أبووردة السعدني - السلطان قايتباي.. قطوف من سيرته

.... مملوك من بلاد جركس - شمالي البحر الأسود - جلبه تاجر رقيق يدعى " الخواجة محمود " فنسب إليه ، وصار اسمه " قايتباي المحمودي " ، بيع للسلطان " الأشرف برسباي -ت841 /1437 - " فكني بكنيته ، ثم ابتاعه السلطان "الظاهر جقمق " - ت 857 / 1453 - ، وكني بكنيته أيضا ، أعتقه السلطان " جقمق " ، ووللاه إمرة في الجيش ، الذي تدرج في وظائفه سريعا ، لأنه كان نابغا بين المرموقين ومرموقا بين النابغين ، إلى أن شاءت الأقدار أن يتربع على عرش دولة سلاطين المماليك - في مصر والشام والحجاز - تسعا وعشرين سنة وشهورا سنة 872 /1468 ، رغم تمنعه وبكائه !!....
يعد السلطان قايتباي درة تاج دولة سلاطين المماليك الجراكسة ، كان سلطانا جليلا نبيلا ، سار في الناس السيرة الحميدة ، فكان عهده كالطراز المذهب ، له اليد الطولى في الخيرات ، والطول الكامل في إسداء المبرات ...
حرص السلطان قايتباي حرصا شديدا على قراءة كتب العلم ومجالسة العلماء والاستماع إليهم ، فلم يكن يبرم أمرا دون مشورتهم والأخذ برأي المخلصين منهم ، خصص يومين يلتقي فيهما أصحاب المظالم ، فيبادر إلى ردها دون تفرقة دينية ، فلقد أنصف نصرانيا دمشقيا ورد إليه حقه ، وعزل القاضي الذي حاد عن العدل مجاملة لأمير مملوكي في دمشق ، كما أمر بإعادة بناء كنيسة في القدس ، وعاقب القاضي ومن أعانه على الحكم بهدمها. ..
..... اشتهر السلطان قايتباي بكثرة إنفاق ماله في الخيرات والمبرات ، فشهد عهده إنشاءات دينية وتعليمية وخيرية تجل عن الحصر ، في مصر والشام والحجاز ، ففي سنة 882 /1479 أحرق الجامع الأموي في دمشق عن آخره ، فرسم السلطان بإعادة بنائه على نفقته ، دون أن يكلف الأوقاف أو ميزانية الدولة شيئا ، كان جملة ما أنفقه قايتباي من ماله يزيد عن عشرين ألف دينار ....
وفي سنة 877 /1482 اشتعل حريق في الحرم النبوي الشريف ، أتى على كل ما حول قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي أن عدولا شهدوا - في حجة رسمية - أنهم رأوا طيرا يدفع النار عن مثوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرسم السلطان قايتباي بإعادة بناء الحرم النبوي الشريف من حر ماله ، وبنى -- أيضا بجوار المسجد النبوي - مدرسة أوقف عليها الأوقاف ....
.... وأغرق سيل مهلك - بلغ ارتفاعه سبعة أذرع - الحرم المكي سنة 887 /1482 ، حطم أعمدة المطاف ، وهدم أكثر من ثلاثمائة بيت ، مات - بسببه - سبعون رجلا ، فرسم السلطان قايتباي بإعادة بناء الحرم المكي من ماله ، وأنشأ مدرسة مجاورة للحرم ، ولا يتسع المقام لحصر خيرات ومبرات قايتباي ، فلقد وقع له في بناء المشاعر العظام ما لم يقع لغيره من السلاطين ، من ذلك على سبيل الذكر : عمارة مسجد الخيف ، إعادة جريان ماء عرفة بعد انقطاعها أكثر من قرن من الزمان ، صنع في مصر منبرا غاية في الحسن ، حمل على خمسين بعيرا للحرم المكي..الخ. ...
....عرف عن السلطان قايتباي كثرة حركته وزيارته لكل أرجاء سلطنته ،فزار بلاد الشام للوقوف على أحوال الرعية ، وزار بلاد الحجاز مؤديا فريضة الحج ، مظهرا من التواضع والخشوع في الطواف والعبادة والإنفاق ما عد من حسناته ، كما حصن الثغور وبنى القلاع في مصر وبلاد الشام ، ووقف حائطا صلبا في وجه كل من تسول له نفسه استغلال الأزمات برفع أسعار السلع ومتطلبات حياة الناس ، بل إنه كان يفتح أبواب " الشون السلطانية " ليحصل منها من يشاء على ما يشاء. ...
.... حافظ السلطان قايتباي على حدود دولته ، فقضى على كل محاولات التمرد التي ظهرت في شمال بلاد الشام من بعض أمراء الإمارات الحدودية ، وفي عهده اشتعلت الحرب بينه وبين الدولة العثمانية ، وتبادل الطرفان الهزيمة والنصر ، وتكبدا القتلى والجرحى والأسرى ، في وقت كان يعاني فيه مسلمو الأندلس الإحراق والإبادة والتنكيل ، فقيض الله عالماً تونسيا كان يشغل منصب قاضي قضاة تونس -- في أواخر عصر الدولة الحفصية - يدعى "سيدي محمد الحلفاوي " - ت896 /1494 - شد رحاله إلى العاصمة العثمانية ، والتقى بشيخ الإسلام العثماني ، شارحا له الموقف العصيب الذي يتعرض له المسلمون في بلاد الأندلس وفي الشمال الإفريقي ، ثم توجها إلى السلطان العثماني بإيزيد الثاني - ت 918 /1512 - ، الذي اقتنع برأيهما ، وتمت الموافقة على أن تضع الحرب - بين الطائفتين المسلمتين - أوزارها سنة 896 /1494 ، ووقعت اتفاقية " أضنة " ، اتفق - فيها - الطرفان على أن تظل البلاد المتنازع عليها تابعة لدولة سلاطين المماليك ، على أن يوقف خراجها على فقراء الحرمين الشريفين. ..
..... وهكذا تمكن قايتباي - بالصلح سالف الذكر - أن يمد عمر دولة سلاطين المماليك ربع قرن من الزمان ، قبل أن تسقط في أيدي العثمانيين ، وتنتقل من مسرح التاريخ إلى كتبه سنة 923 / 1517 ....
جدير بالذكر أن السلطان قايتباي وافاه أجله سنة 901 /1496 ، يؤثر عنه : أنه كان يتحلى بالتواضع الجم ، يمقت النفاق والمنافقين ، فكان يقول لمن يمدحه من الشعراء :
" لو اشتغلت بالمديح النبوي لكان أعظم !!"....


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى