المستشار بهاء المري - بين السياسة والقانون قضية مأمور البداري التي أسقطت حكومة

إن المُدقق في قراءة تاريخ الصراعات السياسية في مصر، سيكتشف بجلاء مدى تشابهها إلى حد كبير في مناحي ومناسبات حصولها، وفى استغلال المتصارعين لأحكام القضاء في توجيه الرأي إلى وجهتهم، لا سيما على نحو يُحرج القائمين على الأمور في الدولة.
من هذه الأحداث، قضية شهيرة وقعت في عام 1932 عُرفت باسم (قضية مأمور البداري) حيث استغلت القوى السياسية المتصارعة آنذاك، الحكم الصادر فيها من محكمة النقض برئاسة عبد العزيز باشا فهمي، لإحراج الحكومة، وبالتالي لم يسلم القضاء من الهجوم عليه بمناسبة الوصول إلى ذلك الهدف، والبداري مركز من مراكز محافظة أسيوط، يقع في أقصى جنوب المحافظة على الضفة الشرقية للنيل.
صراع سياسي تزامن مع وقوع الجريمة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في تلك الفترة كانت مصر تعيش قلاقل سياسية، حيث ألغى الملك فؤاد ورئيس حكومته إسماعيل صدقي باشا دستور 1923 ووضعوا بدلا منه دستورا يؤسس للاستبداد، وبدأت الحكومة في إصدار القوانين المقيدة للحريات، وملاحقة المعارضين وإزاحة العناصر الموالية للوفد من الإدارة.
وللأسباب مارة الذكر، كان ما حدث من مأمور مركز البداري يوسف الشافعي أفندي، من تعذيب اثنين من المواطنين بصفة يومية في ديوان القسم، بالضرب، وقص الشارب، والربط في محل الخيل والإلجام بحبل من الليف كالبهائم، والإجبار على التسمي بأسماء النساء، بل وهتك العرض بإيلاج العِصِىّْ في الدبر، ما أدى بهما إلى عقد العزم على قتله، وكمنوا له في طريق عودته، وأطلقا عليه أعيرة نارية أدت إلى إزهاق روحة وإصابة مرافقه فهيم أفندي نصيف مفتش الري، وقضت محكمة جنايات أسيوط بمعاقبة الأول بالإعدام، والآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة .
وجد خصوم الحكومة ضالتهم في هذا الحادث، وجعلوا منه قضية رأى عام وأثاروا بموجبه القلاقل، أخذا بمنطق إحراج الدولة وكان الهجوم ضاريا على المأمور وسياسة الشرطة في التعامل مع السياسيين والمواطنين، ولم يكن هذا الهجوم بالقطع لوجه الله الكريم، ولا الصالح العام، وإنما لمصالح شخصية بحتة، يبتغيها كل طرف بغض النظر عن مصلحة البلاد .
- حكم محكمة النقض يؤجج الصراع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولما طعن المتهمان على الحكم أمام محكمة النقض، وتبين لهذه المحكمة - بجلاء - أن جريمة القتل كان سببها ما قام به المأمور من تعذيب قاتليه وهتك عرضهما، فقد لامت محكمة جنايات أسيوط في تشددها في الحكم على أحدهما بالإعدام وعلى الآخر بالسجن المؤبد.
ولكن المغرضين استغلوا إعمال محكمة النقض لصحيح القانون، وحادوا به عن مقصده ففسروه - على غير الحقيقة - بأنها تلتمس العذر للمتهمين لأنهما قتلا رجل شرطة (مأمور البداري) لإثارة الرأي العام ضد الحكومة.
وعلى الرغم من أن حكم محكمة النقض، لم يكن له تأثير على العقوبة المقضي بها وهي الإعدام، إلا أن القضاء لم يسلم من ذلك التوجه السياسي، فكان الانتقاد الحاد غير المُحايد لحكم محكمة النقض، ولكنها المغالطات السياسية المقصودة لإثارة الرأي العام.
- وجهان مضيئان لحكم محكمة النقض:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سوف نتناول هذا الحكم العظيم من زاويتين، الأولى هي كونه دليلا بالغا على تحضر الفكر القضائي واستنارته، وإعماله لصحيح القانون دونما اعتداد بما يمكن أن يتوافق والرأي العام من عدمه، ثم باعتباره مقطوعة أدبية بالغة البراعة والجمال من ناحية أخرى، ومن ناحية ثانية باعتباره حدثا استغلته القوى السياسية لتوظيفه في معركتها مع الدولة.
أولا - الحكم والفكر المستنير والبلاغة الأدبية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتحصل واقعات قضية مأمور البداري، في أن كل من أحمد جعيدي عبد الحق، وحسن أحمد أبو عاشور، من مواطني مركز البداري مديرية أسيوط، قد صدر ضديهما أحكام قضائية مما يستوجب القانون فيها وضعهما تحت المراقبة، ومما يستتبع أن يبيتا ليلهما بالمركز وينصرفا نهارا، بيْدَ أن المأمور يوسف الشافعي أفندي، كان يمعن في تشديد هذه المراقبة، وفى إهانتهما إهانات بالغة، تمثلت في التعدي بالضرب، وقص الشارب، والربط في محل الخيل، والإلجام بحبل من الليف كالبهائم، والإجبار على التسمي بأسماء النساء، بل وهتك عرضهما. الأمر الذي أثار حفيظتيهما من حصول هذا الأذى، وتوقع إيقاعه بهما لاحقا، فعقدا العزم وبيتا النية على قتله خلاصا من أذاه، وأعدا لذلك سلاحين ناريين، ونظرًا لعلمهما العام بأن المأمور قد اعتاد السهر لدى صديقه فهيم أفندي نصيف مفتش الري، فقد كمنا له في طريق عودته خلف حائط متهدم عند مدرسة البداري الابتدائية، وكان مفتش الري في صحبة المأمور، وما أن أصبحا على مقربة منهما حتى أطلقا عليهما عدة أعيرة نارية أردت المأمور قتيلا وأصابت مرافقه.
- حكم محكمة جنايات أسيوط:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بجلسة 21/6/1932 قضت محكمة جنايات أسيوط بمعاقبة المتهم الأول بالإعدام والثاني بالسجن المؤبد، حيث رأت هذه المحكمة أن المأمور كان يطارد هذين الشقيين ويقوم بواجبه، وأن ظرفي سبق الإصرار والترصد قد توافرا في حقهما. وقالت في استخلاصها لسبق الإصرار، إن المجرم قد تدبر أمره جيدا قبل ارتكاب الجريمة ثم أقدم عليها، وأنه كان يتحين الفرصة للإجهاز على الضحية (فيتوافر بذلك ظرف الترصد) وفى كلا الحالتين ينم ذلك عن خطورة إجرامية وتكون العقوبة هي الإعدام.
- سبق الإصرار والترصد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبق الإصرار يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيداً عن سورة الانفعال، مما يقتضي الهدوء والروية قبل ارتكابها، لا أن تكون وليدة الدفعة الأولى في نفس جاشت بالاضطراب، وجمح بها الغضب حتى خرج صاحبها عن طوره، وتقدير الظروف التي يستفاد منها توافره، هو مما يستقل به قاضى الموضوع بغير معقب، مادام كان استخلاصه سائغاً.
أما ظرف الترصد فهو وسيلة للفاتك يضمن بها تنفيذ جريمته غيلة وغدرا في غفلة من المجنى عليه، وعلى غير استعداد منه للدفاع عن نفسه، فاعتبر المشرع تلك الوسيلة بذاتها من موجبات الحكم بالإعدام .
- الطعن على الحكم بالنقض:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يرتض المحكوم عليهما قضاء محكمة جنايات أسيوط، فطعنا عليه بطريق النقض، وكان رئيس المحكمة هو القاضي الأديب المفكر عبد العزيز باشا فهمى، الذى سطر بأحرف من نور أحد أهم أحكام القضاء المصري، وإحدى الدرر القانونية الأدبية .
وضوح الرؤية والحياد التام:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعم .. لم تنكر محكمة النقض ذلك الجُّرم، الذي كشفت عنه ممارسات المأمور ورأته كما قالت عنه: (إجرام في إجرام، وشذوذ وليس أداء لواجب وظيفة، بل من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام).
ومن ثم فقد أنصفت المتهمين، ورأت أن تلك الأفعال التي تعرض لها المتهمين كانت أدعى إلى استعمال الرأفة معهما لا إلى تشديد العقاب، فأعلت بذلك مبدأ التطبيق الصحيح للقانون، بغض النظر عما إذا كان الحكم سيوافق هوى الرأي العام من عدمه في تلك الظروف السياسية المضطربة.
فانظر تلك البلاغة الأدبية والتطبيق القانوني الصحيح، وهو يقرر انتفاء ظرف سبق الإصرار الذى يوجب الإعدام حيث قال: "إن هذه المعاملة التي أثبتت المحكمة – محكمة جنايات أسيوط - أن المجنى عليه كان يعامل الطاعنين بها، هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون، وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام، لا شك أن مثلهما (أي المتهمان) الذى أوذِى واهتيج ظلما وطغيانا، والذى ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى الفظيع به - لاشك - أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه، فإنها تتجه إلى هذا الجُّرم موتورة مما كان، منزعجة مما سيكون، والنفس الموتورة المنزعجة هي نفس هائجة أبدا، لا يدع انزعاجها سبيلا لها إلى التبصر والسكون حتى يُحَكِّم العقل - هادئا متزنا مترويا – فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها" .
وانطلاقا من اقتناع محكمة النقض بأن المأمور القتيل قد مارس أفعالا مشينة مع المتهمين هي "قص الشارب، والإلجام بحبل من الليف، والضرب والإجبار على التسمي بأسماء النساء، بل وإيلاج العصى في الدبر، فقد استخلصت من ذلك بجلاء، أن هذا من شأنه أن يجعل المتهمين في حالة اضطراب لا استقرار فيه، وهياج مستمر لا فرصة معه في التفكير الهادئ المتروي، الذي هو شرط ضروري لتحقق سبق الإصرار الذى هو شرط للقضاء بعقوبة الإعدام .
ويناء على ذلك، فقد انتهت محكمة النقض إلى أن محكمة الجنايات قد أخطأت في تطبيق القانون، إذ اعتمدت علي وجود ذلك الظرف مع أنه منعدم، كما أخطأت في اعتبار أفعال المأمور الإجرامية ضربا من القيام بالواجب .إلا أنه لما كان ظرف الترصد قد توفر في الأوراق، وهو أيضا موجب للقضاء بعقوبة الإعدام، فإن المحكمة لم تجد مناصًا من رفض الطعن بالنقض وهى تعتصر ألما، وتجلت قمة الإنسانية لديها حين عبرت عن ذلك بقولها: (ولو كان الأمر بيد المحكمة، وكانت هي التي تقدر العقوبة، لما وَسعها أن تعاقب الطاعنين كليهما بمثل تلك الشدة ، بل لعاملتهما بما توجبه ظروف الدعوى من الرأفة والتخفيف ). إلى أن قالت تُعرب عن الأسى إزاء رفض الطعن: (حيث إنه لجميع ما تقدم، لا ترى هذه المحكمة في احترامها للقانون سوى رفض الطعن على مضض).
أما عن استغلال هذا الحكم سياسيا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد كان الجو السياسي مُهيئا لردود الفعل، التي نتجت عن حكم محكمة النقض، ولو كانت الظروف عادية لأمكن النظر إلى هذه الواقعة بحسبانها حادث بين رجل إدارة غالَى في قسوته، وبين مشتبه فيه ذهب بعيدا في انتقامه، غير أن الجو السياسي العام كان يقود إلي غير ذلك .
فمن ناحية، كان حزب الوفد قد فترت معارضته لحكومة صدقي من جراء الانقسام الذي عرفه خلال تلك الفترة، بين أغلبية مؤيدة لفكرة الحكومة القومية، وأقلية تضم مصطفي النحاس باشا ومعه سكرتير عام الحزب مكرم عبيد حتى انقسم الحزب، ولما استرد عافيته وكان متشوقا لمعركة تؤكد عودته لحالة المقاومة التي التزم بها ضد حكومة صدقي، قدمت له حادثة البداري الميدان المطلوب لهذه المعركة .
ومن ناحية أخري فإن الحزب الكبير الآخر، الأحرار الدستوريين الذي كان قد ائتلف مع الوفد في مقاومة وزارة صدقي باشا، قد خرج عن هذا الائتلاف، وكان بدوره في حاجة إلي مناسبة ليؤكد علي موقفه من الحكومة الملكية .
ولذلك نجد جريدة الأهرام تنشر في عددها الصادر في أول يناير عام1933بيانا طويلا تحت عنوان (من الوفد المصري إلي الأمة المصرية الكريمة ) دار حول سياسات حكومة صدقي عموما، وإن كان قد خصص جانبا كبيرا لحادثة البداري كان مما جاء فيه :(أيها المصريون- إن تلك الروح الخبيثة التي كشفت عنها حادثة البداري، والتي أفضت إلي الفوضى وما هو شر من الفوضى، فجعلت محكمة النقض تلتمس العذر للناس إذا ما انتقموا لأنفسهم وبأنفسهم، تلك الروح إنما هي ظاهرة من مظاهر الاستبداد المضروب علي أعناقكم، ولقد رأيتم كيف عاد عهد الكرباج لتحصيل الأموال الأميرية، في الوقت الذي أجدبت فيه أراضيكم، واشتدت بفعل الوزارة الضائقة المالية، فأكلت ما بقي لكم من زرع وضرع، وذهبت الأموال المجلوبة من عرق جبينكم إلي خزائن المستعمرين وشركائهم، ومن إليهم من الأعوان والمناصرين.
ولم يتخلف حزب الأحرار الدستوريين عن استغلال الحادث فنشر في جريدته يقول :(واليوم يحق لنا أن نتساءل: أمأساة مسألة البداري أم مهزلة، فهى في حكم محكمة الجنايات، وفي حكم محكمة النقض مأساة يقف لها شعر الرأس، وتضطرب من هولها القلوب والأفئدة، وهي في بيان وزير الحقانية مسألة تافهة لا تزيد على أن أحد المحكوم عليهم ضرب في فبراير1932 ضربا لم يترك أكثر من كدم في عينيه، ورُبط بحبل في مربط الخيل إرهابا لغيره من المشبوهين فأي الأمرين أصدق! أنبتسم على أنها مهزلة تافهة يقع من مثلها كثير، أم تضطرب نفوسنا لأنها مأساة أهينت فيها الكرامة الإنسانية وأهين فيها العدل والقانون شر إهانة)!
فضلا عن ذلك فإن الحكومة نفسها قد عرفت نوعا من الانقسام، إذ بينما كان رئيس الوزراء ومعه أغلبهم يقفون على جانب، كان علي ماهر وزير الحقانية يسانده عبد الفتاح يحيي باشا الذي كان يتطلع إلى رئاسة الوزارة يقفان في الجانب الآخر، ومرة أخرى قدمت حادثة البداري الميدان المناسب لتفجر المشاكل الكامنة بين الوزراء.
فكان أول ما فعله وزير الحقانية أن أمر بمعاملة الجناة معاملة المسجونين العاديين، وبناء علي ذلك نُزعت الأغلال التي كانا مقيدين بها، كما خُلعت الملابس الحمراء التي يرتديها المحكوم عليه بالإعدام عادة بعد الحكم عليه، ثم اتفق بعد ذلك مع وزير الداخلية على أن تشرع النيابة في التحقيق مع رجال الإدارة في المركز الذي رفعت فيه الشكاوى ضدهم بتهمة التعذيب خاصة وأن الشيخ أحمد جعيدي والد المحكوم بإعدامه قد تقدم بشكوي إلي النيابة يتهم فيها الإدارة في مركز البداري باضطهاد ولده الأكبر، وهو شقيق المحكوم بإعدامه، فأنذره البوليس كمتشرد وأمره أن يبيت كل ليلة في المركر.
الوجه السياسي من الحادثة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كشفت التحقيقات عن الوجه السياسي من الحادثة، والتي بدأت بسبب الخصومة بين آل جعيدي وبين آل همام بسبب العُمدية، ويبدو أن الأخيرين كانوا مُناصرين لحكومة صدقي، مما نتج عنه تعيين عمدة منهم علي جزء من البداري، فبدأت الشرطة في اضطهاد أفراد من آل جعيدي وفي مقدمتهم المحكوم بإعدامه، وأثناء ذلك وقعت الحوادث المنسوبة إلي مأمور البداري وإلي آخرين من رجال الإدارة .
وبدت الأزمة الوزارية التي تسببت فيها القضية، بعد أن تقدم نائبان في مجلس النواب - عبد الرحمن البيلي، وإبراهيم زكى) بسؤال لوزير الحقانية عن النتائج التي ترتبت علي التحقيقات، وكان من المتوقع أن يلقي الوزير بيانا يُبرئ فيه ساحة رجال الإدارة أو على الأقل يخفف من مسئوليتهم وهو ما لم يفعله الوزير على ماهر، ولكنه قال في بيانه: (إنه مهما يُقال من صحة رأى محكمة الجنايات، ومن إن حكمها مجرد قصور عن إبراز اعتقادها وتصوير مرادها، فلا شك أن الأذهان يبقي فيها أيضا شبهة أن هذا التحقيق ربما لم يصل إلي كشف الواقع علي حقيقته، وأن مجرد قيام تلك الشبهة يلقي غشاوة علي عدالة الحكم من جهة تقديره للعقوبة، ولا يجعل النفس مطمئنة تمام الاطمئنان إلا إذا خُففت في حق المحكوم عليهما، فبالنسبة لجعيدي، لأن عقوبته هي الإعدام، ومتي نُفذت استحال الرجوع فيها، وبالنسبة لحسن عاشور فقد ظهر حدوث اعتداء عليه قبل ارتكابه الجريمة).
تخفيف الحكم بأمر ملكي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الظروف، صدر أمر ملكي بتخفيف الحكم علي جعيدي من الإعدام إلي الأشغال الشاقة المؤبدة، وتخفيف العقوبة علي حسن عاشور من الأشغال الشاقة المؤبدة إلى الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما، وهو ما بدا استجابة لحكم محكمة النقض والإبرام، وفى ذات الوقت للتخفيف من بيان الوزير على ماهر .
ثم قدم صدقي باشا استقالته، وعزاها إلي ما أصاب الوزارة من وهن مما ترتب عليه استعصاء قيامه بواجبه الوطني، وأعقب ذلك إعادة تأليف الوزارة بعد إخراج كل من على ماهر وعبد الفتاح يحيى منها .
تعقيب:
ــــــــــــــــــ
وبذلك تكون قضية مأمور البداري ليلة 19 مارس عام 1932 قد أضعفت أحد جبابرة السياسة المصرية إسماعيل صدقي باشا، مما كان إيذانا بسقوطه النهائي بعد أقل من تسعة شهور، وبالتالي فقد نالت من الحكومة، بيد أنها لم تستطع النيل من القضاء، ذلك أنه غير ذي مصلحة على الدوام، ولا يُعلى سوى شأن العدل والتطبيق المجرد للقانون، بغض النظر عما يمكن أن يثيره المُغرضون من زوابع لا شك أن غُبارها يتبدد أمام نقاء سريرته.
وسيظل القضاء المصري لا يرى حين يقضى إلا وجه الحق والعدل، دونما ثمة اعتبار لما يمكن أن يُرضى الرأي العام أو يُغضبه، ودونما مثقال ذرة من اعتبار لأية صراعات سياسية أيا كان مقصدها ومرماها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى