قالوا إنّ أسلافه من أصولٍ أرمينية ، ودليلهم السّاذج حُمرة وجهه القاني التي تُشبه لونَ الطّربوش ، ولغده المُتدلى بنتوءات عريضة ، يفترش فوقَ رقبته الغليظة كضرع بقرة سمينة ، ناهيك عن خده الأثيل الأمرد، وزُرقة في عينيه تُشبه في نقاءها ماء التّرعة ساعة يبعثر الفجر رايته البيضاء ، ما إن يُذكَر اسم ” عزيز أفندي ” بين الفلاحين في أنديتهم ؛ حتى يتغامزوا بكلماتٍ عدت بمرورِ الزّمن أشبه بالوردِ المكرور ، يُقسِمون بأغلظِ أيمانهم :” إنّ صنعة أجداده التي أوكلت إليهِ كُلّ هذا الجاه العريض هي الخمور ، لقد كانوا من أكبر تجّار الخمور في الصّعيد ” غيرَ أحدا منهم لم يستطع إثبات دعواه ، جميعها أضغاث أحلام ، سريعا سريعا تتبخّرُ في نفسِ كُلّ مشتهٍ حاسد ، يتمنّى في دخيلةِ نفسه : ” يا ليتَ لنا مثل ما أوتي عزيز أفندي” ، تتقافز خيالات كثيرة ، تزاحم عقول وضمائر الجالسين ، يأكل الغيظ شغاف القلوب ، يعدّوا عليه أطيانه التي بلغت الألف فدّان ، وماكينات الرّي والحرث التي لا يهدأ ضجيجها ليل نهار ، وأسراب المواشي من كُلّ صنفٍ ، تتناطح بين جَنباتِ الحَظائر ، وبساتين الفاكهة تتلألأ ثمارها لذّة للناظرين ، كأنّها جنة عدن التي وعِدَ المتقين ، يتَمطّى سباعي خفير الإصلاح متثائبا في كُلّ نوبةٍ ، ليقول : ” الملك للهِ ، ما دايم إلّا وجهه ، الكفن مفهوش جيوب ” تتحدّث أبهة قصره عن أنّ صاحبه سليل نعمة وربيب جاه ، يُقسِم ُ” منقاريوس” دلال الزِّمام :” إنّ لمعة زجاج نوافذه المتوهجة ، يراها من على مسافةٍ بعيدة “
لم يُخالِط ” عزيز أفندي ” فلاحي القرية إلّا لِماما ، حتى زوجته الشّقراء وأبنائه في منأى عن عيونهم المتربصة ، فأسوار القصر العالية حِجابا مستورا، يعتقدواأنّها خُلِقت من طينةٍ غير طينتهم ، أية طينة بل قُلْ من لبنٍ حليب ، من عسلٍ مُصفّى ، يُطَالِعون بياض جسمها الوضاح ، ذراعيها العاريتين ، حُمرة تقدح في وجنتيها المكتنزتين لحما طَريا، خصل شعرها الأصفر الوهاج الذي يفوق صُفرة سنابلهم ، هي لا تُشبه بحالٍ من الأحوالِ نساءهم العِجاف ، اللاتي تركن أنوثتهن بين الحقول ، وفوق تراب الجسور وبركها ، ونفضن البقية فوقَ روث البهائم في الحظائرِ، وأمام الأفران وكوانين النَّار ، قالت ” فرحانة ” ضاربة الرّمل :” إن الست هانم ، شابة ريّانة ، في زهرةِ العُمر وبسمة الصِّبا ،ذات قامةٍ سامقة ، وعيون فوارة تُرسِل السِّحر حيث تُرسل النّظر ، سخية اليد ” على عكس زوجها ، فمعروف عنه بخله وشحّه ، تلتمع في عينيهِ شعلة الحِرص ، لا يتحرّج أن يعلنها صريحة أمام جلسائه بصوتٍ راعش : ” هؤلاء الرِّعاع أعدى من بعوض البركة ، إن أعطيتهم يدك التهموا ذراعك ” ، لا يلقي لنصائح أصدقائه بالاً ، حين اعتقدوا أن في تقتيره الزائد السبب في انتكاسِ صحته ، نَصَحوه أكثرَ من مرةٍ بالإحسانِ لهؤلاِء لكن دون فائدة .
صَارت أفعاله مادة للتندّرِ ، حَلفَ ” سطوحي ” المزين يوما برأسِ حماته :” إنّ جيب عزيز أفندي لا يخلو من البلحِ المحمص والكِشك ، يلتهمه ساعة مروره على الغيطان ، وفِي مراتٍ كثيرة يهبط كالعمل الرَّدي فوقَ مناديل الأكل التي يتحلَّق حولها الأُجَرية ، فيأتي عليها دونَما غَضَاضةٍ ، سُرعان ما يتجشأ شاكيا عللهِ وأوجاعه التي لا تنتهي ” ، ساعتئذٍ تأخذ ” سيد مصيلحي ” خفير الدايرة الشَّفَقة ، يُمصمص شفتيه في امتعاضٍ دفين ، يجترّ حكاية مرض البيه الذي حارت فيه الأطباء ، يُردّد بصوتٍ مخنوق :” مسكين البيه بتاعنا ، لا يأكل ولا يشرب إلّا بأمرِ الحكيم ” يمطّ بوزه اليابس متفاصحا :” ملعون أبو المال الذي يجرّ المرض والعلة ، الحمد لله على نعمةِ الصّحة ، عود فجل ، وكسرة عيش ناشف بالدنيا وما عليها ، سلطان زماني ” ، هنا تتعالى الضحكات في سخريةٍ هازئة ، فهم على درايةٍ من أنّ كلامه لا يصدر عن ديانةٍ أو صيانة ، لكنّها قلة الحيلة ، وغطرسة الفقراء وفلسفتهم الفارغة ، فلو كان صادقا ما تعوّد سرقة الذرة من حُقولِ الدايرة ، ولا مدّ يده على سقطِ حديقة سيده ، تبيعه زوجته في الأسواق ، جميعهم وأسلافهم يرددون منذ عقودٍ طويلة هذا اللَّحن الأجوف ، ولكنّهم يتَمنّوا في قرارةٍ نفوسهم المرض ولحس التراب ؛ نظير ساعة نعمة يحيونها في سرايا ” عزيز أفندي ” يذوقوا من خيراتها ، أمّا ” زيدان ” خفير السرايا فدائما ما يُلقي على سيده إشراقا هائلا من التُّقى والهيبةِ ، يتَصَاعد الدّم في رأسهِ حينَ يُذكَر بخل ” عزيز أفندي ” ، يقول بشيءٍ من المُرَاوغةِ والمُخاتلة :” البيه عنده لله كتير ، فعادته في كُلّ رمضان أن يذبح ويوزع على الفقراء ، يا ناس اتقوا الله فيه ” ، ذاتَ صباحٍ داهمت قوة من الحكومة القريةِ ، امتلأت السّرايا والجسور والسّكك بالعسكر المدججين بالسّلاح ، نهروا الأهالي في شدةٍ ، أجبروهم ملازمة منازلهم ، وبعد انجلاء الغبار ، تحرّكت الشّائعات تملأ المصاطب والحقول ، يقول ” عبدالمنجي المنجد” بنبرةٍ الواثق وهو يلضم الإبرة :” لقد اقتادوا عزيز أفندي في ثياب نومهِ مُكبّلا بالحديدِ ، وجدوا في السرايا مخبأ سريا امتلأ بالمصاخيط ، والجواهر الثمينة ، بقية من كنوزِ قارون ولهذا أخذوه ” ، تناثرت القصص من أفواه الحقدِ والمكيدة ، تنهش الرّجل ، جعلت سمعته يوما بعد يومٍ تتساقط رمادا ، فتحت شهية القُصّاص ، اندفعوا بلا رويةٍ يُردّدون من نسجِ خيالهم الباهت :” لديه عصا موسى ، ما إن تمسّ النّحاس حتى تُحيله ذهبا إبريزا ، ولديه أحد عروش الملكة بلقيس، ونخلة من اليَاقوتِ عراجينها من الزّمرد ، وطاحونة تحولُ التُّراب إلى دقيق “، وبعد شهرٍ بالتَّمامِ أذاعَ ” زيدان ” أنّ سيده قد عَادَ ” صَاغ سليم ” يكيد الأعادي ، ويُعيد هيبة السّرايا ورجالها ، لتخرس الألسن ، وتنطفئ نار الشَّماتة ، عادت الأحقاد كما كانت تشبّ من جديدٍ ، تكمن خَلفَ الصّدورِ الحَرِجة ، تنتظرُ يوما تتَشفّى فيهِ ، حتى بعد أن فارَقَ ” عزيز أفندي” دنياهم بسنواتٍ طوال ..
لم يُخالِط ” عزيز أفندي ” فلاحي القرية إلّا لِماما ، حتى زوجته الشّقراء وأبنائه في منأى عن عيونهم المتربصة ، فأسوار القصر العالية حِجابا مستورا، يعتقدواأنّها خُلِقت من طينةٍ غير طينتهم ، أية طينة بل قُلْ من لبنٍ حليب ، من عسلٍ مُصفّى ، يُطَالِعون بياض جسمها الوضاح ، ذراعيها العاريتين ، حُمرة تقدح في وجنتيها المكتنزتين لحما طَريا، خصل شعرها الأصفر الوهاج الذي يفوق صُفرة سنابلهم ، هي لا تُشبه بحالٍ من الأحوالِ نساءهم العِجاف ، اللاتي تركن أنوثتهن بين الحقول ، وفوق تراب الجسور وبركها ، ونفضن البقية فوقَ روث البهائم في الحظائرِ، وأمام الأفران وكوانين النَّار ، قالت ” فرحانة ” ضاربة الرّمل :” إن الست هانم ، شابة ريّانة ، في زهرةِ العُمر وبسمة الصِّبا ،ذات قامةٍ سامقة ، وعيون فوارة تُرسِل السِّحر حيث تُرسل النّظر ، سخية اليد ” على عكس زوجها ، فمعروف عنه بخله وشحّه ، تلتمع في عينيهِ شعلة الحِرص ، لا يتحرّج أن يعلنها صريحة أمام جلسائه بصوتٍ راعش : ” هؤلاء الرِّعاع أعدى من بعوض البركة ، إن أعطيتهم يدك التهموا ذراعك ” ، لا يلقي لنصائح أصدقائه بالاً ، حين اعتقدوا أن في تقتيره الزائد السبب في انتكاسِ صحته ، نَصَحوه أكثرَ من مرةٍ بالإحسانِ لهؤلاِء لكن دون فائدة .
صَارت أفعاله مادة للتندّرِ ، حَلفَ ” سطوحي ” المزين يوما برأسِ حماته :” إنّ جيب عزيز أفندي لا يخلو من البلحِ المحمص والكِشك ، يلتهمه ساعة مروره على الغيطان ، وفِي مراتٍ كثيرة يهبط كالعمل الرَّدي فوقَ مناديل الأكل التي يتحلَّق حولها الأُجَرية ، فيأتي عليها دونَما غَضَاضةٍ ، سُرعان ما يتجشأ شاكيا عللهِ وأوجاعه التي لا تنتهي ” ، ساعتئذٍ تأخذ ” سيد مصيلحي ” خفير الدايرة الشَّفَقة ، يُمصمص شفتيه في امتعاضٍ دفين ، يجترّ حكاية مرض البيه الذي حارت فيه الأطباء ، يُردّد بصوتٍ مخنوق :” مسكين البيه بتاعنا ، لا يأكل ولا يشرب إلّا بأمرِ الحكيم ” يمطّ بوزه اليابس متفاصحا :” ملعون أبو المال الذي يجرّ المرض والعلة ، الحمد لله على نعمةِ الصّحة ، عود فجل ، وكسرة عيش ناشف بالدنيا وما عليها ، سلطان زماني ” ، هنا تتعالى الضحكات في سخريةٍ هازئة ، فهم على درايةٍ من أنّ كلامه لا يصدر عن ديانةٍ أو صيانة ، لكنّها قلة الحيلة ، وغطرسة الفقراء وفلسفتهم الفارغة ، فلو كان صادقا ما تعوّد سرقة الذرة من حُقولِ الدايرة ، ولا مدّ يده على سقطِ حديقة سيده ، تبيعه زوجته في الأسواق ، جميعهم وأسلافهم يرددون منذ عقودٍ طويلة هذا اللَّحن الأجوف ، ولكنّهم يتَمنّوا في قرارةٍ نفوسهم المرض ولحس التراب ؛ نظير ساعة نعمة يحيونها في سرايا ” عزيز أفندي ” يذوقوا من خيراتها ، أمّا ” زيدان ” خفير السرايا فدائما ما يُلقي على سيده إشراقا هائلا من التُّقى والهيبةِ ، يتَصَاعد الدّم في رأسهِ حينَ يُذكَر بخل ” عزيز أفندي ” ، يقول بشيءٍ من المُرَاوغةِ والمُخاتلة :” البيه عنده لله كتير ، فعادته في كُلّ رمضان أن يذبح ويوزع على الفقراء ، يا ناس اتقوا الله فيه ” ، ذاتَ صباحٍ داهمت قوة من الحكومة القريةِ ، امتلأت السّرايا والجسور والسّكك بالعسكر المدججين بالسّلاح ، نهروا الأهالي في شدةٍ ، أجبروهم ملازمة منازلهم ، وبعد انجلاء الغبار ، تحرّكت الشّائعات تملأ المصاطب والحقول ، يقول ” عبدالمنجي المنجد” بنبرةٍ الواثق وهو يلضم الإبرة :” لقد اقتادوا عزيز أفندي في ثياب نومهِ مُكبّلا بالحديدِ ، وجدوا في السرايا مخبأ سريا امتلأ بالمصاخيط ، والجواهر الثمينة ، بقية من كنوزِ قارون ولهذا أخذوه ” ، تناثرت القصص من أفواه الحقدِ والمكيدة ، تنهش الرّجل ، جعلت سمعته يوما بعد يومٍ تتساقط رمادا ، فتحت شهية القُصّاص ، اندفعوا بلا رويةٍ يُردّدون من نسجِ خيالهم الباهت :” لديه عصا موسى ، ما إن تمسّ النّحاس حتى تُحيله ذهبا إبريزا ، ولديه أحد عروش الملكة بلقيس، ونخلة من اليَاقوتِ عراجينها من الزّمرد ، وطاحونة تحولُ التُّراب إلى دقيق “، وبعد شهرٍ بالتَّمامِ أذاعَ ” زيدان ” أنّ سيده قد عَادَ ” صَاغ سليم ” يكيد الأعادي ، ويُعيد هيبة السّرايا ورجالها ، لتخرس الألسن ، وتنطفئ نار الشَّماتة ، عادت الأحقاد كما كانت تشبّ من جديدٍ ، تكمن خَلفَ الصّدورِ الحَرِجة ، تنتظرُ يوما تتَشفّى فيهِ ، حتى بعد أن فارَقَ ” عزيز أفندي” دنياهم بسنواتٍ طوال ..