وصل أول جندي أبيض إلى ساحة المعركة، بنشاط وحماسة وقف منتصبا عند منتصف السفح الذي ستُبنى عليه القلعة، شدّ بندقيته إلى جانبه، وأخذ يلتقط أنفاسه المتسارعة، ويمسح العرق عن وجهه ورقبته.. بعد دقائق قليلة وصل جندي آخر، وأخذ مكانه قبالة الهضبة الصغيرة المخصصة للخيل، تبادل الجنديان التحايا ونظرات التشجيع.. بعد دقيقتين وصل جندي ثالث، كان نحيفا بشكل لا يصدق، ومنهكا، وبالكاد يتنفس من خلف بزته العسكرية الثقيلة.. سأله رفيقه بتعجب: لم أنت نحيف إلى هذه الدرجة؟ هل أنت قادم من مجاعة؟ أجابه باستسلام، كما لو أنه معتاد على هذا السؤال: حين تكون تابعاً لفيل، لن يتبقَّ لك الكثير من الطعام..
وخلال الدقائق العشر التالية كان ثلاثة جنود آخرين قد أخذوا مواقعهم في الجهة اليسرى من الصف، وبالترتيب ذاته.. وبقي متسع لجنديين، مضت خمس دقائق كاملة ولم يمتلئ الصف بتشكيلته العسكرية الكاملة..
- أين بقية الجنود؟ ألا يخشون من تعرضهم للعقوبة بسبب تأخيرهم؟ تساءل الجندي الأول.
- لا بد أن السبب وعورة الطريق، أو أزمة السير.. أجاب الجندي الثاني.
- يبدو أنكما جنديان مستجدان؟ سألهما الجندي النحيف.
- بالفعل، فهذه أول حرب سنخوضها، بعد اجتيازنا فترة التدريب العسكري والتعبئة الحزبية.. أجابا بصوت واحد.
- أما أنا فهذه سادس حرب أخوضها، بالإضافة لخمس معارك جانبية، فمن خبرتي الطويلة، أستطيع أن أخبركم أن سبب تأخيرهما لأنهما يتبعان الملك والوزير، لذا سيكونان آخر الواصلين..
وبخطوات مرتبة وصلت القلعة، وسرعان ما انتصبت في مكانها المعتاد على سفح الجبل في الزاوية اليسرى، ثم جاء الحصان يمشي خببا متخايلا ثم قفز مستقرا على قمة الهضبة إلى جوار القلعة، متمتعا بظلها الوارف، خاصة وأن الجو كان حارا أكثر من المعتاد.. أما الفيل فكان يجر جسده ببطء ولكن بثقة، ومع كل خطوة تهتز الرقعة تحت أقدامه الثقيلة.. الأمر ذاته تكرر في ميمنة الصف الأول.. وبعد دقيقتين، بخفة ورشاقة وبتواضع مصطنع أخذ الوزير مكانه إلى جانب مقعد الملك..
بدت على الجميع مشاعر القلق والتوتر وهم ينتظرون وصول الملك وحارسه الأمين.. والصمت يخيم على المكان..
بكل خيلاء الملوك، وصل الموكب الملكي مصحوبا بفرقة موسيقية تدق طبول الحرب، فيما بدأ الجنود وحاشية الملك (القلعتين والحصانين والفيلين والوزير) يرددون النشيد الوطني بصوت خاشع ومهيب..
اعتلى الملك كرسيه المزخرف بالصّدَف والأحجار الكريمة، بينما يتلألأ التاج المذهب فوق رأسه.. ثم أشار للجميع بتحيته المعهودة ماداً ذراعه اليمنى على طولها.. وبحركة متسقة استدار الجنود في الصف الثاني للخلف، وأحنوا رؤوسهم خضوعا واحتراما للملك، مرددين نشيدا واحدا وبصوت جماعي: يا صاحب الجلالة: "نحن جنودك وخدامك، نذرنا أنفسنا لخدمتك، وأقسمنا على طاعتك.. نرجو أن ننال شرف الموت دفاعا عن عرشكم السامي". ثم ساد الصمت من جديد.
وبينما أخذ الجنود يتمتمون فيما بينهم، ويتساءلون بقلق عن خطة الهجوم، ومدى جاهزيتهم، ومدى قوة الأعداء.. أخرج الوزير من معطفه أسطوانة معدنية، وأخذ يمددها حتى نهايتها، وقرّبها من عينه، وأخذ يرقب الجبهة المقابلة.. ويهمس بصوت منخفض في أُذن الملك وينقل له تطورات الموقف.. يبدو أن الأعداء مستعدين بشكل أفضل هذه المرة، فقد اكتملت تشكيلاتهم بسرعة، وجنودهم يقظين ولكن بالأسحة ذاتها، وملكهم يبدو فرحا مزهوا بنفسه.. لكني أؤكد لك يا صاحب الجلالة أننا سنهزمهم شر هزيمة.. وسنلقتنهم درسا سيدرسونه لأحفادهم..
دار الوزير بمنظاره المقرب بسرعة على تشكيلات العدو، لكنه ركز بشكل خاص على الوزير الأسود، تأمل في وجهه، راقب حركات جسده، إيماءاته، حاول أن يقرأ ما تقوله حركات شفتيه.. كان يدرك أنه الخطر الحقيقي، وأنّ التحدي الأكبر أن يعرف خطته، حينها سيكون من السهل هزيمته.. وأخيرا التقت عينا الوزيرين اللدودين عبر منظاريهما.. وتبادلا ابتسامة ماكرة..
فرك الوزير الأبيض يديه بحماسة، وبدأ يلقي خطبته العصماء المعتادة.. مذكّراً الجنود وقادة الفرق بضرورة الالتزام بأوامره وتعليماته، مشددا على منع أي شخص من التحرك من تلقاء نفسه.. قائلا بصوت جهوري: نفذ دون نقاش، من يعترض سيواجه محكمة عسكرية.. أطيعوا أوامري وسيكون النصر حليفنا بإذن الله.. وبالطبع لم يخبر أحدا بخطته..
بدأت المعركة بتقدم الجندي الأبيض الثاني خطوتين إلى الأمام.. في الجهة المقابلة تقدم الجندي الأسود الأول خطوتين أيضا.. ثم تقدم كل جندي أبيض خطوة واحدة، كما فعل الجنود السود الشيء نفسه..
كان الملك صامتا، مطمئنا، يحمل في يده قدحا من النبيذ، ويحتسيه على مهل.. بينما كان الوزير متحفزا عصبيا يحمل في يمينه جهاز اتصال لاسلكي، وفي شِماله منظاره المقرب..
أيها الحندي: تقدم خطوة أخرى.. وأنت اتبعه.. أيها الحصان: تهيأ للقفز.. يا فيل: تقدم بزاوية 45 أربع خطوات.. أيتها القلعة: تنبهي من أي محاولة للاختراق، نحن نعتمد عليكِ كثيرا.. أيها الفيل الأيسر: إرجع للوراء وبنفس الزاوية خطوتين.. هكذا كان الوزير منهمكا في توجيهاته لضمان نجاح خطته "السرية".. بينما بدأ الملك بالتململ..
مضت نصف ساعة بين كر وفر، دون خسارة جندي واحد، وهذه بشارة جيدة.. مقابل مقتل جنديين من جبهة الأعداء..
لم تتأثر معنويات الجيش في الجبهة المضادة بسبب مقتل الجنديين، فسرعان ما تم قتل ثلاثة جنود بيض مقابلهم.. ثم اشتدت حمأة الصراع، خاصة بعد سقوط أول حصان أبيض.. وعلى إثر ذلك قرر الوزير محاصرة القلعة السوداء، بل والعمل على اختراقها من الداخل.. أو حرقها بمن فيها إذا لزم الأمر.. لذا أصدر أمرا للفيل بالانتقال خلف خطوط العدو بقفزة واحدة والوقوف تماما قبالة القلعة، لكن الفيل رجاه أن يعيد النظر في تلك الخطوة المتسرعة، لأنه سيكون في مرمى النيران، ومع ذلك لم يأبه الوزير لطلبه، وأمره بحدة وصرامة أن ينفذ التعليمات، فانصاع الفيل صاغرا ووقف في المكان المحدد ينتظر مصيره المحتوم.. في أقل من دقيقة كان الحصان الأسود يقفز بخفة متجاوزا جنديا أبيضا كان يقف في الطريق حتى كادت حوافره أن ترتطهم برأسه، منقضا على الفيل منهيا حياته في لحظة..
على الفور صوّب الجندي الأبيض بندقيته باتجاه الحصان منتظرا أمر وزيره.. أدرك الحصان ورطته، وأنه هالك لا محالة، فدمعت عينيه بعد أن أدرك أن نهايته باتت وشيكة، وما آلمه أنَّ نهايته ستكون على يد جندي وضيع، من المسافة صفر.. بعد ثوانٍ قليلة صدر الأمر للجندي بالتقدم مباشرة، فخر الحصان صريعا..
كانت وكالات الأنباء وعدد كبير من المراسلين الحربيين ينقلون سير المعركة أولا بأول، وفي بث مباشر.. ظهر المذيع على شاشة التلفزيون الوطني بصوته الإذاعي الخشن وهو يتلو البيان الأول: "يا جماهير أمتنا العظيمة، ونحن نمر في مرحلة بالغة الدقة والحساسية.."، ثم بدأ يتلو نشرة الأخبار: تقهقُر قوات العدو أمام ضربات جنودنا البواسل.. كما أكد وزير الدفاع أن النصر بات وشيكا، وأنّ الملك صامدٌ في عرشه، ولم يتعرض لأي تهديد..
وفي هذه الأثناء، كان التلفزيون الوطني في الجهة المقابلة ينقل الأخبار ذاتها، وبنفس النبرة، ولكن مع تغيير في ترتيب الجمل، مع التأكيد على حتمية إحراز النصر..
أما صحيفة "الديار" فقد أجرى مراسلها مقابلات حصرية مع الجنود ومن ساحة المعركة، فيما كتب رئيس التحرير تحليلا سياسيا "عميقا" تناول فيه طبيعة المعركة، واختلافها عن المعارك السابقة، واصفا إياها ب"التاريخية" و"الحاسمة".. وأنها تتويج للإستراتيجية الوطنية التي خطها جلالة الملك شخصيا..
فيما خصصت صحيفة "ناشيونال تايمز" تقريرا مفصلا عن أسباب ومبررات المعركة، وتداعياتها المستقبلية، مدعمة بشهادات الجنود وشخصيات بارزة من الحاشية المقربة للعرش، وتصريحات موثقة للوزير الأول، حيث قال الجندي (س.ع): إننا نخوض صراعا طبقيا ضد الإمبريالية والرجعية.. فيما عبّر الجندي (أ، ف) عن إيمانه بقدسية المعركة، وعن فخره بقتله ثلاثة جنود "أنجاس"، وأنه يتمنى الشهادة.. بينما أكد الجندي (ي. ل) أن هزيمة الملاحدة والكفار مسألة وقت.. أما الجندي (ن، و) فقد وصف الأعداء ب"الكومبرادور"، و"حلفاء الاستعمار"، و"اليمين المتطرف"..
لكن المفاجأة الصاعقة كانت في المؤتمر الصحافي الذي عقده الحصان الأول.. حيث رفض اتهامه بالمنشق، أو الهارب.. واصفا نفسه بالثائر، والحر، وأنه يقود ثورة تصحيحية، وأنه سيطيح بالملكية الرجعية، وسيدعو لانتخابات ديمقراطية شفافة جدا.. وفي رده على سر التضارب في تصريحات الجنود، قال إنهم يرددون مصطلحات حفظوها غيبا.. وعن خطة الوزير السرية، قال إنه لا يمتلك أي خطة، بل هو مجرد متملق، وألعوبة في يد الملك.. خاتما قوله بأن الملك ذاته لا يملك خطة، وهناك قوى خفية تحركه، رافضا الإفصاح عن ماهية تلك القوى..
مر يومان على بدء الحرب، وبدأت مشاهد الدمار تغطي شاشات التلفاز، وصور عائلات الجنود وأفواج اللاجئين وهي تحاول اجتياز الحدود.. فيما تناقلت وكالات الأنباء أخبارا عن احتمالية التوصل لقرار وقف إطلاق النار، يعقبه عقد هدنة طويلة الأمد، وقد تنتهي بمصالحة تاريخية.. لكن الناطق الرسمي لحزب البيض نفى تلك الأنباء، ودعا الجماهير للالتفاف حول الزعيم المفدى..
ومع تصاعد الأحداث، كان جندي أبيض قد وقف عند خط التماس الفاصل بين ساحته وساحة الأعداء، يقابله تماما جندي أسود، يحملان العتاد ذاته، لا يفصلها شيء.. كل منهما يرغب بالتحرك، ويتحرق شوقا لقتل الآخر، ولكن، وحسب قوانين الصراع لا يستطيع أي منهما التحرك، إلا إذا تصادف أن وقف جندي معادي في الزاوية المقابلة، حينها يستطيع الانطلاق والحلول محله.. لكن الزاويتين اليمنى واليسرى ظلتا شاغرتين منسيتين.. وهكذا ظل الجنديان واقفان كصنمين.. يمر الوقت عليهما دون حراك.. ينتظر كل منهما نقلة من وزيره تتيح له الحركة.. لكن تلك النقلة لم تأتِ.. فظلا ينتظران، يحدقان في وجهي بعضهما البعض، يتبادلان الشتائم والتهديدات.. يتجادلان بحدة، ومع طول الوقت صارا يخوضان حوارات عديدة في مواضيع شتى، للتسلية وقتل الوقت..
وصلت أخبار الجنديين العالقين إلى مسامع الحصان، فأرسل من طرفه مندوبا ليفاوضهما على الانضمام للتحالف الوطني، وتشكيل جبهة إنقاذ..
- ستظلان عالقيْن هنا إلى الأبد.. لن تتحررا إلا باللحاق بثورتنا المظفرة..
- أنتم مجرد مرتزقة، وثورة مضادة، ومتمردون، وانقلابيون.. وقد خنتم الوطن والملك.. قال الجندي الأبيض..
- بل أنتم مرتدون، وطابور خامس، وعقيدتكم منحرفة.. قال الجندي الأسود..
انفرد المفاوض بالجندي الأبيض ونصحه ألا يضيع عمره بالعناد والمكابرة.. وذكّره بأن والده وجده وجد جده كانوا جنودا مثله، وماتوا جنودا.. وقد صاروا نسيا منسيا.. ومجرد ذكرى بائسة حزينة.. وأنهى بقوله: "ستموت مثل أسلافك"..
ثم انفرد بالجندي الأسود، وهمس في أذنه: طالما لم تغادر تلك الرقعة اللعينة لن تفهم قواعد اللعبة، ولن ترى كيف ستنتهي الحرب بالصلح وتصافح الملكين، تمهيدا لجولة ثانية وثالثة..
لم تفضِ مباحثات المندوب مع الجنديين لأي نتيجة.. فعاد إلى صاحبه ليتابعا تطورات الأحداث.. مع جمهور المتابعين..
في اليوم الثالث كان جميع الجنود (البيض والسود) قد لقوا حتفهم، باستثناء الجنديين العالقين.. كما ماتت الأحصنة كلها، والفيلة، وظلت قلعة يتيمة مهجورة لكل ملك، يحاصرها الوزير المضاد.. وبعد مفاوضات سرية بين الملكين تصالحا على أن يضحّي كل ملكٍ بوزيره..
فيما كان كل ملكٍ يشرب نخب انتصاره المبين.. كان الجنديان مكانهما، بالهيئة نفسها، ويتجادلان في المواضيع ذاتها.. ولكن بصوت أعلى..
وخلال الدقائق العشر التالية كان ثلاثة جنود آخرين قد أخذوا مواقعهم في الجهة اليسرى من الصف، وبالترتيب ذاته.. وبقي متسع لجنديين، مضت خمس دقائق كاملة ولم يمتلئ الصف بتشكيلته العسكرية الكاملة..
- أين بقية الجنود؟ ألا يخشون من تعرضهم للعقوبة بسبب تأخيرهم؟ تساءل الجندي الأول.
- لا بد أن السبب وعورة الطريق، أو أزمة السير.. أجاب الجندي الثاني.
- يبدو أنكما جنديان مستجدان؟ سألهما الجندي النحيف.
- بالفعل، فهذه أول حرب سنخوضها، بعد اجتيازنا فترة التدريب العسكري والتعبئة الحزبية.. أجابا بصوت واحد.
- أما أنا فهذه سادس حرب أخوضها، بالإضافة لخمس معارك جانبية، فمن خبرتي الطويلة، أستطيع أن أخبركم أن سبب تأخيرهما لأنهما يتبعان الملك والوزير، لذا سيكونان آخر الواصلين..
وبخطوات مرتبة وصلت القلعة، وسرعان ما انتصبت في مكانها المعتاد على سفح الجبل في الزاوية اليسرى، ثم جاء الحصان يمشي خببا متخايلا ثم قفز مستقرا على قمة الهضبة إلى جوار القلعة، متمتعا بظلها الوارف، خاصة وأن الجو كان حارا أكثر من المعتاد.. أما الفيل فكان يجر جسده ببطء ولكن بثقة، ومع كل خطوة تهتز الرقعة تحت أقدامه الثقيلة.. الأمر ذاته تكرر في ميمنة الصف الأول.. وبعد دقيقتين، بخفة ورشاقة وبتواضع مصطنع أخذ الوزير مكانه إلى جانب مقعد الملك..
بدت على الجميع مشاعر القلق والتوتر وهم ينتظرون وصول الملك وحارسه الأمين.. والصمت يخيم على المكان..
بكل خيلاء الملوك، وصل الموكب الملكي مصحوبا بفرقة موسيقية تدق طبول الحرب، فيما بدأ الجنود وحاشية الملك (القلعتين والحصانين والفيلين والوزير) يرددون النشيد الوطني بصوت خاشع ومهيب..
اعتلى الملك كرسيه المزخرف بالصّدَف والأحجار الكريمة، بينما يتلألأ التاج المذهب فوق رأسه.. ثم أشار للجميع بتحيته المعهودة ماداً ذراعه اليمنى على طولها.. وبحركة متسقة استدار الجنود في الصف الثاني للخلف، وأحنوا رؤوسهم خضوعا واحتراما للملك، مرددين نشيدا واحدا وبصوت جماعي: يا صاحب الجلالة: "نحن جنودك وخدامك، نذرنا أنفسنا لخدمتك، وأقسمنا على طاعتك.. نرجو أن ننال شرف الموت دفاعا عن عرشكم السامي". ثم ساد الصمت من جديد.
وبينما أخذ الجنود يتمتمون فيما بينهم، ويتساءلون بقلق عن خطة الهجوم، ومدى جاهزيتهم، ومدى قوة الأعداء.. أخرج الوزير من معطفه أسطوانة معدنية، وأخذ يمددها حتى نهايتها، وقرّبها من عينه، وأخذ يرقب الجبهة المقابلة.. ويهمس بصوت منخفض في أُذن الملك وينقل له تطورات الموقف.. يبدو أن الأعداء مستعدين بشكل أفضل هذه المرة، فقد اكتملت تشكيلاتهم بسرعة، وجنودهم يقظين ولكن بالأسحة ذاتها، وملكهم يبدو فرحا مزهوا بنفسه.. لكني أؤكد لك يا صاحب الجلالة أننا سنهزمهم شر هزيمة.. وسنلقتنهم درسا سيدرسونه لأحفادهم..
دار الوزير بمنظاره المقرب بسرعة على تشكيلات العدو، لكنه ركز بشكل خاص على الوزير الأسود، تأمل في وجهه، راقب حركات جسده، إيماءاته، حاول أن يقرأ ما تقوله حركات شفتيه.. كان يدرك أنه الخطر الحقيقي، وأنّ التحدي الأكبر أن يعرف خطته، حينها سيكون من السهل هزيمته.. وأخيرا التقت عينا الوزيرين اللدودين عبر منظاريهما.. وتبادلا ابتسامة ماكرة..
فرك الوزير الأبيض يديه بحماسة، وبدأ يلقي خطبته العصماء المعتادة.. مذكّراً الجنود وقادة الفرق بضرورة الالتزام بأوامره وتعليماته، مشددا على منع أي شخص من التحرك من تلقاء نفسه.. قائلا بصوت جهوري: نفذ دون نقاش، من يعترض سيواجه محكمة عسكرية.. أطيعوا أوامري وسيكون النصر حليفنا بإذن الله.. وبالطبع لم يخبر أحدا بخطته..
بدأت المعركة بتقدم الجندي الأبيض الثاني خطوتين إلى الأمام.. في الجهة المقابلة تقدم الجندي الأسود الأول خطوتين أيضا.. ثم تقدم كل جندي أبيض خطوة واحدة، كما فعل الجنود السود الشيء نفسه..
كان الملك صامتا، مطمئنا، يحمل في يده قدحا من النبيذ، ويحتسيه على مهل.. بينما كان الوزير متحفزا عصبيا يحمل في يمينه جهاز اتصال لاسلكي، وفي شِماله منظاره المقرب..
أيها الحندي: تقدم خطوة أخرى.. وأنت اتبعه.. أيها الحصان: تهيأ للقفز.. يا فيل: تقدم بزاوية 45 أربع خطوات.. أيتها القلعة: تنبهي من أي محاولة للاختراق، نحن نعتمد عليكِ كثيرا.. أيها الفيل الأيسر: إرجع للوراء وبنفس الزاوية خطوتين.. هكذا كان الوزير منهمكا في توجيهاته لضمان نجاح خطته "السرية".. بينما بدأ الملك بالتململ..
مضت نصف ساعة بين كر وفر، دون خسارة جندي واحد، وهذه بشارة جيدة.. مقابل مقتل جنديين من جبهة الأعداء..
لم تتأثر معنويات الجيش في الجبهة المضادة بسبب مقتل الجنديين، فسرعان ما تم قتل ثلاثة جنود بيض مقابلهم.. ثم اشتدت حمأة الصراع، خاصة بعد سقوط أول حصان أبيض.. وعلى إثر ذلك قرر الوزير محاصرة القلعة السوداء، بل والعمل على اختراقها من الداخل.. أو حرقها بمن فيها إذا لزم الأمر.. لذا أصدر أمرا للفيل بالانتقال خلف خطوط العدو بقفزة واحدة والوقوف تماما قبالة القلعة، لكن الفيل رجاه أن يعيد النظر في تلك الخطوة المتسرعة، لأنه سيكون في مرمى النيران، ومع ذلك لم يأبه الوزير لطلبه، وأمره بحدة وصرامة أن ينفذ التعليمات، فانصاع الفيل صاغرا ووقف في المكان المحدد ينتظر مصيره المحتوم.. في أقل من دقيقة كان الحصان الأسود يقفز بخفة متجاوزا جنديا أبيضا كان يقف في الطريق حتى كادت حوافره أن ترتطهم برأسه، منقضا على الفيل منهيا حياته في لحظة..
على الفور صوّب الجندي الأبيض بندقيته باتجاه الحصان منتظرا أمر وزيره.. أدرك الحصان ورطته، وأنه هالك لا محالة، فدمعت عينيه بعد أن أدرك أن نهايته باتت وشيكة، وما آلمه أنَّ نهايته ستكون على يد جندي وضيع، من المسافة صفر.. بعد ثوانٍ قليلة صدر الأمر للجندي بالتقدم مباشرة، فخر الحصان صريعا..
كانت وكالات الأنباء وعدد كبير من المراسلين الحربيين ينقلون سير المعركة أولا بأول، وفي بث مباشر.. ظهر المذيع على شاشة التلفزيون الوطني بصوته الإذاعي الخشن وهو يتلو البيان الأول: "يا جماهير أمتنا العظيمة، ونحن نمر في مرحلة بالغة الدقة والحساسية.."، ثم بدأ يتلو نشرة الأخبار: تقهقُر قوات العدو أمام ضربات جنودنا البواسل.. كما أكد وزير الدفاع أن النصر بات وشيكا، وأنّ الملك صامدٌ في عرشه، ولم يتعرض لأي تهديد..
وفي هذه الأثناء، كان التلفزيون الوطني في الجهة المقابلة ينقل الأخبار ذاتها، وبنفس النبرة، ولكن مع تغيير في ترتيب الجمل، مع التأكيد على حتمية إحراز النصر..
أما صحيفة "الديار" فقد أجرى مراسلها مقابلات حصرية مع الجنود ومن ساحة المعركة، فيما كتب رئيس التحرير تحليلا سياسيا "عميقا" تناول فيه طبيعة المعركة، واختلافها عن المعارك السابقة، واصفا إياها ب"التاريخية" و"الحاسمة".. وأنها تتويج للإستراتيجية الوطنية التي خطها جلالة الملك شخصيا..
فيما خصصت صحيفة "ناشيونال تايمز" تقريرا مفصلا عن أسباب ومبررات المعركة، وتداعياتها المستقبلية، مدعمة بشهادات الجنود وشخصيات بارزة من الحاشية المقربة للعرش، وتصريحات موثقة للوزير الأول، حيث قال الجندي (س.ع): إننا نخوض صراعا طبقيا ضد الإمبريالية والرجعية.. فيما عبّر الجندي (أ، ف) عن إيمانه بقدسية المعركة، وعن فخره بقتله ثلاثة جنود "أنجاس"، وأنه يتمنى الشهادة.. بينما أكد الجندي (ي. ل) أن هزيمة الملاحدة والكفار مسألة وقت.. أما الجندي (ن، و) فقد وصف الأعداء ب"الكومبرادور"، و"حلفاء الاستعمار"، و"اليمين المتطرف"..
لكن المفاجأة الصاعقة كانت في المؤتمر الصحافي الذي عقده الحصان الأول.. حيث رفض اتهامه بالمنشق، أو الهارب.. واصفا نفسه بالثائر، والحر، وأنه يقود ثورة تصحيحية، وأنه سيطيح بالملكية الرجعية، وسيدعو لانتخابات ديمقراطية شفافة جدا.. وفي رده على سر التضارب في تصريحات الجنود، قال إنهم يرددون مصطلحات حفظوها غيبا.. وعن خطة الوزير السرية، قال إنه لا يمتلك أي خطة، بل هو مجرد متملق، وألعوبة في يد الملك.. خاتما قوله بأن الملك ذاته لا يملك خطة، وهناك قوى خفية تحركه، رافضا الإفصاح عن ماهية تلك القوى..
مر يومان على بدء الحرب، وبدأت مشاهد الدمار تغطي شاشات التلفاز، وصور عائلات الجنود وأفواج اللاجئين وهي تحاول اجتياز الحدود.. فيما تناقلت وكالات الأنباء أخبارا عن احتمالية التوصل لقرار وقف إطلاق النار، يعقبه عقد هدنة طويلة الأمد، وقد تنتهي بمصالحة تاريخية.. لكن الناطق الرسمي لحزب البيض نفى تلك الأنباء، ودعا الجماهير للالتفاف حول الزعيم المفدى..
ومع تصاعد الأحداث، كان جندي أبيض قد وقف عند خط التماس الفاصل بين ساحته وساحة الأعداء، يقابله تماما جندي أسود، يحملان العتاد ذاته، لا يفصلها شيء.. كل منهما يرغب بالتحرك، ويتحرق شوقا لقتل الآخر، ولكن، وحسب قوانين الصراع لا يستطيع أي منهما التحرك، إلا إذا تصادف أن وقف جندي معادي في الزاوية المقابلة، حينها يستطيع الانطلاق والحلول محله.. لكن الزاويتين اليمنى واليسرى ظلتا شاغرتين منسيتين.. وهكذا ظل الجنديان واقفان كصنمين.. يمر الوقت عليهما دون حراك.. ينتظر كل منهما نقلة من وزيره تتيح له الحركة.. لكن تلك النقلة لم تأتِ.. فظلا ينتظران، يحدقان في وجهي بعضهما البعض، يتبادلان الشتائم والتهديدات.. يتجادلان بحدة، ومع طول الوقت صارا يخوضان حوارات عديدة في مواضيع شتى، للتسلية وقتل الوقت..
وصلت أخبار الجنديين العالقين إلى مسامع الحصان، فأرسل من طرفه مندوبا ليفاوضهما على الانضمام للتحالف الوطني، وتشكيل جبهة إنقاذ..
- ستظلان عالقيْن هنا إلى الأبد.. لن تتحررا إلا باللحاق بثورتنا المظفرة..
- أنتم مجرد مرتزقة، وثورة مضادة، ومتمردون، وانقلابيون.. وقد خنتم الوطن والملك.. قال الجندي الأبيض..
- بل أنتم مرتدون، وطابور خامس، وعقيدتكم منحرفة.. قال الجندي الأسود..
انفرد المفاوض بالجندي الأبيض ونصحه ألا يضيع عمره بالعناد والمكابرة.. وذكّره بأن والده وجده وجد جده كانوا جنودا مثله، وماتوا جنودا.. وقد صاروا نسيا منسيا.. ومجرد ذكرى بائسة حزينة.. وأنهى بقوله: "ستموت مثل أسلافك"..
ثم انفرد بالجندي الأسود، وهمس في أذنه: طالما لم تغادر تلك الرقعة اللعينة لن تفهم قواعد اللعبة، ولن ترى كيف ستنتهي الحرب بالصلح وتصافح الملكين، تمهيدا لجولة ثانية وثالثة..
لم تفضِ مباحثات المندوب مع الجنديين لأي نتيجة.. فعاد إلى صاحبه ليتابعا تطورات الأحداث.. مع جمهور المتابعين..
في اليوم الثالث كان جميع الجنود (البيض والسود) قد لقوا حتفهم، باستثناء الجنديين العالقين.. كما ماتت الأحصنة كلها، والفيلة، وظلت قلعة يتيمة مهجورة لكل ملك، يحاصرها الوزير المضاد.. وبعد مفاوضات سرية بين الملكين تصالحا على أن يضحّي كل ملكٍ بوزيره..
فيما كان كل ملكٍ يشرب نخب انتصاره المبين.. كان الجنديان مكانهما، بالهيئة نفسها، ويتجادلان في المواضيع ذاتها.. ولكن بصوت أعلى..
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com