محمد فايز حجازي - عزيزي الناقد الفضائي.. لمن حديثك؟.. لمن؟

لا أدري لماذا تذكرت وأنا أكتب عنوان المقال وقبل أن أشرع فيه، أبيات شعرلنزار قباني من قصيدته (متي ستعرف كم أهواك) التي قالها علي لسان نجاة الصغيرة ونغمات عبد الوهاب:
لمن صبايا؟ لمن؟
شال الحرير لمن؟
وأنا بدوري أسأل السيد الناقد الأدبي الفضائي، لمن حديثك؟ لمن؟ سرمديتك وميتا سرديتك.. لمن؟
لا أحد من الأساتذة الأفاضل الذين يرون في أنفسهم أهلا للنقد، يستطيع إنكارًا، أو مجادلًة في أن الخطاب النقدي، كما هو موجه على وجه الخصوص للكاتب نفسه، بصفته مبدع العمل وصاحبه، شاعرًا أو مسرحيًا كان، أو كان قاصًا روائيًا، حتي يتعرف على مواطن القوة والضعف التي عليها نصه، هذا بالطبع من المنظور الأكاديمي البحت لهذا الناقد (بالمناسبة لا علاقة لهذا المنظور -غالبًا- برأي القاريء المعاصر أو ذائقته الأدبية). وكما أن الخطاب النقدي موجه أيضًا لباقي الكتاب والأدباء والنقاد والمنظومة الأدبيةعلىوجه العموم، فهو موجه بشكل كبير إلي القاريء المتلقي أيضًا، الذي هو هدف المنظومة كلها بالأساس، وبؤرة إهتمامها، ومن تسعي لإرضاءه، فليس هناك داعيًا وجيهًا أن يكتب كاتب لأخيه في الإنسانية الكاتب الآخر الصديق، أو ينقد ناقد حتي يتطلع على نقده أخيه في الفضاء الناقد الآخر أو المؤلف فحسب، إذن من المفترض أن العجلة كلها تدور من أجل إسعاد القاريء ونيل رضاه، هذه حقيقة لا مراء فيها.
عزيزي الناقد، إعلم أن مشاهدي القنوات التي تطل علينا منها، أو قراء الصحف والمجلات التي تكتب ما تكتب فيها، إنما هم في حقيقة الأمر من جموع القراء المراد التأثير عليهم أدبيًا، والارتقاء بذوقهموتهذيب وجدانهم، بتوضيح وتبيان مواضع الإبداع أو الضعف في العمل الذي تتناولونه سيادتكم بالتأمل والتدقيق والتحليل، وعليه فلابد لك من أن تعي جيدًا ماذا تقول، تنتقي لغة الخطاب المناسبة لهولاء المتلقين، التي لابد أن تختلف عن تلك الأخري التي تستعرض بها أمام أصدقائك من الكتاب والنقاد، الذين يبادلونك نفس اللغة.
ولكي أوضح ما أرمي إليه، أذكر لكم موقف تكرر معي كثيرًا، أخرهم منذ عدة أيام، وكنت أبحث في قنوات التلفاز عما يستحق المشاهدة، وقفت كعادتي عند إحدي القنوات الثقافية، كانت تعرض برنامجًا تستضيف فيه من يقال له الدكتور الناقد الأدبي -لا أجد داعيًا لذكر اسمه- يتناول بالنقد والشرح إحدي الروايات التي صدرت حديثًا، وكنت مصادفًة بصفتي مهتمًا بالشأن الأدبي قد قرأتها قبلها بأيام، وهي رواية بديعة تستحق القراءة بكل تأكيد، ولكن الدكتور الناقد الهمام جعل في واصل طويل يستعرض عضلاته النقدية، لا أقصد أنه كان يسيء إلي الرواية بل على العكس تمامًا، فبعد مجهود عنيف بذلته في فك طلاسم كلماته،أدركت أنه كان يشيد بها أيما إشادة، غير أنه كان يستخدم لغًة (هي بالتأكيد لغتنا العربية الجميلة)، عجيبة يتحدث فيها عن تماهي الشخصية البطلة مع محيط الشعور الداخلي، وإشكاليات الذات المتجردة من القيود الفوق تحتية، وكيف أن الكاتب قد باين في أشكال الميتا سرد لدي الشخصيات المتحوصلة داخل فضاء اللاشعور السرمدي اللامتناهي الصغر.
ظل الناقد متحذلقًا يستفيض في إرهاصات ما بعد حداثة الهلام المخملي الناعم وسيميائية مكنون الكلمات، بينما كان مقدم البرنامج فاغرًا فاه، لا يجرؤ على الحديث كي لا يبدو غبيًا متحجرًا،وهو -المقدم- حتي بحكم عمله واستضافته لأولئك المخبولين، لم يدرك أنها محض أكلاشيهات محفوظة وجمل مركبة معروفة، يستطيع أن يقوم بترتيبها وتركيبها طالب نجيب في الإعدادية، إنما يقوم الناقد العبقري باستعراضها على شاشات التلفاز حتي تراه أسرته في المنزل، وأصدقائه الذين -بكل تأكيد- قد سأموا سماعها.
ووالله فقد أشفقت كثيرًا على المشاهد -القاريء العادي- الذي قد يبحث عما كُتب من روايات جديدة ليقرأها، وهو لا يعرف إن كان الناقد يمدح في الرواية أو يقدح فيها، هذا إن استطاع مواصلة الاستماع حتي لبضع ثواني، هو سينصرف عن القناة وعن المقدم وعن الناقد اللوزعي الجهبذ، وسيلعن الظروف التي ساقته للوقوع في براثن هذا الناقد والاستماع لهذا الهراء، ولن يجرؤ على الإقتراب من تلك الرواية بعد الطلاسم التي قد سمعها عنها.
أقسم لي أحد أصدقائي الثقات أنه دائمًا ما يري هذا الناقد صباحًا على أحد مقاهي وسط البلد، يلتهم في بشاعة وبكميات كبيرة ساندويتشات الفول والطعمية، متماهيًا مع الباذنجان المخلل، وحابسًا بأحجار الشيشة المتصاعد دخانها في فضاء أفكاره الميتاسردية، تستطيع إن كنت كاتبًا جديدًا أو حتي قديمًا بهدية أن تطلقه، ليصول ويجول في الفضائيات والدوريات الأدبية مشيدًا بما تكتب، بالطبع سيتناسب نشاطه مع عملك الأدبي، تناسبًا طرديًا مع قيمة الهدية المقدمة.غير أنني أنصحك إن كنت كاتبًا موهوبًا بألا تفعل، فكلامه عنك- بكل تأكيد- سيكون صرفًا للناس الذين عرفوه وسأموا منه عن منتجك الأدبي،ودعاية سلبية لك في الوسط الأدبي كتابًا ونقادًا، فهم على علم بدأبه ومسلكه، والحق أقول فإن من على شاكلته كثيرون (يمكنني أن أمليك بعض الأسماء ولكن ليس في هذا المقال بالـتأكيد).
تذكرت وأنا أنصت لصديقي الذي استفاض قاصًا حكايات هذا الناقد،هذا الفنان القديم حسين إسماعيل بياع النكات في فيلم فتاة الإستعراض، وهو يجلس على المقهي، وكيف كان يسحب نفسًا عميقًا من الشيشة ثم ينفخه بعيدًا وهو يضحك كالمجنون، باحثًا عن نكتة جيدة وجديدة ليبيعها لحسن يوسف الذي يجلس أمامه منتظرًا حتي يبرهن لأعضاء الفرقة على خفة دمه.
بالطبع وبعد حلقة الدكتور الناقد الماتعة، فلسوف تجد برنامجًا أو مقالًا لناقد آخر، في هذه الجريدة أو تلك المجلة، يتحدث بنفس اللغة العجيبة وبنفس التركيبات الطلاسمية، وكأنه يتحدي أخيه في النقد الدكتور العلامة الأول، ويستمرون جميعًا في حلقة مفرغة لا يخرجون منها أبدًا، والضحية أخيرًا هو المتلقي المغلوب على أمره، الذي لاذنب له في سماع كل هذا الهراء.
بعيدًا عن المؤهلات الدراسية والعلمية، أين هي فطنة الخطاب وكياسة الموقف! رحم الله الدكتور محمد مندور شيخ النقاد، الذي كاد من فرط بساطة وعمق وصدق ما يقول، أن يؤثر في الباعة الجائلين في الطرقات، كان رحمه الله شديد رقة الكلمة وعذوبة التحليل، أنصحكم أيها السادة النقاد إن أردتم تأثيرًا حقيقيًا وجمهورًا منصتًا أن تقرأوا كتاب الروائي والقاص الأستاذ فؤاد قنديل، المعنون (محمد مندور. شيخ النقاد)، وكتاب الدكتور مندور نفسه المعنون (الأدب والنقد) الصادر عام 1949 م، وهو منهل عذب في أصول النقد يتناول شتي القوالب الأدبية من المسرح إلي الشعر والقصة والرواية، ليس المجال هنا لإجتزاء مقاطع من تلك الكتب لأدلل بها على قمة شاهقة وقامة سامقة في صرح أدبنا العربي، ومثال يحتذيه كل نجيب وكل راغب في المضي على درب النابغين كما يذكر الأستاذ فؤاد قنديل.
وأنا هنا لا أطالب النقاد المعاصرين بأن يصبحوا نسخًا من شيخ النقاد الدكتور مندور، فليس هذا من المنطق في شيء، كما أنني لا أطالب الموسيقيين أن يكونوا نسخًا من ملك الموسيقي بليغ حمدي، فهذا عين المستحيل، ولكنني فقط أدعو إلي الصدق والعمق والبساطة ففيهما خلود كل فن.
وقد يقول قائل، وما الضير! هب أن الناقد قد يؤثر بالإيجاب على الكتاب والنقاد الآخرين، أوليس من شأن هذا أن يمنح الحركة الأدبية غنيً و أثرًا حميدًا، وأنا أقول هذا صحيح إن كان النقاد يكتبون ويتحدثون في أبراج عاجية، لا يدخلها إلا الكتاب والنقاد الآخرين فحسب، أما وأنهم يتحدثون في برامج تلفزيونية ويكتبون في الجرائد والمجلات، فلزامًا عليهم إتباع قواعد اللعبة وانتقاء لغة الخطاب، ولو جُعلتهذه البرامج المتخصصة وتلك الدوريات الأدبية، منابرًا وخطابًا للمتخصصين فحسب، فهذا محض هراء، إنما هي من المفترض أن تكون في الأساس خطابًا موجهًا وجاذبًا لجموع القراء.
تستطيع أخي الناقد أن تستخدم ما يحلو لك من تركيبات لغوية، مفعمة بالبنية الميتافيزيقية لإشكاليات الذات، في مجالسك الخاصة مع أصدقائك، مع نقاد مثلك، مع كُتًاب ربما يفهمون ما تقول، في غرفة نومك، في أي مكان شئت، ولكن ليس في برنامج موجه لجموع المشاهدين والقراء أو مقال في جريدة أو مجلة عامة. ليس بالضرورة أنك درست بعض المصطلحات أن تستخدمها في أي وقت وكل حين.
كان لنا صديقًا مهندسًا من ذوي الدم الخفيف ونكتته حاضرًة، كنا جميعًا حضورًا في أحد الإجتماعات الهندسية، نتناقش في كيفية إختبار بعض المعدات، اختبارًا هيدروليكيًا (بواسطة أحد السوائل) لقياس مدي تحمل المعدة للضغوط العالية، فإذا به في وسط الإجتماع ينبري بصوت جهوري، يملؤه الثقة قائلًا: إن هذا السائل المراد استخدامه في الإختبار سائلًا نيوتوني (نسبة إلي نيوتن)، لم يكن لكلامه أي محل من الإعراب في نقاشنا الهندسي، فنظرنا إليه جميعًا مندهشين، فأدرك زميلنا أنه أساء انتقاء المصطلح أو أنه استخدمه في التوقيت الخطأ، فقال لنا ضاحكًا بخفه دمه المعتادة : إنه مصطلحًا قد تعلمته في الكلية، لم أستخدمه قط طوال حياتي، فقلت لنفسي أنه ربما كان من المناسب أن أستخدمه الآن، فلماذا لا أفعل! ضحكنا جميعًا وواصلنا الحديث، وقد كسر زميلنا هذا جو الإجتماع المشدود.
أخيرًا عزيزي الناقد، ليس بالضرورة أن تستخدم مصطلحاتك التي درستها أو قرأتها، في تركيبات عجيبةلمجرد استخدامها من باب (أتحمل آلآم المعدة ولا ألقي الطعام الفاسد)، أنت للقاريء والكاتب، كالطبيب للمريض، يشخص له المرض ويصف له الدواء، أما عن تكوين الخلية والعمليات التي تحدث داخلها، والأنسجة وحركة الأجهزة، وماهية إشارات المخ، ومراكز إدراكه، فليس من شأن المريض في شيء، الذي ربما تتأزم لديه الأمور نفسيًا، لو أدرك كنهها الأشياء وهو غير متخصص، وهذا لن يخدم خطة العلاج على كل حال.
النقاد الحقيقيون موجودون، لي منهم أصدقاء، ذوي حس فني مرهف ونظرة تحليل صادقة، غير أنهم بكل أسف غير مؤثرين بشكل كبير، كنظرائهم الفضائيين الذين يحتلون معظم المنابر الأدبي المسموعة والمقروءة، ويفرد لهم الوقت والمساحات، وكأنهم أوصياء على الوسط ومن فيه، مما يجعل الحركة النقدية في أزمة شأنها في ذلك شأن كثير من عناصر الوسط الأدبي، فهل تتفقون!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى