كانت المدينة تمتد حوالي امتداداً ضبابياً: لا شوارع، ولا أشجار ولا عصافير، أتمشى فيها، أنظر حولي، أرى أهلها بلا رؤوس، تحيط بي أسئلة مبهمة.
السماء مسقوفة بالغيوم الصلدة، لماذا تعشعش الغيوم في السماء؟
هل يكذب البصر أم المتنبئ الجوي الذي زعم أن الجو صيفي هذا اليوم.
أفكر أن أهرب من الناس الذين لا رؤوس لهم، يحاصرني تفكيري، ألجأ إلى فسحة من الأمل، وسط فسحة من الذاكرة، ألجأ إلى النهر الرائع الذي (تروع حصاه حالية العذارى.. فتلمس جانب العقدِ النظيمِ)، أصل إليه يقفز بؤبؤا العينين من مكانيهما فزعين حينما لا يجدان في النهر إلا الطحالب والتماسيح التي قالت كتب الجغرافية عنها: إنها لا تعيش في بلادنا…
أرتعش، أشعر بالبرد الشديد، سامحك الله أيها المتنبئ الجوي..
أفكر في الذهاب إلى بيتي الذي لن تطاله يد التغير مادامت المفاتيح الفضية في جيبي..
أعدو عبر الشوارع التي لا أرصفة لها، أتحاشى أن أنظر إلى الناس الذين لا رؤوس لهم، حتى أصل إلى البيت.
أمام الباب كانت جارتنا أم حسين تقمّع البامياء، البامياء.. تغدو بعد التقميع كأم حسين تماماً، لا رأس لها.. لا أستطيع أن أستمر بالنظر إلى مدينة البامياء التي فقدت شوارعها ورؤوس أهلها.. أخرج المفاتيح (الحديدية) من جيبي، أعالج صدأ القفل قليلاً، ثم أدلف دون أن أدري كم من الوقت مرّ بي، وأنا أعيش وسط هذه الصحراء..
أنظر إلى الساعة فأكتشف أن العقارب قد غادرتها... لاتهمني الساعة كثيراً، فالبدر - وأن كان عابساً هذا المساء - يدل على أن الليل قد هبط..أحاول أن أقنع نفسي بالراحة، ولكنني متعب في الحقيقة، متعب جداً أحس صداعاً يكاد يفتك برأسي، ربما كان الجوع سبباً لهذا الألم.. كانت أمي تقول لي عندما كنت صغيراً: كيف تشكو من ألم الصداع،ثم تخرج دون طعام؟
أصرخ على زوجتي فتأتي دون رأس أيضاً!! لقد أغلقت عليها الباب صباحاً مع رأسها!! لاشك أنها خرجت من البيت.. كان لديّ شعور منذ البداية أنها تخونني..
أزدرد خيبتي، وعلى الرغم من أنني أعرف خيانتها لي، وأنني أكره المعرفة، أحاول أن أبتسم حتى لا تشعر بشيء:
أريد أن آكل يا حبيبتي فعصافير بطني تزقزق ( تذكرت عصافير مدينتي التي لم تزقزق منذ زمن بعيد).تخرج بسرعة، وتعود حاملة أطباق الطعام لتضعها أمامي):
بامياء؟ أصرخ في وجهها، أقلب الطعام فتندلق حبات البامياء المسكينة على الأرض..تهرب فزعة، تقول في نفسها: لقد جن الرجل، وتتركني وحيداً أسأل نفسي: لماذا لا تطبخ هذه المدينة الكئيبة إلا البامياء.
حاولت أن أستلقي لأريح نفسي قليلاً، أفتح الخزانة لأخرج (البيجامة) فأجد رجلاً في الخزانة بلا رأس! أية وقاحة تلك التي وصلت إليها يا زوجتي العزيزة! رجل في خزانة؟ إذاً فالزوج أول من يعلم..
يسير اللهب في دمائي، أفكر أن أضربه على رأسه، ولكنني لا أجد رأسه اللعين.. أرفع يديّ وأهوي بهما بكل ما أوتيت من قوة على بطنه.. فتنكسر المرآة!!
* * *
ضاع رأسي، هكذا دون مقدمات، أكتشف أنه ضاع، أحاول أن أتذكر إن كنت قد زرت أحداً من الأصدقاء، لعلي نسيت رأسي عنده.. لا.. لا.. إنني لم أزر أحداً.. مَن وجد منكم أيها الأصدقاء رأساً في أية مزبلة فليخبرني.. لا تقولوا إنكم لا تعرفون العنوان لأنني سأدلكم عليه.
قالوا قديماً: من وجد منكم لساناً يتحرّك فليقطعه بيده، فإن لم ينقطع فبسيفه،فان لم ينقطع فبفك رأس صاحبه.
ولكنني لم أحرك لساني، أتحاشى أن أنطق حرف الراء لأنه يجعل اللسان يتحرك دون طائل، حتى إنني قليلاً ما أتكلم، فإذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من زبرجد وياقوت ..ثم إن رأسي لم يقطع قطعاً، ولم يُفكَّ فكّاً لأنني لم أشعر بأي ألم، ولم أسمع أية طقطقة.
أين أنت يا رأسي العزيز؟ أين أنت أيها المشاكس؟ إنني شقي بك ولكن الدم لا يصير ماء.
أبحث عنك تحت السرير وفي الخزانة دون جدوى.
أتذكر.. هل فعلت شيئاً ذات يوم يستدعي أن أفقد رأسي، أتذكر مرة أنني عدت من زيارة صديق لي في منتصف ليلة داكنة، حين أوقفني رجل يرتدي بزة سوداء أنيقة. صدقوني أيها الأصدقاء إنه تكلم معي بأدب واحترام، تمنيت أن أعطيه عيني لفرط أدبه، ولكنه يريد لآن سيجارة، فما قيمة العيون إذا جاء وقت السجارة الملعونة، وأنا لا أدخن طبعاً خوفاً من والدي الذي مازال يمارس علي حتى بعد زواجي نوعاً من السلطة المطلقة. قلت للرجل:عذراً أيها الصديق فأنا لا أدخن، ابتسم لي ولم يصفعني، صدقوني إنه لم يبصق في وجهي. صحيح أنني مسحت وجهي عندما غادرته، ولكنه لم يكن بصاقاً، كان شيئاً ما يشبه الرذاذ الساخن، جعلني أشعر كأنني في حمام جميل. ربما أمطرت الدنيا فجأة دون أن أشعر..
غادرته.. وأنا أحس بطمأنينة غريبة، وهذا هو الشعور الذي صار ينتابني كلما رأيت رجلاً يرتدي بزة سوداء أنيقة. على كل حال هذه قصة تافهة،لم تترك في نفسي أي أثر سيئ..حتى إنني لم أروها لزوجتي التي كانت تنتظرني بلهفة تلك الليلة. قالت لي ليلتذاك: هل تريد مني شيئاً قبل أن أنام؟ أشرت إليها بالنفي، فغضبت مني، صدقوني أيها الأصدقاء إنني لم أعرف حتى الآن سبب غضبها علي تلك الليلة..
مالي أحدثكم عن غضب الزوجة المحترمة، وأنسى رأسي، ها أنا ذا أبحث عن سبب منطقي، عن حجة علمية لاختفائه… هل هناك من أخطأ من أصدقائي؟ وهل يحاسب أحد بجريرة خطأ غيره؟
لا يهمني شيء. فأنا لا أصاحب الأشرار، ولا أنصاف الأشرار..أتذكر مرة ثانية..كان لي صديق، ولكنه ليس صديقي الآن، حكّ رأسه ذات مرة في الباص،وكان جالساً_ والله العظيم كان جالساً - إلى جانب رجل أنيق يرتدي بزة سوداء،كان قلب الرجل الذي لم يعد صديقي أبيض، وكانت بزة جاره سوداء. حكّ رأسه، فظنّ صاحبه أنه يفكر،لم يكن صاحب القلب الأبيض يفكر، لقد تقدّم ستّ مرات لفحص الشهادة الابتدائية ولم ينجح.. إنه لا يحمل إلا شهادتين تشهد الأولى على حسن سلوكه، والثانية تشهد على أنه تبرع بدمه لإسعاف جرحى معركة الكرامة.
في منتصف الليلة التالية، في منتصفها تماماً، طرق بابه طرقاً خفيفاً.. كان الطرق خفيفاً جداً، حتى إن زوجته لم تستيقظ،ولم يصطفَّ الجيران على النوافذ، ولم يقل أحد: لا حول ولا قوة إلا بالله.
خرج وعاد بعد ثلاث سنوات، ثلاث سنوات كافية لكي يتعلم المرء اختيار الأصدقاء فالمرء على دين خليله.. سلّم علي عدة مرات ولم أرد عليه السلام.. إن لديّ امرأة وخمسة أفواه مفتوحة تنتظر الطعام، فما حاجتي إليه؟
أتذكر مرة ثالثة ورابعة… دون أن أجد سبباً تكنولوجياً لضياع رأسي، هل كان غبياً حقاً من قال: لاشيء يفنى ولا شيء يأتي من العدم؟
على الرغم من تفكيري الحثيث فإنني لم أجد سبباً لاختفائه، وليس أمامي خيار الآن إلا أن أبحث عنه،وكيف أبحث عنه مادام هو أداة البحث..
أخرج ألف الشوارع لأرى الحسن والحسين والغفاريّ والقسّام والسندباد البريّ والبحريّ والجويّ.. أرى شهداء كفر قاسم ودير ياسين.. لقد كان الجميع مقطوعي الرؤوس، لذلك خفت أن أسألهم عن رأسي لأنهم سيسخرون مني، وربما يشتمونني.
أعود إلى بيتي، كلّ شيء عادي في غرفتي ماعدا شيئاً واحداً: إنه حذاء أسود أنيق موضوع في زاوية الغرفة، يرتفع عن الأرض شبراً واحداً على الأقل.. ترى هل هو حذاء عشيق آخر لزوجتي المصون!؟
تمنيت أن أسأل من جاء بهذا الحذاء إلى هنا، ولكنني وجدتني أتساءل ما الذي يرفعه عن الأرض؟ لماذا لا يشتغل هذا الحذاء في (السيرك) مادام يستطيع أن يسخر من قانون الجاذبية؟ لا تسألوني كيف رأيت الحذاء.. إنّ لدي فلسفة تؤمن لي رؤية الأشياء دون رأس، وهذا أمر يتمتّع به جميع السكان في مدينتي العجيبة.
أقترب من الحذاء،أحاول أن أضع يدي تحته تماماً فلا أستطيع،إن ثمة شيئاً يفصل بينه وبين الأرض.
أركز انتباه أصابعي، وأتحسس مرة ثانية: شعر، عينان، أنف، فم…يا إلهي..إنه رأسي.. ما الذي جاء برأسي تحت الحذاء الأسود؟
تحت الحذاء أو فوقه لا يهمني.. المهم أنني وجدته.. أهلاً بك يا رأسي.
أضحك ..يتعالى ضحكي،يصبح قهقهات عريضة، أفتح عيني، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…
إذاً، لقد كان حلماً..الحمد لله أنه كان كذلك. لن أحدث أحداً بهذا الحلم فهو يخرّب البيوت..أنظر إلى ساعتي، إنها الثالثة صباحاً.. وأستطيع أن أنام، بعيداً عن ذلك الكابوس اللعين، ثلاث ساعات مريحة..
أضع رأسي على الوسادة، وقبل أن أغمض عينيّ أسمع طرقاً خفيفاً على الباب. لقد كان الطرق خفيفاً جداً،حتى أن زوجتي لم تستيقظ، ولم يصطفَّ الجيران على النوافذ، ولم يقل أحد: لا حول ولا قوة إلا بالله!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القصةهي المولودي السردي البكر.. كان ذلك عام 1988، وهي منشورة في مجموعة حملت عنوانها نفسه..
السماء مسقوفة بالغيوم الصلدة، لماذا تعشعش الغيوم في السماء؟
هل يكذب البصر أم المتنبئ الجوي الذي زعم أن الجو صيفي هذا اليوم.
أفكر أن أهرب من الناس الذين لا رؤوس لهم، يحاصرني تفكيري، ألجأ إلى فسحة من الأمل، وسط فسحة من الذاكرة، ألجأ إلى النهر الرائع الذي (تروع حصاه حالية العذارى.. فتلمس جانب العقدِ النظيمِ)، أصل إليه يقفز بؤبؤا العينين من مكانيهما فزعين حينما لا يجدان في النهر إلا الطحالب والتماسيح التي قالت كتب الجغرافية عنها: إنها لا تعيش في بلادنا…
أرتعش، أشعر بالبرد الشديد، سامحك الله أيها المتنبئ الجوي..
أفكر في الذهاب إلى بيتي الذي لن تطاله يد التغير مادامت المفاتيح الفضية في جيبي..
أعدو عبر الشوارع التي لا أرصفة لها، أتحاشى أن أنظر إلى الناس الذين لا رؤوس لهم، حتى أصل إلى البيت.
أمام الباب كانت جارتنا أم حسين تقمّع البامياء، البامياء.. تغدو بعد التقميع كأم حسين تماماً، لا رأس لها.. لا أستطيع أن أستمر بالنظر إلى مدينة البامياء التي فقدت شوارعها ورؤوس أهلها.. أخرج المفاتيح (الحديدية) من جيبي، أعالج صدأ القفل قليلاً، ثم أدلف دون أن أدري كم من الوقت مرّ بي، وأنا أعيش وسط هذه الصحراء..
أنظر إلى الساعة فأكتشف أن العقارب قد غادرتها... لاتهمني الساعة كثيراً، فالبدر - وأن كان عابساً هذا المساء - يدل على أن الليل قد هبط..أحاول أن أقنع نفسي بالراحة، ولكنني متعب في الحقيقة، متعب جداً أحس صداعاً يكاد يفتك برأسي، ربما كان الجوع سبباً لهذا الألم.. كانت أمي تقول لي عندما كنت صغيراً: كيف تشكو من ألم الصداع،ثم تخرج دون طعام؟
أصرخ على زوجتي فتأتي دون رأس أيضاً!! لقد أغلقت عليها الباب صباحاً مع رأسها!! لاشك أنها خرجت من البيت.. كان لديّ شعور منذ البداية أنها تخونني..
أزدرد خيبتي، وعلى الرغم من أنني أعرف خيانتها لي، وأنني أكره المعرفة، أحاول أن أبتسم حتى لا تشعر بشيء:
أريد أن آكل يا حبيبتي فعصافير بطني تزقزق ( تذكرت عصافير مدينتي التي لم تزقزق منذ زمن بعيد).تخرج بسرعة، وتعود حاملة أطباق الطعام لتضعها أمامي):
بامياء؟ أصرخ في وجهها، أقلب الطعام فتندلق حبات البامياء المسكينة على الأرض..تهرب فزعة، تقول في نفسها: لقد جن الرجل، وتتركني وحيداً أسأل نفسي: لماذا لا تطبخ هذه المدينة الكئيبة إلا البامياء.
حاولت أن أستلقي لأريح نفسي قليلاً، أفتح الخزانة لأخرج (البيجامة) فأجد رجلاً في الخزانة بلا رأس! أية وقاحة تلك التي وصلت إليها يا زوجتي العزيزة! رجل في خزانة؟ إذاً فالزوج أول من يعلم..
يسير اللهب في دمائي، أفكر أن أضربه على رأسه، ولكنني لا أجد رأسه اللعين.. أرفع يديّ وأهوي بهما بكل ما أوتيت من قوة على بطنه.. فتنكسر المرآة!!
* * *
ضاع رأسي، هكذا دون مقدمات، أكتشف أنه ضاع، أحاول أن أتذكر إن كنت قد زرت أحداً من الأصدقاء، لعلي نسيت رأسي عنده.. لا.. لا.. إنني لم أزر أحداً.. مَن وجد منكم أيها الأصدقاء رأساً في أية مزبلة فليخبرني.. لا تقولوا إنكم لا تعرفون العنوان لأنني سأدلكم عليه.
قالوا قديماً: من وجد منكم لساناً يتحرّك فليقطعه بيده، فإن لم ينقطع فبسيفه،فان لم ينقطع فبفك رأس صاحبه.
ولكنني لم أحرك لساني، أتحاشى أن أنطق حرف الراء لأنه يجعل اللسان يتحرك دون طائل، حتى إنني قليلاً ما أتكلم، فإذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من زبرجد وياقوت ..ثم إن رأسي لم يقطع قطعاً، ولم يُفكَّ فكّاً لأنني لم أشعر بأي ألم، ولم أسمع أية طقطقة.
أين أنت يا رأسي العزيز؟ أين أنت أيها المشاكس؟ إنني شقي بك ولكن الدم لا يصير ماء.
أبحث عنك تحت السرير وفي الخزانة دون جدوى.
أتذكر.. هل فعلت شيئاً ذات يوم يستدعي أن أفقد رأسي، أتذكر مرة أنني عدت من زيارة صديق لي في منتصف ليلة داكنة، حين أوقفني رجل يرتدي بزة سوداء أنيقة. صدقوني أيها الأصدقاء إنه تكلم معي بأدب واحترام، تمنيت أن أعطيه عيني لفرط أدبه، ولكنه يريد لآن سيجارة، فما قيمة العيون إذا جاء وقت السجارة الملعونة، وأنا لا أدخن طبعاً خوفاً من والدي الذي مازال يمارس علي حتى بعد زواجي نوعاً من السلطة المطلقة. قلت للرجل:عذراً أيها الصديق فأنا لا أدخن، ابتسم لي ولم يصفعني، صدقوني إنه لم يبصق في وجهي. صحيح أنني مسحت وجهي عندما غادرته، ولكنه لم يكن بصاقاً، كان شيئاً ما يشبه الرذاذ الساخن، جعلني أشعر كأنني في حمام جميل. ربما أمطرت الدنيا فجأة دون أن أشعر..
غادرته.. وأنا أحس بطمأنينة غريبة، وهذا هو الشعور الذي صار ينتابني كلما رأيت رجلاً يرتدي بزة سوداء أنيقة. على كل حال هذه قصة تافهة،لم تترك في نفسي أي أثر سيئ..حتى إنني لم أروها لزوجتي التي كانت تنتظرني بلهفة تلك الليلة. قالت لي ليلتذاك: هل تريد مني شيئاً قبل أن أنام؟ أشرت إليها بالنفي، فغضبت مني، صدقوني أيها الأصدقاء إنني لم أعرف حتى الآن سبب غضبها علي تلك الليلة..
مالي أحدثكم عن غضب الزوجة المحترمة، وأنسى رأسي، ها أنا ذا أبحث عن سبب منطقي، عن حجة علمية لاختفائه… هل هناك من أخطأ من أصدقائي؟ وهل يحاسب أحد بجريرة خطأ غيره؟
لا يهمني شيء. فأنا لا أصاحب الأشرار، ولا أنصاف الأشرار..أتذكر مرة ثانية..كان لي صديق، ولكنه ليس صديقي الآن، حكّ رأسه ذات مرة في الباص،وكان جالساً_ والله العظيم كان جالساً - إلى جانب رجل أنيق يرتدي بزة سوداء،كان قلب الرجل الذي لم يعد صديقي أبيض، وكانت بزة جاره سوداء. حكّ رأسه، فظنّ صاحبه أنه يفكر،لم يكن صاحب القلب الأبيض يفكر، لقد تقدّم ستّ مرات لفحص الشهادة الابتدائية ولم ينجح.. إنه لا يحمل إلا شهادتين تشهد الأولى على حسن سلوكه، والثانية تشهد على أنه تبرع بدمه لإسعاف جرحى معركة الكرامة.
في منتصف الليلة التالية، في منتصفها تماماً، طرق بابه طرقاً خفيفاً.. كان الطرق خفيفاً جداً، حتى إن زوجته لم تستيقظ،ولم يصطفَّ الجيران على النوافذ، ولم يقل أحد: لا حول ولا قوة إلا بالله.
خرج وعاد بعد ثلاث سنوات، ثلاث سنوات كافية لكي يتعلم المرء اختيار الأصدقاء فالمرء على دين خليله.. سلّم علي عدة مرات ولم أرد عليه السلام.. إن لديّ امرأة وخمسة أفواه مفتوحة تنتظر الطعام، فما حاجتي إليه؟
أتذكر مرة ثالثة ورابعة… دون أن أجد سبباً تكنولوجياً لضياع رأسي، هل كان غبياً حقاً من قال: لاشيء يفنى ولا شيء يأتي من العدم؟
على الرغم من تفكيري الحثيث فإنني لم أجد سبباً لاختفائه، وليس أمامي خيار الآن إلا أن أبحث عنه،وكيف أبحث عنه مادام هو أداة البحث..
أخرج ألف الشوارع لأرى الحسن والحسين والغفاريّ والقسّام والسندباد البريّ والبحريّ والجويّ.. أرى شهداء كفر قاسم ودير ياسين.. لقد كان الجميع مقطوعي الرؤوس، لذلك خفت أن أسألهم عن رأسي لأنهم سيسخرون مني، وربما يشتمونني.
أعود إلى بيتي، كلّ شيء عادي في غرفتي ماعدا شيئاً واحداً: إنه حذاء أسود أنيق موضوع في زاوية الغرفة، يرتفع عن الأرض شبراً واحداً على الأقل.. ترى هل هو حذاء عشيق آخر لزوجتي المصون!؟
تمنيت أن أسأل من جاء بهذا الحذاء إلى هنا، ولكنني وجدتني أتساءل ما الذي يرفعه عن الأرض؟ لماذا لا يشتغل هذا الحذاء في (السيرك) مادام يستطيع أن يسخر من قانون الجاذبية؟ لا تسألوني كيف رأيت الحذاء.. إنّ لدي فلسفة تؤمن لي رؤية الأشياء دون رأس، وهذا أمر يتمتّع به جميع السكان في مدينتي العجيبة.
أقترب من الحذاء،أحاول أن أضع يدي تحته تماماً فلا أستطيع،إن ثمة شيئاً يفصل بينه وبين الأرض.
أركز انتباه أصابعي، وأتحسس مرة ثانية: شعر، عينان، أنف، فم…يا إلهي..إنه رأسي.. ما الذي جاء برأسي تحت الحذاء الأسود؟
تحت الحذاء أو فوقه لا يهمني.. المهم أنني وجدته.. أهلاً بك يا رأسي.
أضحك ..يتعالى ضحكي،يصبح قهقهات عريضة، أفتح عيني، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…
إذاً، لقد كان حلماً..الحمد لله أنه كان كذلك. لن أحدث أحداً بهذا الحلم فهو يخرّب البيوت..أنظر إلى ساعتي، إنها الثالثة صباحاً.. وأستطيع أن أنام، بعيداً عن ذلك الكابوس اللعين، ثلاث ساعات مريحة..
أضع رأسي على الوسادة، وقبل أن أغمض عينيّ أسمع طرقاً خفيفاً على الباب. لقد كان الطرق خفيفاً جداً،حتى أن زوجتي لم تستيقظ، ولم يصطفَّ الجيران على النوافذ، ولم يقل أحد: لا حول ولا قوة إلا بالله!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القصةهي المولودي السردي البكر.. كان ذلك عام 1988، وهي منشورة في مجموعة حملت عنوانها نفسه..
يوسف حطيني
يوسف حطيني is on Facebook. Join Facebook to connect with يوسف حطيني and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com