سفيان صلاح هلال - حين يصير المبدع مرآة للمجتمع.. قراءة في ديوان أراجوز مغصوب ع اللون للشاعر أبوزيد بيومي

الكتابة بالعامية المصرية تحتاج مهارة خاصة، فأنت تبدع للناس بلغتهم التي يستعملونها، وتحاورهم في حياتهم التي يعيشونها؛ وهذا يتطلب أن تقدم ما سيرونه إبداعا، ولن تستطيع خداع المتلقي. فإما أن تجيد الإرسال من الروح إلى الروح، أو بشفرات الإبداع الخاصة. أو ستعيد على الناس ما يرونه ويشاهدونه، وهنا سيكون ما تقدمه مجرد جلسة ثرثرة ما تلبث أن تنْفضّ. وكل كاتب له توجهاته التي يجب أن يتسلح لها بما يُفَعّلها كمنتج حيوي. والشعر في العامية يحتاج كتابة يتّضح فيها الفارق بين لغة الشعر ولغة العامة رغم استخدام نفس المفردات في المشهد الواحد، فضلا عن الوعي بموسيقى اللغة المصرية، والوجدان المصري، وما يلامس القضايا المنبثقة من العمق المصري.
والشاعر الدكتور/أبو زيد بيومي في ديوانه "أراجوز مغصوب ع اللون" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسسلة الشعر العامي 2019، يجيد كشف الواقع الإنساني بصورة فنية تجعله يلتفت لذاته ليكون هو المخلِّص لنفسه بنفسه. يكسر العنوان أفق التوقع عند المتلقي بالمضادة التي يثيرها، فالأراجوز في الوعي الشعبي هو ناقد ساخر، غالبا ما يعتمد على الألوان التي يتخذ منها أقنعة على وجهه، وفي ملابسه، ليبث من خلفها رسالته، التي تعتمد على السخرية. والدخول للشعر من هذا الباب كان يحتاج من الشاعر مدخلا مغايرا؛ فاستخدام الأراجوز كقناع لم يكن جديدا؛ فقد طرقه آباء الشعر العامي المصري، وكيف يغفل شعراء العامية عن بطل مسارح العامة ولا يوظفونه؟! فالشاعر الكبير فؤاد حداد وظفه، ولكنه توظيف سياسي خالص تلخصه هذه الفقرة من نصه الأراجوز: " قال له يا ألعب من القرموط /تضحِّك الولد أعلي مرتّبك /تبكِّي الولد أقطع رقبتك /افهم كلامي وامشي بالمظبوط /والدي الله يرحمه ما كنش ناقصه /طلع سلاح أبيضاني وقطع رقبته بنفسه /راح الولد في البكا وأنا والدي مات مبسوط". وأيضا لم يغفل الشاعر الكبير سيد حجاب عن الفكرة، لكنه رحل بالتوظيف للغناء، وطاقة اللعب بالكلمات، لتصير الأرجزة فلسفة في تعدد الرؤى فيقول: "ويجوز يا زمان /أنا كنت زمان/ غاوى الأرجزة طيارى/ يجوز/ إنما لما الكيف بقى إدمان/ باجى أبص لشىء واحد أرى جوز".
أما أراجوز " أبو زيد بيومي" يفرق في نقطتين: الأولي أنه ليس حرا، ولا واضحة وجهاته، ولا مطلوقا لسانه، إنه ممثل ومغصوب على القيام بأدوار يرفضها؛ فيستخدم الحيل الفنية ليكون مخلصا لنفسه ولكلمته ولو غلفه الأسى؛ ربما خشية ألا تصل رسائله، بعكس من قبله من الأراجوزات والذين كانوا أحرارا تماما حتى في اختيار موتهم . النقطة الثانية هي البعد الإنساني، وفلسفة الخلاص الفردي، وربما كان هذا طبيعيا لاختلاف الأزمنة وتطور الأفكار، وتغير العلاقات التفاعلية بين الفرد وما حوله؛ فقد تحول الأراجوز من معارض سياسي يغني للجموع، أو مُغنٍّ يمثل طبقة الشطار، إلى إنسان شاعر ومبدع شامل له رؤيا بجانب الرؤية، وإن لم يتخلص تماما من الهموم السياسية لإدراكه دورها في تحريك كل شيء.
وحين يغصب على ألوان محددة لا يختارها لأدواره؛ فهل سيكون راضيا وساخرا؟ أم سيكون رافضا وقانطا؟ وهل سيستطيع أن يكون الناقد الأمين؟ في التضييق الذي يمارس عليه ، يتقمص دور الشاعر ويستطيع أن يراوغ القاهر والمقهور ويبث رسالته معتمدا على الإحالات إلى المخيلة الجمعية مستخدما طاقتها الواعية في فك شفرات رسائله، فتجده يلجأ إلى المفردات فضفاضة المعنى في العناوين معتمدا على ما تحمله من شفرات أخرى في التعامل السري للكلمة. فمفردة مثل "السماسرة " معروفة دلالتها المباشرة في أسواق البيع والشراء الطبيعية. لكن السمسار معروف عنه أيضا في التعاملات الحياتية أنه قد يكو ن -في الأوساط الفاسدة- كل ما يهمه إتمام الصفقات لقبض عمولته، بما قد يسميه هو التقريب من وجهات النظر بالحوارات، ويسميه العامة بالتدليس بمعسول الكلام من أجل المصلحة الشخصية. لذا لا غرابة أن يقول الشاعر تحت عنوان السماسرة: "كانوا قافلين كل باب /لما غطوا كل حاجة بالتراب /بدلوا القلب بْ حِجارة كانوا عارضين الملامح للتجارة /دَوّبوا طعم المشاعر جُوا كاسات المهارة /ماشية خطوتهم دواير /دوخة للعين والضماير /راحوا للنقطة اللي واصلة الحرامي بالأمين /وانت مين ...؟" فمفردات الحجب والمنع والتغيير والتبديل كلها توحي بأن شيئا غير نظيف يحدث، حتى أن القلب تحول حجر لا يهتم غير بالمصالح العابرة.
لا يكتفي الشعر باستخدام طاقات المفردات في المخيلة الجمعية، لكنه يستخدم أيضا طاقة الموروث الشعبي ودلالاتها سواء كان هذا الموروث دينيا مثل "زَيّ أهل الكهف راجع بالسنين /زَي مريم لما رجعت بالمسيح /كنت وحدك شايل الحلم الكسيح" فالحالم هنا يعاني من الغربة، والحلم ينظر إليه في استغراب! فالواقع الفاسد يرفض الحلم؛ فيصيبه وصاحبه بالعجز والانزواء. وأحيانا يعتمد الشاعر على تفعيل طاقة الموروث المشهدي للدلالة على معنى "انت في التشريفة واقف /زي غيرك في الصفوف /انت لحظة خوف تعدِّي /لما يمضوا ع العقود /انت داخل في اعتبارهم /لما يحتاجوا الشهود". أنت هنا أمام تعبير عن التهميش، لكنه لم يأتِ مباشرا؛ فهو يرسم حالات يكون فيها الغائب والحاضر على السواء؛ فالفاعل آخرون.
يخيم على الديوان أسلوب العروض الدرامية، التي تعرض صراعات الإنسان المعاصر حتى أنه لا يتورع عن المتاجرة بأي شيء، حتي الدين، قدس الأقداس، يتاجر البعض به "إيه يعني ف حساب العدد /لو قلبك الميت سجد /إيه سجدتين برّة الصلا /من واحدة تفرش كام بساط /وتعدي بيه من فوق بحور المسألة /أو عقدة واقفة في الطريق راح تنجلي /والتانية هاتخليك وليّ /القبة تعلى والمقام يصبح كبير /وتعيش أمير".
إن الصراع بين عيش الأمير وعقد حياة الفقير صراع يحتاج لحلول، والأراجوز يعرض على الناس ما يشاهده من ممارساتهم في نبرة فيها من المفارقة والسخرية المرة، ما يجعلهم يلتفتون إلى أنفسهم في حضرة الكشف الذاتي بنوري الدراما والسخرية، وهي حاجة قلَّ أن تتوفر خارج الشعر حيث للملهاة خطها، وللمأساة خطها. ويعلمنا الأراجوز أن نتجرأ على النقد حتى ننقد ذواتنا ونلبس زيه بشعريته وتمثيله وإخراجه ومكياجه وملابسه. في قصيدة "الأراجوز" حيث قمة السخرية والمأساة حين يكون الإنسان يعي جيدا ويقف واضعا الذات نفسها أمامه كمادة للإبداع والتأمل والنقد " حلوة البدلة /حلو الشوز /حلوة الضحكة فوق البوز /خدلك صورة جميلة و دافية /اظهر فيها العين والعافية /اوعاك تطلع بره الصورة ................ خلّي الصورة/ ...تعمل عمدة من الأراجوز" وكأنه يقول: "إنك لو كذبْتَ على الدنيا كلها، ولو كذَبَتْ الدنيا كلها عليك؛ فمن المستحيل أن تكذِب على نفسك"..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى