د. عبدالجبار العلمي - نقد الشعر كما كان يمارسه بعض نقادنا المعاصرين

نموذج نقد الدكتور أمجد الطرابلسي رحمه الله، لجزء من قصيدة قومية طويلة بعنوان ( ملحمة ) للشاعر السوري سليمان العيسى المنشور في باب " قرأت العدد الماضي من الآداب": يقول الدكتور أمجد : " ... كل ما أرجوه هو أن تكون هذه الملحمة ( ملحمةً ) حقاً ، أي منطوية على ( قصة ) بطولية تتسلسل حوادثها وفصولها كما تتسلسل في كل قصة ، وهذا شرط أساسي في شعر الملاحم ، وقد تعودنا أن نسمي ( ملحمة ) كل منظومة مطولة يتغنى فيها الشاعر بالبطولات وجلائل الأعمال القومية دون أن ينتبه إلى العنصر القصصي الذي لا غنى للملحمة عنه.
وشعر سليمان العيسى في هذا القسم من ملحمته ككل شعره القومي العربي الصافي سمو إلهام ، وعمق تصوير ، وصدق إيمان ، وتمام انصهار في الموضوع . فالشاعر ـ على بعده عن المعركة ـ يعيش منها في الصميم ، ويتمثلها أعمق تمثل بكل تفاصيلها ... ويبلغ الشاعر حد الروعة في حديثه عن جميلة ( يقصد المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد : هذا التوضيح من عندي ) وهي تتدرع بالصمت الساخر بين أيدي جلاديها أو في غيابة سجنها ، فيهتز العالم لصمتها وبسمتها المتعالية :
يلعق الوحش جرحها فترد الطرف كبراً في صامت من إباءِ
وهكذا تغدو جميلة أنشودة صافية من أناشيد الإنسانية الطامحة إلى التحرر :
في بلادي .. في الصين .. في شفتي راع يغني على الذرى الخضراءِ
لا أريد أن أكيل الثناء جزافاً لسليمان ، فهو يعلم أنني أحبه وأحب شعره ، ولكنني كم أود أن يبقى مجنحاً في تعابيره ، فلا يغريه ما يغري الشعراء عادة ، إذا كثر إنتاجهم وتوالى طرقُهم للموضوع الواحد ، من حب للسهولة ورضَا بالإهمال وتغاض عن الإسفاف ، فأنا لا أحب لسليمان أن يقول في وصف أمته : أمة .. ظنها الغزاة اضمحلت وتلاشت وراء ألف حجابِ ! ) ماذا يترك سليمان بعد قوله هذا للغة الصحافة اليومية ؟ ثم إني لا أحب له أن يقول في وصف جميلة :
وهي مذهولة : أتبلغ يوماً مثل هذا نذالة الأحياءِ !
أفلا يرى الشاعر معي أن جناحيه ينسحبان في هذا البيت على الأرض أيما انسحاب أو ( مذهولة ) هذه من أين جاء بها، وأي شيء فيها مستحسن ؟ وأي شيء يستحسن أيضاً في وصفه الجريمة بأنها ( كسيحة الأنياب ِ ) ؟ ومتى كان الذوق المرهف المثقف يستسيغ مثل هذا المجاز ؟ لقد قلت إني من محبي سليمان وشعره ، فمن حقي بعد ذلك أن ألح عليه كي ينقي شعره من أمثال هذه الهفوات . "
هذا هو نقد أستاذنا الجليل الدكتور أمجد الطرابلسي . نقد موضوعي فيه كثير من الحب والتقدير للشاعر وإنتاجه الشعري ، وفيه صدق وصراحة ووضع اليد على العيوب التي لا يرضاها لمن يحبّ . وينبهه إليها لينقي شعره منها . ( لاحظ الأسلوب الذي يستخدمه الناقد في هذا التنبيه : أفلا يرى الشاعر معي أن جناحيه ينسحبان في هذا البيت على الأرض أيما انسحاب ) . إن الشاعر لا يرضى أن ينسحب جناحاه اللذان كانا مرفرفين عالياً في سماء الشعر على الحضيض أيما انسحاب، لذلك عليه أن يُعيدَ النظر في شعره، ليقوِّم ما ينبغِي تقويمُه بناءً على ما وُجِّه إليه من ملاحظات نقدية وجيهة. أليس هذا هو ما ندعوه بالنقد البَناَّء ؟ رحم الله الناقدَ والشاعر ، فلقد كان كل منهما نابغاً في ميدانه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى