أخيرا وافق زوجي أن نتناول العشاء في مطعمٍ فاخر احتفالا بعيد زواجنا السابع عشر، عقدت الأحلام والآمال على ساعات من الرومانسية الخالصة، لكنه انشغل عني بمكالماته التليفونية التي لا تنتهي.
وضع النادل الأطباق أمامنا، الطعام يبدو لذيذا، لكنني فقدت شهيتي أمام انتظاري الطويل، ومرت الدقائق وئيدة، وأنا ما زلت تحت تأثير أمنية واحدة هي أن يتحدث زوجي معي في أي شيء! أي شيء حتى لو كان تافها مملا! لكنه ظل صامتا، كأنما تستريح شفتاه من عناء الكلام مع الآخرين طوال اليوم!
كدت أصرخ بعلو صوتي: تبا لترقيتك الأخيرة يا زوجي العزيز! فأنا أعلم أنها السبب في ذلك الفتور الذي يغمرنا، لا أنكر أنها رفعت أحوالنا المادية نحو السماء، فقد انتقلنا على إثرها لشقة رحبة، يرمح بها الخيل كما يُقال، لكن ما حاجتي لكل هذه الحجرات؟ يكفيني حجرة واحدة فقط تجمعني بك! وإن لم أجد.. فأحضانك كافية للسكن!
زفرتُ في ضيق، وانغمست في مراقبة المارة من خلال نافذة المطعم، لمحت فتاة تقف بصحبة شاب يماثلها العمر، كانا يأكلان الأيس كريم، ترتفع ضحكاتهما حين تتلطخ الشفاه، تمسح شاربه بمنديلها، فيمنحها ابتسامة عذبة ويده تعبث في ضفيرتيها الطويلتين.
تنحنح زوجـي، فالتفتُ إليه، نظر لطبقي الممتلئ على آخره، وسألني بإشارة من يده عن السبب، أجبته إنني أعاني تقلصا شديدا وأشعر بالبرد، طالت نظرته لي كأنما يبحث عن الحقيقة في وجهي المتجهم، ثم أشار للنادل كي يدفع الحساب ،
وانصرفنا دون كلام.
فكرت في يومي الذي سينتهي تحت وطأة الجدران الباردة، فأنا أحيا وحدة مرهقة خاصة أن الله لم ينعم علينا بالأولاد، وارتضيت أن يصبح زوجي طفلي الوحيد الذي لم ينمُ بأحشائي إنما نما بقلبي، لذا أناديه "بابا" ويناديني "ماما"، وكنتُ أستغل هذا عندما نختلف، فأصيح في وجهه غاضبة حين يراوغني:
-هل يصح أن يعاند الابن أمه هكذا؟
فيضحك سائلا:
-وهل يصح أن تتكلم الابنة مع أبيها هكذا؟
يتبدد غضبي، ندخل في عناقٍ طويل، وننسى ماذا كانت المشكلة من الأساس، كان ذلك قبل أن ننتقل لشقتنا الجديدة ،فنحن الآن لا نلتقي كي نتشاجر! ينزل صباحا وأنا نائمة، ويرجع مجهدا في المساء، بالكاد يأكل لقيمات بسيطة، ثم يرمي جسده المرهق ويغط في نومٍ عميق، اعترف أنني في بعض الأحيان افتعل المشاجرات! لكن حتى رفاهية الشِجار لم تعد متاحة! فما إن أبدأ المعركة حتى يخمدها، ويشير لي أن أكف عما أفعل.
جلستُ في السيارة واجمة، لاحت أمامي قصة الحب الدافئة التي جمعتني بزوجي.. ثم تثلجت، ربما العين أصابتنا كما تقول أمي، وتطالبني بإشعال البخور ورش الملح! انصرفت ببصري نحو الطريق، فرأيتهما تارة أخرى، الفتاة ذات الضفيرتين والشاب ذا الشارب، كانا يتضاحكان أعلى (الموتوسيكل) تحتضنه في حنان، تنام وجنتها على ظهره مستكينة، وتتطاير ضفيرتاها خلف ظهرها، تحسستُ شعري القصير لا إراديا، قصصته لأساير آخر صيحات الموضة، يومها غضب زوجي كثيرا، كان يحب شعري الطويل، هو أيضا لم يستشرني حينما حلق شاربه، وقتها شعرت أنه شخصٌ آخر، تعلل أن الشعر الأبيض قد توغل فيه بشكلٍ هائل ،ثم أضاف في تحدٍ مشيرا لرأسي: "واحدة بواحدة".
التقت عيناي بعيني الفتاة، فابتسمنا في آنٍ واحد، وانبعثت في نفسي أغنية أم كلثوم وهي تدندن بصوتها الشجي (وعمري ما اشكي من حبك... مهما غرامك لوعني.. آه لوعني) غمرني أوج الحنين، وتذكرت عندما كنت أغني تلك الأغنية بين أحضان زوجي في أمسياتنا الجميلة التي أبحث عنها الآن.
أدرت رأسي نحوه، تأملته في اشتياق، ثم قلت له راجية:
-حبيبي... أريد الذهاب لشقتنا القديمة.. ممكن؟!
تأملني مستغربا، ثم ما لبث أن ابتسم، وهز رأسه بالموافقة مشيرا لعينه اليمنى ثم اليسرى أنه سيفعل، وانطلقت السيارة بنا كأنما تتراقص.
فتح زوجي باب الشقة، فانفتحت أبواب الذكريات دفعة واحدة في نفسي، وشعرت أن كل شيء يناديني ويحتضنني في دفء، هرولت نحو حجرة النوم، نفضت السرير، فتصاعدت الأتربة، سعلت بشدة، ثم ضحكت، فتحت الدولاب، مررت بأطراف أصابعي على قمصان النوم القديمة، كانت زاهية للغاية كأنني اشتريتها منذ لحظات، اقتربت من (التسريحة) مسحتُ المرآة الغبشة، لامست زجاجات العطر المصفوفة، فاحت رائحتها دون أن أضغط على فوهتها، جلست على الكرسي الدوار المستدير، حركه زوجي مبتسما، كان يعرف أنني أحب تلك الحركة حين أدور وأدور، فأشعر أن الهموم تتساقط من على كتفي.
توقف الكرسي عن الدوران، فشدني زوجي لأقف، ثم همس في أذني:
-كل عام وأنتِ بخير يا زوجتي العزيزة.. كل عام ونحن معا .
قبلني في رقة، ثم احتضنني، غمرني الدفء، نظرت للمرآة ..ثم شهقت!
لقد استطال شعري في ضفيرتين! ونبت لزوجي شارب!
دعاء البطراوي
وضع النادل الأطباق أمامنا، الطعام يبدو لذيذا، لكنني فقدت شهيتي أمام انتظاري الطويل، ومرت الدقائق وئيدة، وأنا ما زلت تحت تأثير أمنية واحدة هي أن يتحدث زوجي معي في أي شيء! أي شيء حتى لو كان تافها مملا! لكنه ظل صامتا، كأنما تستريح شفتاه من عناء الكلام مع الآخرين طوال اليوم!
كدت أصرخ بعلو صوتي: تبا لترقيتك الأخيرة يا زوجي العزيز! فأنا أعلم أنها السبب في ذلك الفتور الذي يغمرنا، لا أنكر أنها رفعت أحوالنا المادية نحو السماء، فقد انتقلنا على إثرها لشقة رحبة، يرمح بها الخيل كما يُقال، لكن ما حاجتي لكل هذه الحجرات؟ يكفيني حجرة واحدة فقط تجمعني بك! وإن لم أجد.. فأحضانك كافية للسكن!
زفرتُ في ضيق، وانغمست في مراقبة المارة من خلال نافذة المطعم، لمحت فتاة تقف بصحبة شاب يماثلها العمر، كانا يأكلان الأيس كريم، ترتفع ضحكاتهما حين تتلطخ الشفاه، تمسح شاربه بمنديلها، فيمنحها ابتسامة عذبة ويده تعبث في ضفيرتيها الطويلتين.
تنحنح زوجـي، فالتفتُ إليه، نظر لطبقي الممتلئ على آخره، وسألني بإشارة من يده عن السبب، أجبته إنني أعاني تقلصا شديدا وأشعر بالبرد، طالت نظرته لي كأنما يبحث عن الحقيقة في وجهي المتجهم، ثم أشار للنادل كي يدفع الحساب ،
وانصرفنا دون كلام.
