محمد السلاموني - الرواية المعاصرة و"الإنسان العادى"

المتابع لما أكتب، يعرف أن مفهوم الواقع الذى أتحدث عنه دائما ليس هو "الوقائع" وإنما ما نتواضع ثقافيا على أنه الواقع، أعنى أن الواقع "مواضعة ثقافية"؛ أى أنه هو "التصور الكلى" الكامن وراء "الوقائع الجزئية" .
وفى الثنائية المتعارضة "واقع / مجاز"، نحن "نتفاعل، نتواصل..." فى المجاز الذى هو "اللغة". أمَّا ما نطلق عليه إصطلاح "الواقع- وقائع، أشياء" فمن المستحيل إدراكه هو نفسه إلاَّ من خلال الوسيط "اللغوى"؛ فاللغة هى الواقع الحقيقى .
والآن، فى عصر التقنية الفائقة؛ عصرالملتيميديا، عصر الصورة "عصر الوسيط الصورى"،
صار لدينا أكثر من واقع؛ "الواقع الإفتراضى" و"الواقع المعزَّز"...
إذن، لدينا "الواقع اللغوى" و"الواقع الإفتراضى" و"الواقع المعزَّز"...
إلى الآن، لا أحد ينتبه إلى أن الواقع "تعدَّد"، ولم يعد واحديا كما كنا نعرفه من قبل.
ولايزال الفن والأدب والفكر يفهمون الواقع ويتعاملون معه وفقا للتعريف القديم، هذا على الرغم من أن هذا التعريف لا يحتوى الواقع الجديد المتعدِّد؛ وهو ما يعنى أن هناك أنواع عديدة من الظواهر الجديدة لم نتناولها بعد، أو نتناولها باعتبارها إمتدادا للواقع القديم.
ما أريد الحديث عنه هنا هو أن الرواية المعاصرة، بميلها الجامح إلى "اللغة التمثيلية- التى تسعى للإمساك بالأشياء والوقائع، واستحضارها بقوة فى مخيِّلة المتلقى"، تلك الرواية، يشتغل كُتَّابها على "الوقائع- فهى ما يسعون بدأب لاستحضاره فى ذهن المتلقى"، وليس على "الواقع اللغوى" كما يعتقدون .
ربما أمكن الجدال بأنهم يحاولون- لا شعوريا- الإمساك بالأشياء نفسها قبل أن تنمحى وتزول أمام زحف الصور، وهو ما يعنى أنهم يبذلون ما بوسعهم للإمساك بالأصل المرتبط بالحس المشترك الكامن وراء الواقع الكلى؛ قبل أن يتحول إلى صور "لغوية" وبصرية "إفتراضية أو معزَّزة"؟. وهو ما قد يعنى أيضا [إنقاذ الوقائع والأشياء من الموت] .
وربما كان هذا هو الداعى الرئيسى لانتشارهم ولإقبال الجمهور على ما يكتبون.
فى الحقيقة، هناك ميل عام إلى "النثر" عوضا عن الشِّعر، حتى الشِّعر نفسه صار نثرا "قصيدة النثر"!...
قبل أن أسترسل، أريد الإشارة إلى أن "الإنسان العادى" هو الذى يصنع العالم الآن.
الإنسان العادى يحيا فى نثر العالم، دائما أبدا- ذلك أنه يتعامل طوال اليوم مع الوقائع الجزئية، فاستعمال الأشياء وإشباع حاجاته، هما شغله الشاغل، ولا وقت لديه للتفكير فيما وراء ما هو إستعمالى... ويبدو أن الوقائع والأشياء الجزئية التى هى عالمه، قد انحرفت عن مسارها المعتاد، ولم تعد كما كان يعرفها من قبل- أو هكذا يشعر بأن العالم لم يعد على ما يُرام .
الروائيون الجُدُد مجرد قُرَّاء عاديون...
قُرَّاء عاديون قرروا التحوُّل إلى الكتابة .
ويبدو أن هذا التحوَّل التاريخى [إذ نحيا الآن فى عصر الكُتَل الجماهيرية] يشى بأفول عصر المثقف النخبوى؛ الغارق فى الكُلِّيات المجردة .
هناك فراغ كبير نَتَج عن تعالى المثقف عن "الوقائع الجزئية"... هذا الفراغ هو ما يحاول الإنسان العادى ملأه الآن .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى