راعتني هذه الكلمة وأنا في أول يوم لي في هذا المكتب. إذ كيف تتعامل رئيسة القسم مع موظفة زميلة بهذا الأسلوب! فتقول لها: اخرسي لا تنطقي؟!
لم تكن هذه أولى الزواجر التي سمعتها منها هذا اليوم، لكن بمعدل كل خمسة دقائق تصرخ فيها بمثل هذه العبارة، فتخضع لها سمية ، وما إن تهم بالكلام حتي يعود الزجر مرة أخرى بصوت كأنه الرعد ، فتعود سمية للخرس.
لاحظت أنها لا تسمح بخروجها من المكتب إلا إذا كانت ستقضي احتياجات خاصة بها، كشراء خضار، أو توقيع مستند من مدير المؤسسة، أو غسل أكواب الشاي للمكتب كله، أو الصعود والهبوط من الدور الأول للرابع لتوصيل احتياجاتها للزملاء.
أشد ما آلمني هو انسحاق سمية أمامها فلم أرها أبدا تعترض على أي أمر، ولا تفارقها كلمة حاضر.. حاضر يا مدام تحية . ظللت أتابع بحزن ما أرى وأتعجب حتى فهمت أن سمية غير طبيعية، تسأل أسئلة ساذجة، تتحرك كثيرا تدخل وتخرج دون سبب,
همست في أذن زميلة لي لأفهم أكثر: أرى مدام تحية تعامل سمية بقسوة فلِمَ ؟
قالت بشفقة : مسكينة سمية، عندها وسواس قهري ولو تُركت لظلت تخرج وتدخل للمكتب أكثر من مائة مرة في اليوم ، و لاستغلها الزملاء في احتياجاتهم، فهي تحميها منهم ومن نفسها .
ـ لكني أراها تفعل ذلك بقسوة! هي ليست صغيرة وإن كانت مريضة فقد تعدت الخمسين وهي جدة لأحفاد، فلتترفق بها قليلا .
مصمصت شفتيها ، قالت: هذه هي مدام تحية وهذا أسلوبها.
بمرور الوقت اقتربتُ من سمية، حكت لي أنها متزوجة بمدير إحدى المؤسسات وأن لها ابنة طبيبة متزوجة وابنٌ ما زال في الجامعة وأنها من عائلة ميسورة، رحل أبواها وليس لها أخوة، وأن هذا المرض بدأ معها وهي في المرحلة الثانوية، كانت متفوقة ولكن غيَّر المرض الكثير من سماتها فمكثت في بيتها ثلاث سنوات حتى استقرت حالتها ثم عادت للدراسة . حصلت على معهد متوسط, التحقت بهذه الوظيفة، أحيانا تزداد حدة المرض ثم بمواظبتها على العلاج تستقر الحالة.
كانت ودودة، فإذا دخل أحد المكتب كانت تسأله عن حاله وأولاده ثم تدعو له بالتوفيق ويعقب ذلك دائما صرخة من مدام تحية : سمية سبحي ألفين مرة، سمية أنظري لعملك، ربنا يأخذك.
تصمت سريعا وتضع رأسها في الدفتر .
لم تكن تحية وحدها التي تمارس هذا الدور، ولكن أغلب الزميلات في المكتب يفعلن بها هذا ، ولكن بدرجات متفاوتة ويبقي الزميل الوحيد في مكتبنا هو أبرهم بها ، هي في كل الأحوال لا تتبرم بل تمتثل طائعة .
لم أرَ عليها أبدا ملابس جديدة، لا حذاء جديد ولا حقيبة، راتبها كبير، وزوجها ميسور، وميراثها من أهلها لا بأس به، وقد وضعته في بناء المنزل الذي أشارت لي عليه من نافذة المكتب قائلة : هذه العمارة ذات الشرفات الخضراء بيتي.
نظرت للعمارة ونظرت لسمية وجدت الفرقَ هائلا، من يراها داخله له لا يمكن أن يحسبها إلا خادمة فيه.
غبت عن المكتب شهرا في إجازة ولما عدت ومع أول دقيقة لي علي مقعدي قالت لي مدام تحية: ألم تعرفي الخبر؟
- أي خبر؟
- ماتت سمية
نظرت لمكتبها الفارغ إلا من دفاترها المرصوصة فوقه، سألتها وبكل حزن: ما سبب وفاتها؟
قالت: مات طبيبها المعالج فذهبت لطبيب جديد ما إن أخذت دواءه حتى دخلت في غيبوبة لم تفق منها.
لم تكن هذه أولى الزواجر التي سمعتها منها هذا اليوم، لكن بمعدل كل خمسة دقائق تصرخ فيها بمثل هذه العبارة، فتخضع لها سمية ، وما إن تهم بالكلام حتي يعود الزجر مرة أخرى بصوت كأنه الرعد ، فتعود سمية للخرس.
لاحظت أنها لا تسمح بخروجها من المكتب إلا إذا كانت ستقضي احتياجات خاصة بها، كشراء خضار، أو توقيع مستند من مدير المؤسسة، أو غسل أكواب الشاي للمكتب كله، أو الصعود والهبوط من الدور الأول للرابع لتوصيل احتياجاتها للزملاء.
أشد ما آلمني هو انسحاق سمية أمامها فلم أرها أبدا تعترض على أي أمر، ولا تفارقها كلمة حاضر.. حاضر يا مدام تحية . ظللت أتابع بحزن ما أرى وأتعجب حتى فهمت أن سمية غير طبيعية، تسأل أسئلة ساذجة، تتحرك كثيرا تدخل وتخرج دون سبب,
همست في أذن زميلة لي لأفهم أكثر: أرى مدام تحية تعامل سمية بقسوة فلِمَ ؟
قالت بشفقة : مسكينة سمية، عندها وسواس قهري ولو تُركت لظلت تخرج وتدخل للمكتب أكثر من مائة مرة في اليوم ، و لاستغلها الزملاء في احتياجاتهم، فهي تحميها منهم ومن نفسها .
ـ لكني أراها تفعل ذلك بقسوة! هي ليست صغيرة وإن كانت مريضة فقد تعدت الخمسين وهي جدة لأحفاد، فلتترفق بها قليلا .
مصمصت شفتيها ، قالت: هذه هي مدام تحية وهذا أسلوبها.
بمرور الوقت اقتربتُ من سمية، حكت لي أنها متزوجة بمدير إحدى المؤسسات وأن لها ابنة طبيبة متزوجة وابنٌ ما زال في الجامعة وأنها من عائلة ميسورة، رحل أبواها وليس لها أخوة، وأن هذا المرض بدأ معها وهي في المرحلة الثانوية، كانت متفوقة ولكن غيَّر المرض الكثير من سماتها فمكثت في بيتها ثلاث سنوات حتى استقرت حالتها ثم عادت للدراسة . حصلت على معهد متوسط, التحقت بهذه الوظيفة، أحيانا تزداد حدة المرض ثم بمواظبتها على العلاج تستقر الحالة.
كانت ودودة، فإذا دخل أحد المكتب كانت تسأله عن حاله وأولاده ثم تدعو له بالتوفيق ويعقب ذلك دائما صرخة من مدام تحية : سمية سبحي ألفين مرة، سمية أنظري لعملك، ربنا يأخذك.
تصمت سريعا وتضع رأسها في الدفتر .
لم تكن تحية وحدها التي تمارس هذا الدور، ولكن أغلب الزميلات في المكتب يفعلن بها هذا ، ولكن بدرجات متفاوتة ويبقي الزميل الوحيد في مكتبنا هو أبرهم بها ، هي في كل الأحوال لا تتبرم بل تمتثل طائعة .
لم أرَ عليها أبدا ملابس جديدة، لا حذاء جديد ولا حقيبة، راتبها كبير، وزوجها ميسور، وميراثها من أهلها لا بأس به، وقد وضعته في بناء المنزل الذي أشارت لي عليه من نافذة المكتب قائلة : هذه العمارة ذات الشرفات الخضراء بيتي.
نظرت للعمارة ونظرت لسمية وجدت الفرقَ هائلا، من يراها داخله له لا يمكن أن يحسبها إلا خادمة فيه.
غبت عن المكتب شهرا في إجازة ولما عدت ومع أول دقيقة لي علي مقعدي قالت لي مدام تحية: ألم تعرفي الخبر؟
- أي خبر؟
- ماتت سمية
نظرت لمكتبها الفارغ إلا من دفاترها المرصوصة فوقه، سألتها وبكل حزن: ما سبب وفاتها؟
قالت: مات طبيبها المعالج فذهبت لطبيب جديد ما إن أخذت دواءه حتى دخلت في غيبوبة لم تفق منها.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com