منقول - الشيخ النبوطي والشعر الفكاهي العامي في مصر

يكاد يجمع المؤرخون على أن الشعب المصري من أقدر شعوب العالم على التلاعب بالألفاظ. فطن إلى هذه الظاهرة العلماء المختصون بالدراسات القديمة، كما فطن إليها الدارسون لمصر العربية، ونحن الآن نستمع إلى قصائد فكاهية حورت عن شعر فصيح، بل تعدى ذلك إلى ما نردده من أغاني، فإذا انتشرت أغنية بين طبقات الشعب فإننا نجدها مرنمة في صورة فكاهية عامية مع المحافظة على نفس الوزن ونفس القافية التي للأغنية الأصلية. ولكن هذه الصورة الساخرة تحمل بين طياتها تراثاً أدبياً عامياً ربما كان من أخص ما يحبه شعب مصر من فن قولي. وقد أطلق عليه اسم "فن التحامق" 1.
والأصل في هذا الفن أن يأخذ شاعر عامي فكاهي قصيدة من القصائد الفصيحة المشهورة ويعارضها في صورة فكاهية بتغيير ألفاظها مع المحافظة على الوزن والقافية. ثم نجد أكثر من ذلك أن شاعر التحامق يجعل دائماً الصورة الساخرة من نفسه هو بمعنى أنه يرسم لنفسه صورة كاريكاتورية يجعل فيها الناس يضحكون منها. فهذان هما خصائص فن التحامق 2. ومن العجيب أن فن التحامق هذا لم يجد استجابة في الأقطار العربية الأخرى بقدر ما وجد في مصر.
ونحن نقدم صورة لشخصية من شخصيات هذا الفن وهي شخصية الشيخ عامر الأنبوطي المتوفى سنة 1767م، ذلك الرجل كان من العلماء ولكنه كان يجيد هذا اللون من الفن، ولم يمنعه علمه وتدينه وكثرة ما حفظ من شعر القدماء من أن يتفكه على طريقة معاصريه وأهل بلده، وأكثر فكاهاته كانت عن الطعام، فمثلاً نراه يضع ألفية الطعام يعارض بها ألفية ابن مالك المشهورة في النحو، فإذا قال ابن مالك:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم = واسم وفعل وحرف للكلم
مفرده كلمة والقولي عم = وكلمة بها كلام قد يؤم

نرى الأنبوطي يحوّر ذلك ويقول:

طعامنا الضاني لذيذ للنهم = لحماً وسمناً ثم خبزاً فالتقم
فإنها نفيسة والأكل عم = مطاعما إلى سناها القلب أم

ونراه مرة أخرى يعارض الطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم التي أودعها حكماً ومواعظ متعددة، فحورها الأنبوطي إلى صورة فكاهية عن الطعام وصور نفسه فيها بالشراهة وحب لون خاص من ألوان الطعام وهو لحم الضأن، وافتن في معارضته بحيث جعلنا نشعر أنه رجل محروم من الطعام. فالطغرائي يقول في قصيدته:

أصالة الرأي أصانتني عن الخطل = وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً ومجدي أولا شرع = والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإامة بالزوراء لا سكنى = بها لا ناقتي فيها ولا جمل
ناء عن الأهل صفر الكف منفرد = كالسيف عُرى متناه عن الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني = ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حن راحلتي = ورحلها وقرى العسالة الذبل
أريد بسطة كف أستعين بها = على قضاء حقوق للعلى قبلي
والدهر يعكس أمال ويقنعني = على قضاء حقوق للعلى قبلي
والدهر يعكس أمال ويقنعني = من الغنيمة بعد الكد بالقفل

ثم انظر على ما قاله الشيخ عامر الأنبوطي، وإلى هذه الصورة الكاريكاتورية التي رسم بها نفسه:

أنا جر الضأن ترياق من العلل = وأصحن الرز هي منتهى أملي
أكلي غذاء وأكلي في العشاء على = حد سوى إذا اللحم اسمين قلي
فيم الإقامة بالأرياف لا شبعي = فيها ولا نزهتي فيها ولا جذلي
ناء عن الأهل خالي الجوف منقبض = كمعدم مات من جوع ومن قشل
هلا خليل بدفع الجوع يرحمني = ولا كريم بلحم الضان يسمح لي
طال التلهف للمطعوم واشتعلت = حشاشتي بحمام البيت حين قلي
أريد أكلاً نفيساً استعين به = على العبادات والمطلوب من عملي
والدهر يفجع قلبي من مطاعمه = بالعدس والكشك والبيسار والبصل

ولم يكن الأنبوطي بدعاً في هذا اللون من الفن، إنما سبقه إليه عدد كبير من الشعراء، وجاء بعده عدد كبير من الشعراء أيضاً، ونحن لا نزال إلى الآن نقرأ روائع هذا الفن مما تركه عميد هذا الفن في العصر الحديث وهو المرحوم حسين شفيق المصري، ونقرأ لتلاميذ مدرسته 1.






1 : أطلق هذا الوصف د. محمد كامل حسين.
2 : على أن هذا الفن ليس وقفاً على الأدب العربي إنما نجد في الأدب الإنجليزي ما يعرف "بالبارودي" بالرغم من أن "البارودي" الإنجليزي ليس بكثرة ما نجده في أدبنا العربي.
1 : محمد قنديل البقلي، صور من أدبنا الشعبي أو الفولكلور المصري، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1962، ص 65- 68.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى