارة في غيبتهم.
انعقدت المحاكمة، جميعهم في قفص الاتهام، واجَهْتُهم بالتهمة فلم ينكروا، حتى مَن أرادَت المرأة تَنحيتهم عن الاتهام اعترفوا.
يتَقدَّم الدفاع ليُبدي طلباته، يعلو صوتها من داخل القفص تطلب التحدث، تستمر في حديثها استكمالًا لتبرير طلبها: إنَّ السيدة فاطمة الزهراء ترافَعَت عن نفسها في مَسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أبى بكر في قضية "فدك" حين صادَر الأرض التي وهبها لها والدها سيد الخلق لمَّا صَالحه يهود هذه البلدة على أرضهم، لم يمنعها أبو بكر من المرافعة، ولم يمنعها زوجها الإمام عَليّ من أن تذهب إليه، دعوني أقول ما عندي.
صَمتٌ يُطبِقُ على القاعة، اشرأبَّت الأعناق إليها تُتابعها، الدفاع يلتزم الصمت مع الصامتين، أُحضِرت المرأةْ أمام المنصَّة، قالت بصوتٍ ثابتٍ قوى الطبقات متناسق الوتيرة:
- دخَلَ الغاصبون بيتي كما دخلوا من قبل أرضى، يعلمون جهادي ضدهم، ضربوا بناتي الثلاثة وولدي الصَّبى ضربًا مُبرِّحًا، لم نقبل إهانتهم لنا، قاومناهم بأيدينا ما استطعنا، جرَّدوني وبناتي أمام نجلي وأمام عساكرهم حتى صِرنا عَرايا كما ولدتنا أمهاتنا، حطَّموا ما في البيت، دهسوا الطعام والشراب بأرجلهم، واعتبروا كل هذا مجرَّد إنذار وخلُّوا سبيلنا بعد اعتقال لمدة أسبوعين.
تصمتُ بُرهة، تسحب نفَسًا عميقًا تُخرجه زَفرةً حارَّة، ترفع سبَّابتها اليُمنى، ترتعش يدها، تعلو دون أن تدري طبقات صوتها تستكمل:
- غَلَى الدَّم في عروقي، شَعرتُ بالمذَلةِ والمَهانة، أفَقتُ من اللَّطمة فشعرتُ بالعار، قرَّرتُ الثأر لي ولبناتي وولدي، لأرضي وعِرضي، اشتريتُ البنادق الخمسة والذخيرة بعدد أفراد أسرتي، خدَعْتُ السائق ومن معه وواريتها تحت البرسيم دون علمهم.
تُطرق لبرهة هي مقدار ابتلاع ريقها، تَسحب نفَسًا يخرج منها تنهيدة حزينة، علامات الإجهاد تنال من صوتها في هذه المرَّة، تعود لتستكمل:
- حكايتنا معروفة، وثَّقَها صَحافيون بالتصوير والفيديو ساعة حصولها، منشورة على "يوتيوب" راجعوها يا سيّدى القاضي أرجوكم، لو كنتُ كاذبةً اسجنوني.
يتقدم محاميها من المنصة، يرفع حافظة مستندات ليقدمها: عدة صُحف محلية انطوت عليها الحافظة، تتصدَّر إحداها بالفعل صورة المرأة تفترش الأرض وجنود يجرُّونها عُنوة، وفى الخلفية آخرون يقبضون على صِبْية، وفى الصحيفة الأخرى كذلك، وفى الثالثة ذات الحَدَث، وسُطِّر من تحتها جميعا تفاصيل ما قالت.
يرفع الرجال الثلاثة أيديهم في القفص التماسًا للتحدث مثلها، أشَرْتُ لها لتنتظر، سألتهم وهم في مكانهم عن مطلبهم، قالوا: لا، ليس كما قالت، نحن نعلم التفاصيل كلها، ساعدناها في مَطلبها، لسنا أقل منها رُجولة، جئنا لها بالبنادق والذخيرة وتطوَّعنا لتوصيلها، فلتُدافع عن عِرضها وأرضها.
الحُضور مَشدوهون، اتَّسَعت العيون وترَقرَقت فيها الدموع، يصيح أحدهم: "الله أكبر" غلبَته مَشاعرَهُ فانطَلقَت منه الصَّيحة، فقَدَ الإحساس بالمكان فانصاع لانفعاله، وقف واعتذَر، لم أقِف عند فِعلته، ولو لم يعتذر ما لُمته.
يتوقَّف الرجال عن الكلام، يُسيطر على القاعة جوٌ غريب، يشرد القاضي لحظات تحدثه نفسه: "القضاء الجنائي قَضاء عقلٌ ومنطق، ما يُجافى العقل والمنطق والمَجرَى العادي للأمور لا يَستقيم كدليل ويَتحتم طرحه، ولكن ماذا لو كان الدليل مَنطقيًا ثابتا عقلًا، بَيْـدَ أنَّ الإدانة نُزولًا على حُكمِهِ هي التي تُجافي كل عقل وكل منطق"؟!
حَيْرةٌ بالغة أوقعته فيها الاعترافات والمرافعة، دليلٌ قوي ومنطق أقوى، انتابه مَشاعرَ متضاربة، عاد من شروده، ألقى نظرة على الوجوه الواجمة، رَفَعَ الجلسة مُؤقتًا للاستراحة، على أن تَعود للانعقاد بعدها!
يتوقف قائد السيارة النصف نقل المُحمَّلة بالبرسيم يُحيطُ بها من الأمام ومن الخلف ومن الجانبين جنودٌ مدربون على القَفز السريع والصِّياح والجثُوّ على الركبتين في ثوانٍ، في لمح البصر يُوجهون فُوَّهات البنادق إلى السيارة من جميع الجهات، ضابطان يجريان نحوها، يجذب كل منهما بابًا من السيارة ليفتحه، ينزل السائق القروى مَبهوتًا رافعًا يديه إلى أعلى كما اعتاد أن يشاهد في الأفلام، تنزل من جواره سيدة أربعينية في ملابس سوداء شبه بدوية، رابطة الجأش لم تعبأ بما رأته ولم يَهتز لها طرْف، يَحذو حَذْوَ السائق اثنان آخران كانا يستقلان السيارة فوق البرسيم، يُقبَض عليهم جميعا، ويُسَلَّمون إلى آخرين للتَّحفظ عليهم.
عددٌ آخر من الجنود أكثر مهارة يقفزون فوق السيارة، يُلقون بالبرسيم على الأرض بحركات مُتلاحقة، وكأن شريطًا سينيمائيًا يقوم "المُونتير" بتسريعه لتمر اللقطات سريعًا كي لا تُلمَح كامل معالمها، طبلية خشبية تكسو صندوق السيارة، ينزعونها في لحظاتٍ معدودة ويُلقون بها أرضًا هي الأخرى، وكأنها ورقة في مَهَب الريح، ويرفعون من تحتها خمسة بنادق آلية، وصندوقًا خشبيًا مملوءًا عن آخره بذخائر مما تستخدم على ذات الأسلحة.
السيدة غَزَّاوية، لها مُصاهرة مع أهل محافظة بشرق البلاد، جاءت عبر الأنفاق واستَجْلبَت السيارة بما عليها عائدة بها إلى بلدها، قالت بصوتٍ أجَش ورأس مرفوعة هي أسلحتي، والذخيرة ذخيرتي، وضَعْتُها في السيارة كما ضبطتموها ومن فوقها البرسيم، وهؤلاء لا يَعلمون عنها شيئًا، وضعتها بالسيارة في غيبتهم.
انعقدت المحاكمة، جميعهم في قفص الاتهام، واجَهْتُهم بالتهمة فلم ينكروا، حتى مَن أرادَت المرأة تَنحيتهم عن الاتهام اعترفوا.
يتَقدَّم الدفاع ليُبدي طلباته، يعلو صوتها من داخل القفص تطلب التحدث، تستمر في حديثها استكمالًا لتبرير طلبها: إنَّ السيدة فاطمة الزهراء ترافَعَت عن نفسها في مَسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أبى بكر في قضية "فدك" حين صادَر الأرض التي وهبها لها والدها سيد الخلق لمَّا صَالحه يهود هذه البلدة على أرضهم، لم يمنعها أبو بكر من المرافعة، ولم يمنعها زوجها الإمام عَليّ من أن تذهب إليه، دعوني أقول ما عندي.
صَمتٌ يُطبِقُ على القاعة، اشرأبَّت الأعناق إليها تُتابعها، الدفاع يلتزم الصمت مع الصامتين، أُحضِرت المرأةْ أمام المنصَّة، قالت بصوتٍ ثابتٍ قوى الطبقات متناسق الوتيرة:
- دخَلَ الغاصبون بيتي كما دخلوا من قبل أرضى، يعلمون جهادي ضدهم، ضربوا بناتي الثلاثة وولدي الصَّبى ضربًا مُبرِّحًا، لم نقبل إهانتهم لنا، قاومناهم بأيدينا ما استطعنا، جرَّدوني وبناتي أمام نجلي وأمام عساكرهم حتى صِرنا عَرايا كما ولدتنا أمهاتنا، حطَّموا ما في البيت، دهسوا الطعام والشراب بأرجلهم، واعتبروا كل هذا مجرَّد إنذار وخلُّوا سبيلنا بعد اعتقال لمدة أسبوعين.
تصمتُ بُرهة، تسحب نفَسًا عميقًا تُخرجه زَفرةً حارَّة، ترفع سبَّابتها اليُمنى، ترتعش يدها، تعلو دون أن تدري طبقات صوتها تستكمل:
- غَلَى الدَّم في عروقي، شَعرتُ بالمذَلةِ والمَهانة، أفَقتُ من اللَّطمة فشعرتُ بالعار، قرَّرتُ الثأر لي ولبناتي وولدي، لأرضي وعِرضي، اشتريتُ البنادق الخمسة والذخيرة بعدد أفراد أسرتي، خدَعْتُ السائق ومن معه وواريتها تحت البرسيم دون علمهم.
تُطرق لبرهة هي مقدار ابتلاع ريقها، تَسحب نفَسًا يخرج منها تنهيدة حزينة، علامات الإجهاد تنال من صوتها في هذه المرَّة، تعود لتستكمل:
- حكايتنا معروفة، وثَّقَها صَحافيون بالتصوير والفيديو ساعة حصولها، منشورة على "يوتيوب" راجعوها يا سيّدى القاضي أرجوكم، لو كنتُ كاذبةً اسجنوني.
يتقدم محاميها من المنصة، يرفع حافظة مستندات ليقدمها: عدة صُحف محلية انطوت عليها الحافظة، تتصدَّر إحداها بالفعل صورة المرأة تفترش الأرض وجنود يجرُّونها عُنوة، وفى الخلفية آخرون يقبضون على صِبْية، وفى الصحيفة الأخرى كذلك، وفى الثالثة ذات الحَدَث، وسُطِّر من تحتها جميعا تفاصيل ما قالت.
يرفع الرجال الثلاثة أيديهم في القفص التماسًا للتحدث مثلها، أشَرْتُ لها لتنتظر، سألتهم وهم في مكانهم عن مطلبهم، قالوا: لا، ليس كما قالت، نحن نعلم التفاصيل كلها، ساعدناها في مَطلبها، لسنا أقل منها رُجولة، جئنا لها بالبنادق والذخيرة وتطوَّعنا لتوصيلها، فلتُدافع عن عِرضها وأرضها.
الحُضور مَشدوهون، اتَّسَعت العيون وترَقرَقت فيها الدموع، يصيح أحدهم: "الله أكبر" غلبَته مَشاعرَهُ فانطَلقَت منه الصَّيحة، فقَدَ الإحساس بالمكان فانصاع لانفعاله، وقف واعتذَر، لم أقِف عند فِعلته، ولو لم يعتذر ما لُمته.
يتوقَّف الرجال عن الكلام، يُسيطر على القاعة جوٌ غريب، يشرد القاضي لحظات تحدثه نفسه: "القضاء الجنائي قَضاء عقلٌ ومنطق، ما يُجافى العقل والمنطق والمَجرَى العادي للأمور لا يَستقيم كدليل ويَتحتم طرحه، ولكن ماذا لو كان الدليل مَنطقيًا ثابتا عقلًا، بَيْـدَ أنَّ الإدانة نُزولًا على حُكمِهِ هي التي تُجافي كل عقل وكل منطق"؟!
حَيْرةٌ بالغة أوقعته فيها الاعترافات والمرافعة، دليلٌ قوي ومنطق أقوى، انتابه مَشاعرَ متضاربة، عاد من شروده، ألقى نظرة على الوجوه الواجمة، رَفَعَ الجلسة مُؤقتًا للاستراحة، على أن تَعود للانعقاد بعدها!