فكرت في يومي الذي سينتهي تحت وطأة الجدران الباردة، فأنا أحيا وحدة مرهقة خاصة أن الله لم ينعم علينا بالأولاد، وارتضيت أن يصبح زوجي طفلي الوحيد الذي لم ينمُ بأحشائي إنما نما بقلبي، لذا أناديه "بابا" ويناديني "ماما"، وكنتُ أستغل هذا عندما نختلف، فأصيح في وجهه غاضبة حين يراوغني:
-هل يصح أن يعاند الابن أمه هكذا؟
فيضحك سائلا:
-وهل يصح أن تتكلم الابنة مع أبيها هكذا؟
يتبدد غضبي، ندخل في عناقٍ طويل، وننسى ماذا كانت المشكلة من الأساس، كان ذلك قبل أن ننتقل لشقتنا الجديدة ،فنحن الآن لا نلتقي كي نتشاجر! ينزل صباحا وأنا نائمة، ويرجع مجهدا في المساء، بالكاد يأكل لقيمات بسيطة، ثم يرمي جسده المرهق ويغط في نومٍ عميق، اعترف أنني في بعض الأحيان افتعل المشاجرات! لكن حتى رفاهية الشِجار لم تعد متاحة! فما إن أبدأ المعركة حتى يخمدها، ويشير لي أن أكف عما أفعل.
جلستُ في السيارة واجمة، لاحت أمامي قصة الحب الدافئة التي جمعتني بزوجي.. ثم تثلجت، ربما العين أصابتنا كما تقول أمي، وتطالبني بإشعال البخور ورش الملح! انصرفت ببصري نحو الطريق، فرأيتهما تارة أخرى، الفتاة ذات الضفيرتين والشاب ذا الشارب، كانا يتضاحكان أعلى (الموتوسيكل) تحتضنه في حنان، تنام وجنتها على ظهره مستكينة، وتتطاير ضفيرتاها خلف ظهرها، تحسستُ شعري القصير لا إراديا، قصصته لأساير آخر صيحات الموضة، يومها غضب زوجي كثيرا، كان يحب شعري الطويل، هو أيضا لم يستشرني حينما حلق شاربه، وقتها شعرت أنه شخصٌ آخر، تعلل أن الشعر الأبيض قد توغل فيه بشكلٍ هائل ،ثم أضاف في تحدٍ مشيرا لرأسي: "واحدة بواحدة".
التقت عيناي بعيني الفتاة، فابتسمنا في آنٍ واحد، وانبعثت في نفسي أغنية أم كلثوم وهي تدندن بصوتها الشجي (وعمري ما اشكي من حبك... مهما غرامك لوعني.. آه لوعني) غمرني أوج الحنين، وتذكرت عندما كنت أغني تلك الأغنية بين أحضان زوجي في أمسياتنا الجميلة التي أبحث عنها الآن.
أدرت رأسي نحوه، تأملته في اشتياق، ثم قلت له راجية:
-حبيبي... أريد الذهاب لشقتنا القديمة.. ممكن؟!
تأملني مستغربا، ثم ما لبث أن ابتسم، وهز رأسه بالموافقة مشيرا لعينه اليمنى ثم اليسرى أنه سيفعل، وانطلقت السيارة بنا كأنما تتراقص.
فتح زوجي باب الشقة، فانفتحت أبواب الذكريات دفعة واحدة في نفسي، وشعرت أن كل شيء يناديني ويحتضنني في دفء، هرولت نحو حجرة النوم، نفضت السرير، فتصاعدت الأتربة، سعلت بشدة، ثم ضحكت، فتحت الدولاب، مررت بأطراف أصابعي على قمصان النوم القديمة، كانت زاهية للغاية كأنني اشتريتها منذ لحظات، اقتربت من (التسريحة) مسحتُ المرآة الغبشة، لامست زجاجات العطر المصفوفة، فاحت رائحتها دون أن أضغط على فوهتها، جلست على الكرسي الدوار المستدير، حركه زوجي مبتسما، كان يعرف أنني أحب تلك الحركة حين أدور وأدور، فأشعر أن الهموم تتساقط من على كتفي.
توقف الكرسي عن الدوران، فشدني زوجي لأقف، ثم همس في أذني:
-كل عام وأنتِ بخير يا زوجتي العزيزة.. كل عام ونحن معا .
قبلني في رقة، ثم احتضنني، غمرني الدفء، نظرت للمرآة ..ثم شهقت!
لقد استطال شعري في ضفيرتين! ونبت لزوجي شارب!
دعاء البطراوي