د. سيد شعبان - مولد الدسوقي

نازعتني نفسي أن أذهب إلى المولد، فبلدتي تتجاوره، وللحمص رغبة لا تقاوم، كما أن للصبا منازع ورغائب تعاود كل حين حتى ولو انحنى الظهر وابيض الشعر وزاغت الأعين، اقتربت شيئا فشيئا من خيام الوافدين فوجدت الآنية التى كانت -يوما- عامرة قد ضربها الجوع وعضها الفقر بنابه، نظرت النسوة اللواتي كن يمرحن في الحلي ويتغنجن في الملاءة غزلانا تسبي العيون، وتمنى الخواطر بآيات الحسن، فما عاد خد ولا بان قد؛
علت شارع " سعد " الرايات الخضراء والألوية الشهباء، وأضيئت الأنوار، وصنعوا هالة تشعرك بأنك تجتاز قوس النصر؛ فقد استدار الزمان دراويش تموج، وهتافات مدوية، شعرت بأنني غدوت صانع الحدث، وأحد الذين يقفون عند عتبة التاريخ، تملكتني الفرحة وغدوت إذ أسير وسط الجموع المنتشية بخمرة الوجد أن صاحب المقام قد أرسل جيشه لفتح المدن العصية، أو أنه أعاد لنا الدولة العلية، تطوف حولي غيد حسان شعورهن تتناثر خيلاء وفتنة فقلت إنهن بنات الروم وقد سيقت لنا متعة، سال لعابي للحظهن وغدوت وأنا العليل شابا يسعى وفتى تراوده الأماني، عدوت وراء واحدة خطوة بخطوة، كلمات تتناثر من فم يصفر فيه الهواء، رمقتني بعين تدور في محجر من مرمر، وتطالع حافظة -قد حشوتها ورقا من كراسة- ظنت أن هذا من " منوف أو أشمون" فأكثر المستهامين يتعممون بشيلان خضراء وتعلو رؤوسهم طواقي تطاوح السماء!
فيما مضى كنت أزور " بندر دسوق" وأرى الغجر وقد نصبت لهن راية ووراء كل واحدة منهن خيط تدبير وصنعة غواية، انحنت بي جهة الصاغة، فهذا محل " سليمة" وآخر "لنخلة".
وبينما أسير إذ انطلقت الجموع ملبية وبالتهليل ترج المكان، إنهم يظنون بالمدينة صاحب الحضرة الشريفة، من كل ناحية يتوافدون وصارت دسوق في يوم الحشر أو هي أقرب، خففت من شكي وقلت إنها جموع ثائرة لم تخمد بها الحرية، أو لعلها تنادي بما عجزت عنه الفئة المثقفة، وها وجدت شابا يغازل فتاة، ويسمعها الشدو آهات!
نظرت صاحب مكتبة" غازي" وكان ثورا هائجا لو مس فيما ظن اللحية والجلباب غجري محتال، وعند القبر تجري مراسم واحتفالات، ورقص بالساحة يغري، فعطفت ناحية " أبو طاحون" وللفسيخ رائحة النتن ووخمة البطن التى تشتهي، درت بالمكان كل ناحية ومن خلفي تعدو غجرية لعوب قد خطت ذقنها بخطين أخضرين ورمتني بسهم لحظها، سرت داخلي رعدة المس، فخفت أن تمسك بي أم الولد، وتكون طامة أن مال بي الهوى، نسيت حاجتي وضاعت همتي، فملت ناحية محل مجاور، فإذا به تعلوه لافتة: مطاهر الفرسان، فجريت هربا، فتلك سخرية لا تغتفر.
وهل بعد بقيت عندي غلفة؟
وفجأة اقترب مني وللقرب منه وجل، وتحسس هويتي، فدوت منه صافرة أن وجد بغيته، ماسك قلم وصاحب ريشة، وقد جاءته التعليمات أن من دخل ومعه القلم فهو آبق، حاولت التشكي ورجوته السلامة وله عهد القرابة ألا أذكر شيئا، وما أنا إلا من آل البيت تقية، وبالنسب العلوي معي وثيقة، تهللت أساريره وقبل يدي، وتمسح بي؛ لا أدري أنني سيد وأن النسب شريف!
ولو كانت أمي من العامة وأبي من الفلاحين الذين جاء أجدادهم فارين من بطش الغزاة فيما سمي هوجة عرابي لرمي بي في قرارة جب عتيق.
ألقيت عناء التفكير وقلت لأتبسط ساعة، يحلو من السمر لهو، وجدت بائع الشخاليل يتراقص طربا، والدراويش يتطوحون كما مست الكهرباء لاهيا، وبين لحظة وأخرى عناق وقبل تحت ستار خيام تضج سكرا، تسللت لواذا فمعاذ الله أن يجدني حيث نهاني، أسير خطوة وأختلس نظرة؛ فما تنفك نفسي تنازعني، خلصت من هذا الحفل الذي غاب صاحبه، وانتبهت فإذا أم والهة تندب وليدها وقد أشيع أن الغجر يسرقون الأطفال.
استدرت موليا جهة الميدان الأخضر. اتناول شطيرة مما نفحني الدراويش، لحم بخبز.
حمدت الله وإذا بهم يطفون حولي، دلهم الرجل الذي كاد يشي بي، أنني من آل البيت صاحب نسب شريف، جاءوا بحصان وعمامة خضراء، أركبوني وبالطبل والزمر زفوني، هلات فرح وسرور ودق طبل في حبور، مدد يا صاحب الزمان وولي المقام، زغاريد تتراقص منها نسوة، وصافرات تدوي فإذا حرس وجند.
هتاف هنا ودعاء هناك.
خلتني وليا.
فالخداع شكل الجنون، تماديت في تلك الحالة، تتساقط من فمي ريالة وتعبث يدي في لحيتي لزوم الولاية، ثمة ذبابة تطن في أذني، يكاد قلبي ينخلع، فالسيف يقترب من رقبتي لو فتحوا بطاقة هويتي!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى