كان أول وآخر لقاء بيننا، يومها نسيت دُميتها عندي!
في عهد المراهقة عندما فقدت والديَّ، كان يجب عليَّ البقاء وحيدًا، فلا أخ ولا أخت ولا قريب.
وكان لزامًا على عينيَّ الملتهبتين والمتوترتين أن تُضيئَا، حتى تشعَّ إرادتي لبعيد وأستطيع الإيمان بنفسي، ولكنني -أقولها وكلي أسًى- وإلى الآن لم أستطع.
كنت نحيلًا شاحبًا، أعمل مُدرسًا لأطفال الحي، كيما أستطيع مواصلة دراستي، عشقت الوحدة، انشغلت كثيرًا بالتأمل والتفكير، لازمني توتر الأعصاب والقلق، غمرتني فكرة الموت الذي حرم حياتي طفرة واحدة من الشمس والقمر.. أبواي، غمرتني بنشوة فياضة كأنها النسيم العليل، ولكن هذا النسيم لم يلبث أن ازداد سرعة وعصفًا، فأصبحت أتناول كل المعلومات حولي، في دراستي، وفي وسائل الإعلام، ومن أفواه زملائي في الجامعة، تناولًا مأساويًّا أفسد عليَّ حياتي أكثر وأكثر.
دفعت من أعصابي وهدوئي ثمنًا باهظًا لإقدامي الدائم على التأمل، التأمل في الموت الذي لو طالني فسأستعيد أبويَّ مرة أخرى، والتأمل أيضًا في سر الكون، وهكذا عشتُ حزينًا، لم تكن رأس ذئب يعوي يطل من نافذة غرفتي ليثير انفعالي، مثلما كانت تثير انفعالي سماء مرصعة بنجوم مُحتضرة وقد خبا الضوء منها، تلوح من نفس الزجاج، وكانت إذا داهمتني تلك الأفكار لاحت على عقلي أعراض إعياء أو نعاس، لا تلبث أن تعقبها تصورات مشوشة أو استغراق في نوم عميق.
بعد أن بذلت جهدًا عظيمًا -بلا جدوى- لأتخلص من فكرة الموت، هذا الذي كنت أنتظره انتظار من يغرق لطوق نجاة يُلقي له، خطر لي أن أنتقم من الحياة نفسها، بكل ما فيها من أضواء زائفة، وطغيان بغيض.
حاولت ولكن أنَّى لمرهف المشاعر، حالم مثلي أن يفعل.
وهكذا رحتُ أبدد صرخاتي المتضرعة وحيدًا، في فراغ غرفتي المُظلمة، وما هي إلا دقائق حتى أخرَّ راكعًا، أتحسس أرض الغرفة وأنقب عسى أن أجد زرًّا، أضغطه عن طريق الصدفة، فتفتح لي السماء في عليائها ويشرق لي موكب الملائكة.
عشت الملل في أبشع حالاته، فجعلت أتنقل بين أكثر صوره غرابة وتنوعًا، غرقت في ملل شره وحشي يلتهم كل كربة، إلى ملل أخرس خانق يتبدد فيه كل زهو وإلحاح -كأنه صرخة في الضباب-، إلى ملل كئيب أسود يطوي كل بهجة بريئة في عذاب فكرة الموت المتسلطة.
كان الآخرون يفيضون حيوية، وكنت أشعر بالملل، كانوا يتمتعون باللهو وكنت أشعر بالملل.
ومن يدري أي فيلسوف كان يموت ببطء بين جوانحي كل يوم في جولات الملل، تلك التي كانت تنتهي دائمًا أمام المرآة التالفة المعلقة في غرفتي، والتي كنت أقف في مواجهتها أفتح فمي وأنظر إلى أسناني، على الرغم من أيماني المغلظة بألا أعود إليها مرة أخرى!
حتى جاء يوم غائم من أيام الشتاء القارس، كانت تتدلى فيه من السماء ستائر سوداء وكبريتية اللون، في مثل تلك الأيام كانت نفسي تميل إلى رؤية الحياة أكثر إشراقًا وأبهى من أي وقت آخر، ارتديت معطفي الأسود، وجعلت أسير هائمًا على وجهي، في شوارع خالية تمامًا من مظاهر الحياة، حتى وصلت بلا عمد إلى ضفة نهر النيل.
جعلتُ بعينين تفيضان مرارة، أتابع وجهي الشاحب على صفحات ماء النهر، كانت تداعبه البرودة والرياح، وتتقاطع معه ستائر السماء السوداء والكبريتية، لا أدري كم مضى من الوقت وأنا على هذه الحالة، حتى ظهر إلى جوار وجهي على صفحات الماء وجه آخر، وجه مبتسم لفتاة تُحدق إلى الماء بعينيها اللتين كانتا جريئتينِ بلهاوتينِ، خلتُها زرقاوتينِ كما هي الأعين الزجاجية لدمية رخيصة، التفتُّ عن يساري كانت الفتاة واقفة إلى جواري تنظر إلى الماء هي الأخرى، لا أذكر تفصيلًا كيف كان الحوار بيننا، ماذا قلتُ! وماذا قالت! ولكننا مضينا، وقد بدأ قطر الأمطار في الهطول، في الطريق دلفنا إلى محل لعب أطفال قديم أعرفه، كنت أمرُّ عليه في طريق عودتي من المدرسة، كان مفتوحًا على رغم برودة الطقس، وبداخله عجوز منكمش، عم لقمان وبدا أنه في طريقه إلى غلق المحل والانصراف، وقبل أن يفعل، اشتريت منه دمية هدية لرفيقتي، ثم انصرفنا تحت الأمطار التي كانت قد اشتدت.
لاهثين ركضنا إلى شقتي، تطاردنا عاصفة هوجاء، هناك ألقت بالدمية في أحد الأركان، بلا مبالاة، ثم فتحت ذراعيها وعانقتني في غرفتي المظلمة.
في المساء مضينا، وقد صفا الجو تاركًا الأسفلت رطبًا ينفث رطوبته.
توقفت فجأة:
- يا خبر! لقد نسيت دميتي هناك. (قالتها بعين حزينة دامعة).
- لنصعد من أجلها. (قلتها في جدية).
- الآن! لا، في المرة القادمة. (قالتها بابتسامة ملْؤُها الشجن).
أزعجني الأمر، لم نكن قد اتفقنا على مرات قادمة، لكنني استسلمت لها، رافقتها قليلًا ثم عند الناصية، ذكرت شيئًا لم أسمعه عن لقاء قادم، وافقت مضطرًا حتى أنصرف سريعًا، لم أعطها رقم هاتفي، أخذت رقمها وأكدت لها أنني سأهاتفها، درت على عقبيَّ عائدًا إلى شقتي، بمجرد أن افترقنا، نسيتها، وسعدت بهذا جدًّا، مرة أخرى يمكنني أن أكون بمفردي.
عندما خطوت إلى داخل الغرفة، أضأت المصباح الأصفر، صب المصباح ذهبه بالتساوي على الأثاث والستائر وعلى وجهي أيضًا، تدفقت الأمطار مرة أخرى، أخذت تقرع النافذة، تنقر على خشبها رموز برقية من برقيات الزمان المنصرم، سطورًا طويلة وقصيرة، وقفت طويًلا أتهجى، قارئًا حروف الرسالة ببطء، تألم قلبي بشدة، كانت الرسائل تقول الآتي:
أولًا: أنت إنسان شرير نذل وضيع.
ثانيًا: لن يكون بمقدورك البقاء وحيدًا مرة أخرى.
ثالثًا: لن تستطيع التأمل في الموت وسر الكون.
رابعًا: الفتاة التي تركتها الآن مسكينة وأنت لصٌّ آثم.
فكرت أنه من المحتمل أنني قد قرأت الرسائل بشكل خاطئ، أو أنني أبالغ وكعادتي أتناول الموضوعات بشكل مأساوي.
الآن أُقسِّي قلبي، أتناساها، ولسوف أرقد وحيدًا في الفراش، لكن هل أنا حقًّا وحدي؟! عندما ضغطتُ مغلقًا زر المصباح، أحسست بقلب ينبض في الظلام، دُميتها، فكرت فيها منزعجًا، لماذا تركتها هنا، لم أر حتى أين وضعتها، ربما هي في مواجهتي تمامًا تطل عليَّ من الظلام، أنا لا أحب هذا أبدًا، ربما كانت تسكن فيها روح شريرة كما كنت أسمع من جدتي قديمًا، يتحتم عليَّ أن أعرف أين وضعتُها، أضأت المصباح وبدأتُ في البحث، هي بالفعل هناك بجانب المنضدة، بالكاد أسندتها الفتاة هناك قبل أن نمضي، يمكن أن تسقط في أي وقت من الليل، تفزعني وتخرجني من أحلامي، سالت قطرات المطر من شعرها المبلل، سقت الأرض تمامًا، بكت بركة دموع على الأرضية، يا لها من دمية باكية، هي تقف بريئة مُنتحبة ومُتباكية كفتاة رسبت في الامتحان، سيكون أفضل شيء أن أخرجها إلى مدخل الشقة، فلتكن ملكًا لشخص غيري، سألقي بها بلا رحمة، وأغلق الباب وراءها، حينها سأنام بطمأنينة، وفي النهاية هي فتاة عرفتها ليوم واحد، هي فقط تربكني وتزعجني، بالقطع لا أحبها، ما صلتي بها وبدميتها؟!
أحاول النوم، موجات من أفكار تنهمر ساخنة فوق رأسي، أنا لا أحلم، ولكنني أراها، أرى الفتاة مازالت تسير بخطوات منمنمة دقيقة، تضربها الأمطار المتلاحقة، بلوزتها البيضاء مبللة وجونلتها موحلة! شعرها بارد من الماء، ربما بدأت تسعل أيضًا وغدًا ستكون مريضة.
شيء ما يسيطر على عقلي، يتملكني، يجعلني لا أستطيع إلا أن أشفق عليها وعلى دميتها، بالتأكيد هي ليست روحًا شريرة تلك التي تستقر في دميتها الحزينة، لو أنها عرفت أنني ألقيت بدميتها بالخارج، ستؤلمها هذه الهمجية.
أنا لم أهن دميتها فحسب، لكنني أهنتها هي نفسها، أما الإهانة فهي تؤلمني أنا، تؤلمني بشدة، وكَوني إنسانًا مرهفًا، فلن أسمح لنفسي أن أصبر على معاناتي جراء خطأ ارتكبته أنا، من الأفضل إذًا أن أنهض وأُدخلها، سأوقفها في الغرفة مرة أخرى.
مرة أخرى أحاول النوم، لا ألبث أن أهبَّ مفزوعًا، يا تُرى ماذا يمكن أن تكون فاعلة رفيقتي في النوم، مرة أخرى يجب أن ألقي نظرة عليها، هل أسندتها جيدًا إلى الحائط، بالفعل هي تقف بشكل سيئ، سيكون من الأفضل أن أرقدها بلطف على الأرض، على السَّجادة، حتى تكون على شيء لين، بجوار فراشي تمامًا، بالقرب مني، كأنها تتوسل لتأتي إلى فراشي، تريد أن تحني رأسها المبلول على صدري، تعالي إلى هنا يا دميتي الجميلة، بجواري في الفراش، لا تخافي، أنا أحترس لك، فقط نامي، سأهدهِدُكِ كلَّ مساء، وأنظر إليك بقلب خافق، أشربتِ لبنك مساءً؟ فقط نامي، «نينَّا هووو».
احتلال هادئ يتدفق إلى بيتي، لم تعد الشقة ملكي وحدي، بل ملكنَا.
هل أحببت هذه الفتاة؟! وكيف لا أحبها؟! أحببتها بصورة مثيرة للاشمئزاز، لا أستبعد أن أهاتفها صباحًا وأطلبها للزواج، شيء ما مشترك بيننا، هكذا أشعر، لقد بزغ الفجر بالفعل، بالخارج أخذت السماء تمطر مرة أخرى، تنسكب المياه على البيوت، تغسلها تطهرها، أنا لا أفكر إلا في أنني أحبها جدًّا، الآن ليس عندي سواها.
مرة أخرى تتدفق الأمطار، تقرع النافذة، تنقر على خشبها الرسائل تقول:
أولًا: أنت إنسان شرير نذل وضيع.
ثانيًا: لن يكون بمقدورك البقاء وحيدًا مرة أخرى.
ثالثًا: لن تستطيع التأمل في الموت وسر الكون.
رابعًا: الفتاة التي تركتها الآن مسكينة وأنت لصٌّ آثم.
قلبي كما لو كنت طُعنتُ فيه بسكين، يؤلمني رأسي، يجب عليَّ أن أضع عليه الكمادات.
أحني رأسي إلى راحتيَّ، أنفجر باكيًا، لم يعد بإمكاني البقاء وحيدًا، أبدًا، لم يعد بإمكاني أن أكون وحيدًا.
إلى جانب ذلك مُحتمل جدًّا أن أموت في الصباح.
الموت الذي كنت أنتظره بلهفة، الآن أصبحت أخشاه كثيرًا.
وآه! كم أخشى أيضًا.. إن أنا متُّ..
أن تصحبني تلك الدمية في نعشي..
يضعوها في قبري..
لترقد في جواري!
في عهد المراهقة عندما فقدت والديَّ، كان يجب عليَّ البقاء وحيدًا، فلا أخ ولا أخت ولا قريب.
وكان لزامًا على عينيَّ الملتهبتين والمتوترتين أن تُضيئَا، حتى تشعَّ إرادتي لبعيد وأستطيع الإيمان بنفسي، ولكنني -أقولها وكلي أسًى- وإلى الآن لم أستطع.
كنت نحيلًا شاحبًا، أعمل مُدرسًا لأطفال الحي، كيما أستطيع مواصلة دراستي، عشقت الوحدة، انشغلت كثيرًا بالتأمل والتفكير، لازمني توتر الأعصاب والقلق، غمرتني فكرة الموت الذي حرم حياتي طفرة واحدة من الشمس والقمر.. أبواي، غمرتني بنشوة فياضة كأنها النسيم العليل، ولكن هذا النسيم لم يلبث أن ازداد سرعة وعصفًا، فأصبحت أتناول كل المعلومات حولي، في دراستي، وفي وسائل الإعلام، ومن أفواه زملائي في الجامعة، تناولًا مأساويًّا أفسد عليَّ حياتي أكثر وأكثر.
دفعت من أعصابي وهدوئي ثمنًا باهظًا لإقدامي الدائم على التأمل، التأمل في الموت الذي لو طالني فسأستعيد أبويَّ مرة أخرى، والتأمل أيضًا في سر الكون، وهكذا عشتُ حزينًا، لم تكن رأس ذئب يعوي يطل من نافذة غرفتي ليثير انفعالي، مثلما كانت تثير انفعالي سماء مرصعة بنجوم مُحتضرة وقد خبا الضوء منها، تلوح من نفس الزجاج، وكانت إذا داهمتني تلك الأفكار لاحت على عقلي أعراض إعياء أو نعاس، لا تلبث أن تعقبها تصورات مشوشة أو استغراق في نوم عميق.
بعد أن بذلت جهدًا عظيمًا -بلا جدوى- لأتخلص من فكرة الموت، هذا الذي كنت أنتظره انتظار من يغرق لطوق نجاة يُلقي له، خطر لي أن أنتقم من الحياة نفسها، بكل ما فيها من أضواء زائفة، وطغيان بغيض.
حاولت ولكن أنَّى لمرهف المشاعر، حالم مثلي أن يفعل.
وهكذا رحتُ أبدد صرخاتي المتضرعة وحيدًا، في فراغ غرفتي المُظلمة، وما هي إلا دقائق حتى أخرَّ راكعًا، أتحسس أرض الغرفة وأنقب عسى أن أجد زرًّا، أضغطه عن طريق الصدفة، فتفتح لي السماء في عليائها ويشرق لي موكب الملائكة.
عشت الملل في أبشع حالاته، فجعلت أتنقل بين أكثر صوره غرابة وتنوعًا، غرقت في ملل شره وحشي يلتهم كل كربة، إلى ملل أخرس خانق يتبدد فيه كل زهو وإلحاح -كأنه صرخة في الضباب-، إلى ملل كئيب أسود يطوي كل بهجة بريئة في عذاب فكرة الموت المتسلطة.
كان الآخرون يفيضون حيوية، وكنت أشعر بالملل، كانوا يتمتعون باللهو وكنت أشعر بالملل.
ومن يدري أي فيلسوف كان يموت ببطء بين جوانحي كل يوم في جولات الملل، تلك التي كانت تنتهي دائمًا أمام المرآة التالفة المعلقة في غرفتي، والتي كنت أقف في مواجهتها أفتح فمي وأنظر إلى أسناني، على الرغم من أيماني المغلظة بألا أعود إليها مرة أخرى!
(2)
حتى جاء يوم غائم من أيام الشتاء القارس، كانت تتدلى فيه من السماء ستائر سوداء وكبريتية اللون، في مثل تلك الأيام كانت نفسي تميل إلى رؤية الحياة أكثر إشراقًا وأبهى من أي وقت آخر، ارتديت معطفي الأسود، وجعلت أسير هائمًا على وجهي، في شوارع خالية تمامًا من مظاهر الحياة، حتى وصلت بلا عمد إلى ضفة نهر النيل.
جعلتُ بعينين تفيضان مرارة، أتابع وجهي الشاحب على صفحات ماء النهر، كانت تداعبه البرودة والرياح، وتتقاطع معه ستائر السماء السوداء والكبريتية، لا أدري كم مضى من الوقت وأنا على هذه الحالة، حتى ظهر إلى جوار وجهي على صفحات الماء وجه آخر، وجه مبتسم لفتاة تُحدق إلى الماء بعينيها اللتين كانتا جريئتينِ بلهاوتينِ، خلتُها زرقاوتينِ كما هي الأعين الزجاجية لدمية رخيصة، التفتُّ عن يساري كانت الفتاة واقفة إلى جواري تنظر إلى الماء هي الأخرى، لا أذكر تفصيلًا كيف كان الحوار بيننا، ماذا قلتُ! وماذا قالت! ولكننا مضينا، وقد بدأ قطر الأمطار في الهطول، في الطريق دلفنا إلى محل لعب أطفال قديم أعرفه، كنت أمرُّ عليه في طريق عودتي من المدرسة، كان مفتوحًا على رغم برودة الطقس، وبداخله عجوز منكمش، عم لقمان وبدا أنه في طريقه إلى غلق المحل والانصراف، وقبل أن يفعل، اشتريت منه دمية هدية لرفيقتي، ثم انصرفنا تحت الأمطار التي كانت قد اشتدت.
لاهثين ركضنا إلى شقتي، تطاردنا عاصفة هوجاء، هناك ألقت بالدمية في أحد الأركان، بلا مبالاة، ثم فتحت ذراعيها وعانقتني في غرفتي المظلمة.
في المساء مضينا، وقد صفا الجو تاركًا الأسفلت رطبًا ينفث رطوبته.
توقفت فجأة:
- يا خبر! لقد نسيت دميتي هناك. (قالتها بعين حزينة دامعة).
- لنصعد من أجلها. (قلتها في جدية).
- الآن! لا، في المرة القادمة. (قالتها بابتسامة ملْؤُها الشجن).
أزعجني الأمر، لم نكن قد اتفقنا على مرات قادمة، لكنني استسلمت لها، رافقتها قليلًا ثم عند الناصية، ذكرت شيئًا لم أسمعه عن لقاء قادم، وافقت مضطرًا حتى أنصرف سريعًا، لم أعطها رقم هاتفي، أخذت رقمها وأكدت لها أنني سأهاتفها، درت على عقبيَّ عائدًا إلى شقتي، بمجرد أن افترقنا، نسيتها، وسعدت بهذا جدًّا، مرة أخرى يمكنني أن أكون بمفردي.
(3)
عندما خطوت إلى داخل الغرفة، أضأت المصباح الأصفر، صب المصباح ذهبه بالتساوي على الأثاث والستائر وعلى وجهي أيضًا، تدفقت الأمطار مرة أخرى، أخذت تقرع النافذة، تنقر على خشبها رموز برقية من برقيات الزمان المنصرم، سطورًا طويلة وقصيرة، وقفت طويًلا أتهجى، قارئًا حروف الرسالة ببطء، تألم قلبي بشدة، كانت الرسائل تقول الآتي:
أولًا: أنت إنسان شرير نذل وضيع.
ثانيًا: لن يكون بمقدورك البقاء وحيدًا مرة أخرى.
ثالثًا: لن تستطيع التأمل في الموت وسر الكون.
رابعًا: الفتاة التي تركتها الآن مسكينة وأنت لصٌّ آثم.
فكرت أنه من المحتمل أنني قد قرأت الرسائل بشكل خاطئ، أو أنني أبالغ وكعادتي أتناول الموضوعات بشكل مأساوي.
الآن أُقسِّي قلبي، أتناساها، ولسوف أرقد وحيدًا في الفراش، لكن هل أنا حقًّا وحدي؟! عندما ضغطتُ مغلقًا زر المصباح، أحسست بقلب ينبض في الظلام، دُميتها، فكرت فيها منزعجًا، لماذا تركتها هنا، لم أر حتى أين وضعتها، ربما هي في مواجهتي تمامًا تطل عليَّ من الظلام، أنا لا أحب هذا أبدًا، ربما كانت تسكن فيها روح شريرة كما كنت أسمع من جدتي قديمًا، يتحتم عليَّ أن أعرف أين وضعتُها، أضأت المصباح وبدأتُ في البحث، هي بالفعل هناك بجانب المنضدة، بالكاد أسندتها الفتاة هناك قبل أن نمضي، يمكن أن تسقط في أي وقت من الليل، تفزعني وتخرجني من أحلامي، سالت قطرات المطر من شعرها المبلل، سقت الأرض تمامًا، بكت بركة دموع على الأرضية، يا لها من دمية باكية، هي تقف بريئة مُنتحبة ومُتباكية كفتاة رسبت في الامتحان، سيكون أفضل شيء أن أخرجها إلى مدخل الشقة، فلتكن ملكًا لشخص غيري، سألقي بها بلا رحمة، وأغلق الباب وراءها، حينها سأنام بطمأنينة، وفي النهاية هي فتاة عرفتها ليوم واحد، هي فقط تربكني وتزعجني، بالقطع لا أحبها، ما صلتي بها وبدميتها؟!
أحاول النوم، موجات من أفكار تنهمر ساخنة فوق رأسي، أنا لا أحلم، ولكنني أراها، أرى الفتاة مازالت تسير بخطوات منمنمة دقيقة، تضربها الأمطار المتلاحقة، بلوزتها البيضاء مبللة وجونلتها موحلة! شعرها بارد من الماء، ربما بدأت تسعل أيضًا وغدًا ستكون مريضة.
شيء ما يسيطر على عقلي، يتملكني، يجعلني لا أستطيع إلا أن أشفق عليها وعلى دميتها، بالتأكيد هي ليست روحًا شريرة تلك التي تستقر في دميتها الحزينة، لو أنها عرفت أنني ألقيت بدميتها بالخارج، ستؤلمها هذه الهمجية.
أنا لم أهن دميتها فحسب، لكنني أهنتها هي نفسها، أما الإهانة فهي تؤلمني أنا، تؤلمني بشدة، وكَوني إنسانًا مرهفًا، فلن أسمح لنفسي أن أصبر على معاناتي جراء خطأ ارتكبته أنا، من الأفضل إذًا أن أنهض وأُدخلها، سأوقفها في الغرفة مرة أخرى.
مرة أخرى أحاول النوم، لا ألبث أن أهبَّ مفزوعًا، يا تُرى ماذا يمكن أن تكون فاعلة رفيقتي في النوم، مرة أخرى يجب أن ألقي نظرة عليها، هل أسندتها جيدًا إلى الحائط، بالفعل هي تقف بشكل سيئ، سيكون من الأفضل أن أرقدها بلطف على الأرض، على السَّجادة، حتى تكون على شيء لين، بجوار فراشي تمامًا، بالقرب مني، كأنها تتوسل لتأتي إلى فراشي، تريد أن تحني رأسها المبلول على صدري، تعالي إلى هنا يا دميتي الجميلة، بجواري في الفراش، لا تخافي، أنا أحترس لك، فقط نامي، سأهدهِدُكِ كلَّ مساء، وأنظر إليك بقلب خافق، أشربتِ لبنك مساءً؟ فقط نامي، «نينَّا هووو».
احتلال هادئ يتدفق إلى بيتي، لم تعد الشقة ملكي وحدي، بل ملكنَا.
هل أحببت هذه الفتاة؟! وكيف لا أحبها؟! أحببتها بصورة مثيرة للاشمئزاز، لا أستبعد أن أهاتفها صباحًا وأطلبها للزواج، شيء ما مشترك بيننا، هكذا أشعر، لقد بزغ الفجر بالفعل، بالخارج أخذت السماء تمطر مرة أخرى، تنسكب المياه على البيوت، تغسلها تطهرها، أنا لا أفكر إلا في أنني أحبها جدًّا، الآن ليس عندي سواها.
مرة أخرى تتدفق الأمطار، تقرع النافذة، تنقر على خشبها الرسائل تقول:
أولًا: أنت إنسان شرير نذل وضيع.
ثانيًا: لن يكون بمقدورك البقاء وحيدًا مرة أخرى.
ثالثًا: لن تستطيع التأمل في الموت وسر الكون.
رابعًا: الفتاة التي تركتها الآن مسكينة وأنت لصٌّ آثم.
قلبي كما لو كنت طُعنتُ فيه بسكين، يؤلمني رأسي، يجب عليَّ أن أضع عليه الكمادات.
أحني رأسي إلى راحتيَّ، أنفجر باكيًا، لم يعد بإمكاني البقاء وحيدًا، أبدًا، لم يعد بإمكاني أن أكون وحيدًا.
إلى جانب ذلك مُحتمل جدًّا أن أموت في الصباح.
الموت الذي كنت أنتظره بلهفة، الآن أصبحت أخشاه كثيرًا.
وآه! كم أخشى أيضًا.. إن أنا متُّ..
أن تصحبني تلك الدمية في نعشي..
يضعوها في قبري..
لترقد في جواري!