عمر سيدي محمد - يوميات فتى من صنهاجة جنوب موريتانيا.. الحلقة الحادية والثلاثون - طريق الأمل

كُنَّا أهلَ بادية تعوّدنا على التنقّل من مكان إلى مكان على الإبل والبقر والخيل والحُمُرِ بل وعلى أرجلنا (اِلتّْرَوْگِيجْ أو الْگَوْطْرَة) نقطع مسافات طويلة، وكنّا حافظين سُبُلَ السّفر عالمين بدقة الزمن اللازم للوصول إلى الغاية.
كانت أبطأ سبل التنقل على الحمير -ونُسَمّي الحمار الرَّكوب "أَمَكْتُورْ والجمع آمْكَاتِيرْ"- حيث لا يقطع الْحَامِرُ في يومه كله أكثر من ثلاثين من الكيلومترات إذا اجتهد يقطع في بُكرته عشرين وفي روحته عشرة.
وأمّا الرَّاجل (لِمْرَوْگَجْ) فيمكنه قطع أربعين كيلومترا إذا أدام السير ثمانيَ ساعات من يومه خمسة في أوله وثلاثة في آخره، إذ من المتعارف عليه أنّ قطع خمسة كيلومترات في الساعة أمر معتاد وليس صعبا، ولكن معظم الناس لايستطيع المشي أكثر من ست ساعات في اليوم.
وأمّا راكب الثور (آوْدَاشْ/أَدَارِيفْ) فيمكنه قطع خمسين في اليوم دون عناء كبير إذا كان سيره متواصلا ثمانيَ ساعات مع قيلولة، وهو مريح ركوبه أكثر من أي وسيلة أخرى في الزمن الأول.
وأمّا راكب الإبل (لِبْجَاوِي) دون متاع يمكنه قطع ستين في اليوم الواحد. وأمّا الظعينة فهي في سرعة الرَّاجلِ أو دونه لأنها لاتسير إلا وحبل خزامة بعيرها بيد من يمشي أمامها حيث لايمكنها الاستقلال بنفسها حسب المتعارف عليه في جنوب موريتانيا.
وتبقى الخيل هي أسرع وسيلة للتنقل ولكن ليست للمسافات الطويلة بل هي عادة لقضاء المهامّ السريعة ليوم أو يومين حيث يمكنها الانطلاق غلسا لقضاء مهمة على بعد مائة كيلومتر والرجوع قبل مغيب الشمس من نفس النهار ولكن المعتاد أنه من الحفاظ عليها أنها ليست للتنقل كاستخدام غيرها من الوسائل الأخرى بل هي زينة وللمهام الرسمية أساسا.
لم يكن معروفا لدى السّواد الأعظم من الناس أسماء وحدات قياس المسافات وإنما كان قياس المسافات يُعَبّر عنه بالوقت أو بالزمن المُستغْرق لقطع مسافة ما، وكان الترتيب كالتالي:
1- ظَحْوَة: والمقصود أنها مسافة يمكن قطعها خلال الساعتين أو الثلاث الأولى من النهار ويمكنك الوصول إليها وقت الضّحى أو الضحوة. وتختلف مسافة الضحوة حسب وسيلة النقل ولكنها إذا أُطلقت ولم تقيد فالمقصود الإبل.
2- مَقِيلْ: مسافة يصل إليها المسافر من بُكْرَتِهِ وقت الزوال أي وقت القيلولة وتعني مسيرة أربع إلى خمس ساعات. وقد يقولون "مَقِيلْ شَاظِفْ" أي مُرْهِقٌ من حيث شدة السير أو أنه يزيد ساعة من السير بعد الزوال.
3- مَرْوَحْ: براء مغلظة وهي مسافة يصلها إليها المسافر الغادي المنطلق من الصباح وبعد مقيله يواصل سيره حتى غروب الشمس أو قريبا منه أي أنه يصل وقت الرّواح. ورغم أن كلمة الرواح مستخدمة في كل اللهجات العربية للذهاب في أي وقت ولكن في الحسّانيّة تستخدم فقط في موضعها الصحيح لمن يُؤَمَّل وصولُه وقت الرواح وهو العشي من النهار.
4- تَاسِدْبِيتْ: وهي مسافة قريبة من الظحوة إلا أنّ المسافر ينطلق بعد المقيل والإبراد بحيث يصلّي العصر في أوّلِ الطريق ليصل والمغربَ.
5- عَيْطَة: يعبّر بها عن المسافة القريبة التي لو صرخ الإنسان عندها أمكن سماع صوته.
6- رَيّْ العَيْنْ: براء مفتوحة مرققة ومعناه مدّ البصر
7- مِيرَادْ: براء مفتوحة مرققة ومعناه البعد المعتاد لموقع الماء في فصل الشتاء من لفريگ وهو في العادة دون العشرة من الكيلومترات.
وهنالك عبارات كثيرة منها تِسْدِيرَة ومنها تِطْلِيصِة اعْظَامْ أو تطلِيگة اعْظَامْ ومنها گَوْطْرَة ومنها مَشْيَة. وفي مصطلحات أهل لفريگ عن المسافة يقولون "رَحْلَة" وهي في عرفهم سير ثلاث ساعات أو أربع من سير الضعفاء المتواصل والمسافة في الغالب تصل عشر كيلومترات، ويقولون "تِنْگِيلَة" بلام مغلظة وهي في حدود خمس كيلومترات وأمّا "اِلتِّحْوِيلَة" فهي لما دون ذلك.
مع ظهور السيارات بدأ الناس في استخدامها وكانت صيحة لايكاد أهل البادية يصدقونها حيث تقطع في وجه النهار ماكانوا هم يقطعونه في أسبوع كامل على حميرهم، ورغم وُعُورَةِ الطريق وحُزُونته إلا أنّ ظهور السيارات أحدث تقاربا عظيما بين المسافات. وكان السفر بواسطة شاحنات كَبْيُونْ ومنها بَرَلْيَه واشتهرت منها سيارة كَارَنْتْ سِيسْ (46) أكثر من أي سيارة نقل وشحن أخرى وكان أهل البادية يحبونها كثيرا لسعتها وهدوء سيرها إذا كانت مُحمّلة وكانوا لايحبون ركوبها وهي فارغة.
كنت طفلا بمدينة كيهيدي مطلع السبعينيات ويأتينا أهلنا من باديتنا بمقاطعة آفطوط على الإبل أو الحمير وكان حوش الدار لايخلو في مواسم السفر من آمْكَاتِيرْ أو آمْرَاكيبْ، وكانت الرحلة تستغرق خمسة أيام إلى أسبوع حسب المركوب وحسب الحمولة ومن المؤكد عندي أن أهلنا القادمين من أَدَبَايْ بُو اسْرَيْوِيلْ كانت لياليهم في الطريق أربعًا والخامسة معنا.
وكان من حظّي في أوّل سفر لي من البادية أَنْ ركبنا على الإبل يوما كاملا من عند "گَلْبْ المعدن" حتى وصلنا دشرة الغبرة ثم ركبنا شاحنة بَرَلْيَه وكنت معجبا بمساعد السائق المُتدرّب (آبْرَنْتِي) الذي كان معه عونا وسندا ومسؤولا عن كل شيء خارج قمرة القيادة لقد كان ماهرا وسريعا في تصرفاته، لقد أرفقت صورة تقريبية للشاحنة التي سافرنا بها أول مرة من دشرة الغبرة إلى دشرة كيهيدي مرورا بدشرة مُنْگَلْ ودشرة لِكْصَيْبَة، وكنت كلما وقفت السارة قليلا أسألهم هل وصلنا.
كانت الشاحنات حينها يُسْتَهَلُّ تَشْغِيلُهَا يدويّا باستخدام أداة حديدة خاصة في مُقَدَّمِهَا يُدِيرُها آبْرَنْتِي بسرعة وسمعتهم يقولون "مِتْباركْ ئِغَنْزَرْهَا". لقد كنت صغيرا أسأل عن كل ذلك العالم الغريب حينها، فقالوا لي تلك الأداة لإيقاظ السيارة وأمّا الصوت والدخان المنبعث منها فهو لتسخينها (ئِوَعُّوا الْوَتَة وِيحَمُّوها أَبَّاشْ اتْگِدّْ تتحرّكْ) وكانت اللّاندروفر موجودة ولكنها في الغالب عند الجهات الحكومية ومنها "أمّ اخْطَيْرْ" ومنها "أمّ حِجْبَة" ولكنها لم تكن في متناولنا معشر العوامّ حتى ظهرت السيّارة المدهشة التي كنا نسميها "البَكَّايَة" أو "جَرَّايْةِ الدّْمُوعْ" لسرعتها مقارنة مع بَرَلْيَه حيث كان يمكنها قطع أربعين كيلومترا في الساعة إذا كانت الأرض سهلة وأمّا بَرَلْيَه فكان أقصى ماتقطعه في الساعة قد لايزيد عن ثلاثين وقد يتكرّر توقّفها كثيرا بسبب تحميل وتنزيل الأمتعة. إنّ "جَرَّايْة الدّْمُوعْ" هي السيارة الخارقة التي كانت تنطلق من دشرة الغبرة وخلال ثلاث ساعات من السير المتواصل تدخل دشرة كيهيدي ضُحًى إنها بيجو 404.
طريق السيّارة الذي تسلكه نُسمّيهِ الْخَلَّ وإن كان مُمَهَّدًا دون إسفلت سميناه نَكْسَة وإن كان مسفلتا سميناه أَطَلِي
جاء في القاموس المحيط
والخَلُّ: الطريقُ يَنْفُذُ في الرَّمْلِ، أو النافِذُ بين رَمْلَتَيْنِ، أو النافِذُ في الرَّمْلِ المُتَرَاكِمِ. اهـ
وأمّا النّكسة فهي مشتقة من فعل ينكس نكسة أي يكنس كلمة فصيحة اعتراها قلب بالحسانية.
وأمّا أَطَلِي لعله بسبب طليه بالأسفلت وصيغ المصدر وهو الطّلْيُ صياغة صنهاجية على وزن أَصَنِي وأَژَلِي.
طريق الأمَل كان طفرة نوعية في التنقل داخل البلاد حيث أن المراحل التي كان يقطعها المسافر المُجتهد خلال شهر كامل أصبح مقدورا على قطعها في يوم واحد، إذ يُبْكِرُ الرجل من مدينة النعمة ويأتي قبل غروب الشمس إلى العاصمة نواكشوط قاطعا مسافةً أكثر من ألف كيلومتر في يوم واحد وهو أمر لم يكن يَتَخَيّلُه أحد من أسلافنا قبل طريق الأمل الذي كان أملا جميلا وحلما عظيما وإنجازا ضخما توّجَتْ به ثُلّةُ المؤسسين الأوائل إنجازاتهم قبل أن يُنقَلَبَ عليه انقلاب يوليو المشهور وقبل أن تدخل البلاد في حالة من الفوضى متمثلة في انقلابات متتالية وحالة من عدم الاستقرار تمثلت في ضعف التعليم واستضعاف المُعلمين الذين هم عمدة كل أمّة تريد النّهوض وجاءت الهياكل الشعبية إن كنتم لازلتم تذكرونها ودبّ الانقسام والتشرذم بين المجتمع على كل المستويات وأحيينا القبلية والجهوية ورجعنا القهقرى عقودا من الزمن فضعفت الوطنية في نفوسنا وغزتنا الأديولوجيات الواردة علينا مابين داعٍ إلى القومية العربية ومابين داعٍ. إلى المشعل الإفريقي إلى غير ذلك ونسينا الأمل الجميل الذي كان طريق الأمل رمزا له جميلا يربط غرب البلاد بشرقها.
وكان أملنا أن يكون طريق الأمل خطا سريعا على مستوى المواصفات الدولية للطرق يَمُرّ بضواحي المدن دون أن يشقها وكان أملنا أن ينطلق طريق ثان من العاصمة نواكشوط في اتجاه الشمال مع ساحل المحيط حتى نواذيبو ونسميه طريق الساحل وثالث يمتد من العاصمة مرورا بأگجوجت وأطار والوزيرات حتى أقصى نقطة في الشمال حتى يصل عين بن تيلي والشگات ونسميه طريق المجد ورابع مع ضفة النهر محاذيا لها منطلقا من روصو مرورا ببوگي وكيهيدي ومقاما حتى يصل سيلبابي ونسميه طريق آفطوط أو تَامُونَانِتْ، وخامس من أطار إلى تجگجة ومنها إلى ولاتة مرورا بتيشيت ونسميه طريق تگانت، وتتفرع من كل طريق فروع إلى كل التجمعات الحضرية من مدن وقرى حتى تصل فَصَالَة.
إنّ طريق الأمل عنوان صادق ومرآة لحال البلد بكل صدق، لقد أصبح مندثرا حتى نزل من مستوى أطلي إلى منكوسة بل وفي بعض الأحيان أصبح خلّا مندثرا تغطيه السوافي تارة وتعرّيه تارة أخرى ومن أعظم التحديات سلوكنا نحن في السياقة حتى أن بعض السائقين إذا تعطلت سيارته لم يُكلّف نفسه أن يبعدها ولو عدة أمتار عن الطريق بل يتركها عليه واقفة حيث تعطلت مما يتسبب في كثير من الحوادث. طريق الأمل في كثير من أجزائه لم يعد صالحا للسير أكثر من ثلاثين كيلومترا في الساعة ومع ذلك يسير عليه بعضنا مائة دون مبالاة ولا مراعاة لأي شيء.
مع كل هذا يبقى الأمل المنشود في قلوبنا والذي إذا حَيِيَ بحق فإنه قادر على بناء وتشييد كل طريق وكل مجد وكل صرح يرفع من شأن هذه البلاد الغنية جدا بمواردها الطبيعية المتنوعة في كل المجالات وما ينقصها إلا أن نحارب نحن عدم المبالاة ونحيي الشرف والإخاء والعدل الذي قامت عليه الجمهورية الإسلامية الموريتانية ولن يكون ذلك إلا بالفأل الحسن وروح التفاؤل مع الأخذ بالأسباب وبناء جيل قادر على أن يتخطى الوحل الذي غاصت وساخت فيه أرجلنا وبلادنا تنحدر كل يوم إلى مستوى دون الذي قبله بين مصاف الأمم الناهضة بذواتها رغم الذي تتمتع به بلادنا من ثروات متنوعة لاحصر لها وعلى رأسها الثروة البشرية تبارك الله وماشاء الله.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى