عزيز العرباوي - في أدب الأوبئة ورسائل الكُتّاب

منذ ظهرت الفيروسات والأوبئة على وجه الأرض والإنسان يحاول جاهدًا التعبير عن مشاعره تجاهها والتعاطي معها كشيء موجود في حياته سواء بمحاربتها بوسائله البسيطة والبدائية، أم بواسطة البحث العلمي الذي استطاع إيجاد لقاحات لها للحد من خطرها على البشرية أو إنهاء تطورها واستفحالها في المستقبل. وإن كانت رؤية الإنسان عمومًا، وعلى مر العصور، رؤية تتصف بالتخوف من استفحال الفيروس كوباء وانتشاره بسرعة قياسية، كما تتصف في أغلب الأحيان بعدم قدرته على إيجاد الحلول المناسبة له في أقصى سرعة ممكنة، فإن الإنسان استطاع أن ينتصر عليه في النهاية ويحقق ما لا يمكن تصوره علميًا حيث التوصل إلى لقاح معالج له ومانع له من الظهور مرة أخرى بنفس الشكل ونفس العناصر المكونة له، اللهم إن تمكن الفيروس من تطوير نفسه وظهوره بشكل جديد مخالف لما كن عليه من قبل.

يفضح الوباء الإنسان ويفرض عليه روتينًا يجر من خلاله خطواته التائهة بملامحه الباهتة وسيزيفيته الحاملة لصخور المعاناة والأحزان والهزائم المتتالية؛ إنه يمثل حقيقة الفرد العبثية التي تخفي بين طياتها حقيقة الإنسان ودلالة وجوده. هناك تعبير واضح وجلي عن هشاشته وضعفه المثير للشفقة؛ حيث يأتي الوباء محملًا بذاكرة مشروخة وبتاريخ حافل بالموت والحزن والعزلة والخوف والقلق والفظاعات. الوباء لعنة تنتهي بالموت وترقب النهاية مهما طالت؛ حيث تشتد الأزمة لتخفي في طريقها الفرح والسعادة والأمل والابتسامة والحلم بغد مشرق. يلهث الإنسان اليوم نحو العدم، فيعود إلى ذاته حيث تتجلى الحياة عبثية أمامه ولا جدوى منها؛ بل "تتبخر فجأة كل المجهودات التي تعاند بحثًا عن المعنى، بحيث ينساب الاغتراب مطبقًا على صدر الأفراد، ومعلنًا أن كل ما عاشه وما سيعيشه هو نسيانٌ محضٌ للموت ومساكنته بغية القدرة على الاستمرار بعيدًا عن القلق الوجودي. فما يوقظ عذاب المرء وآلامه هو الوعي الذي ينتاب المرء بلا معقولية وجوده، ومعرفته بأن كل ما يقوم به آيلٌ للسقوط"[1].

تذكر العديد من الكتابات التاريخية والشواهد الإنسانية التي تصدت للأوبئة والأمراض الخطيرة عبر تاريخ الإنسان، وجود العديد من الأمراض والأوبئة الخطيرة التي كانت لها نتائج وخيمة وسلبية على الإنسان والمجال وحتى الحيوانات. حيث أسهمت هذه الأوبئة في خلق نزف سكاني في بعض البلدان، وأدت إلى تراجع الأنشطة البشرية على المستوى الاقتصادي والتجاري والسياحي كانت لها انعكاسات كبيرة عليها وحدتْ من الاستقرار البشري في العديد من المناطق في العالم. ولقد تسببت الأوبئة منذ القِدم في العديد من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية، وها هي كورونا تفعل ذلك من جديد، فقد خلقت حالات من الطوارئ في بلدان العالم قاطبة، ما دفعها إلى تعليق جانب كبير من حقوق الناس الأساسية منها والثانوية، من أجل حماية الجميع وصحتهم؛ ففي الوقت الذي كان العالم فيه يتوجه نحو تأسيس منظور جديد سياسي واقتصادي، اصطدم بوباء جديد فرض عليه تغيير استراتيجيته في النهاية والبدء من نقطة الصفر، حيث "كانت النتيجة الأكثر وضوحًا للجائحة هي تعطيل جزء مهم من النشاط الاقتصادي والاجتماعي، مع التسبب في ركود وبطالة لم نشهدهما منذ ما يقارب قرنًا من الزمن، علاوة على تعليق عدد كبير من الحريات العامة والحقوق الأساسية، بدءًا بحرية التنقل والتجمع. إن الأمر بالنسبة إلى الديمقراطيات الغربية صدمة غير مسبوقة، هزَّ ركيزتيها الأساسيتين: الرأسمالية والليبرالية. ولم يكنْ هناك من غاية أخرى سوى إنقاذ الأرواح البشرية"[2]. فلا يمكن للوباء المذكور أن يحدث تغييرًا حقيقيًا على مستوى الوعي وتجاوز التجربة البشرية القائمة منذ عقود على الأقل؛ بل ينبغي التفكير في الكيفية التي تمكننا من قراءته جيدًا وفهمه واستثماره من أجل إعادة تقييم المنظومة الثقافية العالمية وتحديد المسؤوليات.

الأدب والوباء

ينطلق الأدب الإنساني الذي يتعاطى مع الأوبئة من كونها مستجدة وطارئة على حياة الإنسان، فتنطلق الكتابة معه على شكل نصوص واصفة للواقع ولما يتركه الوباء عمومًا على المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، أو حتى على البشرية كاملة في العالم. فأهم ما يميز هذه النصوص هو البحث عن معنى ما يتركه الوباء في حياة الناس من هلع وخوف وآثار نفسية تجعلهم يتخبطون في تكاليف الحياة ويدفعون أنفسهم إلى الجنون من خلال سلوكياتهم اليومية ومن خلال ما يروجونه من أخبار زائفة أو حقيقية، كما نجد نصوصًا متخيلة تستحضر نتائج الوباء على الإنسان، أو باستدعاء أحداث أو وقائع حقيقية وبناء نصوص أدبية مثيرة للجدل، كما هو الشأن مع نص "ديكاميرون" لجيوفاني بوكاتشيو Giovanni Boccaccio مثلاً، أو مع رواية "الطاعون" لألبير كامو Albert Camus، أو مع رواية "العمى" لخوسيه ساراماغو José Saramago،... وغيرها من النصوص المثيرة للجدل عالميًا منذ زمان.

تؤكد ناريمان العكري على أننا نعيش اليوم أوضاعًا اجتماعية وإنسانية مشابهة بما تحدث عنه ألبير كامو في روايته "الطاعون"، حيث نصطدم بشخصيات تشعر بآلام الإنسان في زمن كورونا؛ إنسان يترنح ويضطرب حركيًا وفكريًا في انتظار موت محقق كأنه شيء جديد عليه[3]. وهنا، نقول إن الموت عنوان لضعف الإنسان وتذكير له بنهايته المؤجلة والتي لا يقاربها فكريًا ولا يرتقبها إلا لمامًا. إنه تجلي الموت المعبر عنه أدبيًا وثقافيًا، حيث تبقى علاقة الفرد بالموت علاقة غامضة لا يستطيع فهم كنهها إلا القليل من الناس الذين استطاعوا قراءته فلسفيًا وعلميًا، أما الأدب فيبقى تعبيراً تخييليًا وفنيًا عن مشاعر الإنسان وأحاسيسه تجاه الموت وسلطته.

إن بروز أدب الوباء في الكتابة الأدبية والعلمية على السواء جاء ليحقق نوعًا من التعبير عن حقبة عاشتها البشرية فتركت كثيرًا من الأحزان والنتائج السلبية، كما تركت في الوقت نفسه نتائج إيجابية فرضت على العديد من المجتمعات التي تعرضت للوباء أن تغير من ثقافتها وسلوكياتها في الحياة والتفكير والتدبير. وما يجب التأكيد عليه في هذا الأمر هو أن الوباء قد علّم الإنسانية كيف تتغير وتتطور من سلوك إلى آخر، وكيف تفكر في من يشاركها الوجود على كوكب الأرض سواء كان بشرًا أم حيوانًا أم مخلوقًا آخر.

إن تلقي أدب الوباء يمر عبر رسالة ثقافية وفكرية يهدف الكاتب من خلالها إلى إيصال فكرته ورؤيته لهذا الوباء وكيفية الوقاية منه، أو كيفية التعامل معه باعتباره طارئًا في حياة الإنسان ومفاجئًا له في خضم سيرورة الحياة العادية التي يظهر فجأة فيها وباء يقوض كل شيء ويدفع المرء إلى إعادة النظر في مسار حياته ويغير من سلوكه ومن أفعاله وطريقة استهلاكه للمواد والأفكار. فالأديب عندما يختار الكتابة عن الوباء يستحضر بالضرورة علاقته بمتلقيه الذي اعتاد منه كل شيء مثير ومميز ورمزي وإيحائي يقوده إلى البحث عن المعنى الذي يوجه رأيه وفكره وثقافته نحو التفكير في علاقته بالأشياء. إنه يثق به ثقة عمياء في أغلب اللحظات، نظراً لكونه يعبر عما فشل (المتلقي) في التعبير عنه سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، وكأنه يجد عزاءه (المتلقي) في إبداعات الأديب الكاتب للوصول إلى ما يؤمن به من أفكار ومعتقدات.

يتجلى الوباء في كتابة الأدباء في العالم، في كونه موضوعًا مثيرًا للجدل، بل في كونه قضية إنسانية تمثل رؤية نقدية للسلوك البشري، ولثقافته التدميرية للأرض ومن عليها، بل ولقيمه الهدامة المبنية على المادة وتبنيها السياسي والاقتصادي الذي يهدد الاستقرار الأمني عالميًا ويدمر العلاقات البشرية التي سنَّها الخالق تعالى لنا جميعًا. فهل حققت الكتابة عن الوباء غايتها؟ أم أن البشر بطبعهم ناكرين لكل جميل؟ وهل استفادت البشرية من تاريخها الحافل بالوباء وبنتائجه المدمرة على جميع المستويات؟ أم أنها ضربت كل ذلك بعرض الحائط واستمرت في تدمير البيئة وعناصرها والتصارع على المصالح الذاتية الضيقة؟ في حقيقة الأمر، لقد تجاهلت كل شيء، وبحثت عما يحقق لها مطامعها دون الالتفات للنتائج، أو حتى التفكير في مستقبلها الذي قد يحمل لها ما لا يحمد عقباه، فنسيت كل ما كتبه الأدباء والمفكرون والعلماء حول قدرة الوباء على الفتك والتدمير والقتل.

إن الكتابة عن الوباء هي إعادة لاكتشاف الذات البشرية، ولاكتشاف المعنى من الوجود والغاية منه، حيث تقدمه التفسيرات الأدبية أثناء عملية الكتابة عنصرًا متغيرًا في حياة الإنسان عمومًا، نظرًا لكونه طارئًا، ولكونه أيضًا مرضًا خطيرًا تفشل البشرية جمعاء في إيجاد حلٍّ علاجي له منذ البداية، وإن لم تجتهد أكثر للحصول على لقاح له، فإنها قد تنتهي إلى الهلاك الجمعي والموت الفجائي لأغلب الشعوب.

"إن تهافت أدباء اليوم على الكتابة عن كورونا، وتسرعهم إلى إنتاج الكتب والمقالات والدراسات، دون التأكد من حقيقة هذا الفيروس القاتل، قد ينتج في النهاية نصوصًا ضعيفة أو كتبًا لا فائدة منها"

أدب كورونا

نلاحظ أن الإنسان كيفما كان جنسه وعرقه وعقيدته بمجرد ما ينتشر خبر وباء عالمي فإنه يظهر عليه الهلع والخوف من النهاية والهلاك؛ وهذا يؤكد بالملموس ضعف الإنسان وهشاشته جسديًا وفكريًا ومعنويًا، لأن كل الادعاءات والتبجح بقوتنا كبشر وبقدرتنا على مواجهة الصعوبات والكوارث بالعلم وبغيره مجرد كلام وأفكار نعبر عنها في حالة الرخاء والقوة والجبروت تجاه بعضنا البعض. في حين أن أصغر امتحان قد تسقط فيه البشرية، سواء كان الأمر يتعلق بالوباء أم بالكوارث الطبيعية، فإنها تهرع إلى التضرع إلى الله أولًا ثم إلى الآخرين من أجل المساعدة في مواجهتها والتكتل ضدها ونسيان الصراعات والخلافات. وهذا ما نجده في أغلب الكتابات الأدبية التي ناقشت الوباء مثلًا كالرواية التي انتقدت بالمباشر النفاق البشري وهشاشته الواضحة وادعاءاته الفارغة في إنكار الإيمان بالقوة العليا في السماء.

إن تهافت أدباء اليوم على الكتابة عن كورونا، وتسرعهم إلى إنتاج الكتب والمقالات والدراسات والنصوص، دون انتظار ما سيؤول إليه الأمر في النهاية أو حتى التأكد من حقيقة هذا الفيروس القاتل، قد ينتج في النهاية نصوصًا ضعيفة أو كتبًا لا فائدة منها، حتى لو كانت نصوصًا أدبية (الرواية والقصة مثلًا) مبنية على الخيال. نحن هنا، لا نصادر حق الكاتب في التعبير عن مشاعره ومخاوفه من هذا الوباء الذي ترك أثره المدمر على جميع المستويات، وإنما نرغب في أن تكون النصوص في مستوى المتلقي وتحقق أفق انتظاره منها، بل تثير فكره وتعيد إنتاج وعي مختلف لديه. لأن التسرع في الكتابة عن أي طارئ جديد في المجتمع أدبيًا، ينتج أدبًا ضعيفًا ولا جدوى منه اللهم الإنتاج والانتشار. فسواء كانت هذه النصوص والكتب مبنية على الخيال أم الواقع بحذافيره، فإن الكاتب والأديب مدعوان إلى التأني في الشروع في الكتابة حتى تنجليَ خيوط هذا الوباء ومعرفة حقيقته العلمية والوجودية التي دفعت العديد من العلماء والأطباء والمحللين في العالم لأن يشككوا في مصدره وحقيقته؛ أو على الأقل التساؤل باستغراب وحذر عن الأخبار الرائجة حوله من هنا وهناك.

فالكاتب عمومًا مدعوٌ إلى إعادة تشكيل المفاهيم في ظل حقيقة كون هذا الوباء شيئًا جديدًا وغير معروف عند الجميع، حيث فشل الجميع في الوصول إلى إيجاد ما يشفي غليلهم للحد منه ومن نتائجه المدمرة، فانقسموا إلى رأي يعتقد أنه مجرد فيروس عادٍ يشبه الأنفلونزا الموسمية مع بعض الاختلاف البسيط، وإلى رأي آخر يعتقد العكس ويعتبره وباء خطيرًا قد يدمر البشرية في أقل وقت ممكن ويؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها إن تمَّ التهاون في مواجهته والاستمرار في معالجته باللقاح أو بغيره. وقد صدق الرأي الثاني من حيث النتائج التي تركها وباء كورونا سواء على المستوى البشري أم الاقتصادي والاجتماعي حتى وصل الأمر ببعض البلدان إلى رفع الراية البيضاء أمام زحف الوباء بنتائجه الكارثية على اقتصادها الضعيف أصلًا.


الهوامش والمراجع:

[1]- ناريمان العكري، "الأبعاد الفلسفية والفكرية للأوبئة من خلال روايتيْ الطاعون والعمى"، مجلة تبيّن، العدد 35، المجلد التاسع، الدوحة، شتاء 2021، ص. 69.

[2]- Jean-François Lucas, «La COVID- 19, accélératrice et amplificatrice des fractures numériques», SciencesPo, 24/ 10/ 2020, accessed on 18/ 01/ 2021, at: https://www.sciencespo.fr/public/ch...trice-des-fractures-numériques-J.F.-Lucas.pdf .

[3]- ناريمان العكري، المرجع السابق، ص. 72.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى