د. عبدالجبار العلمي - "ثقوب في جدار الزمن" للكاتبة المصرية عواطف أحمد البتانوني*

تقديــم :
تتألف رواية "ثقوب في جدار الزمن " للكاتبة المصرية عواطف أحمد ا لبتانوني من ثلاثة أجزاء :
ـ الجزء الأول بعنوان : " غسيل الذهب " ، ص : 7
ـ الجزء الثاني بعنوان : " عيون القمر " ، ص : 119
ـ الجزء الثالث بعنوان : " حياة الشوك" ، ص : 253
والرواية من 441 صفحة من الحجم المتوسط ، وقد عنيت الكاتبة في ثنايا صفحاتها برصد حقبة من حياة المجتمع المصري في الريف من بداية القرن الماضي إلى سنة 1952 سنة قيام ثورة الضباط الأحرار في مصر، مسجلة أحداثاً واقعية مثل حادثة دنشواي 1906، وأحداثاًً أخرى مما كانت تعرفه القرية المصرية التي تعاني من الإهمال والتهميش ، وأهمها حادث غرق المُعدية بمن فيها من أبناء القرية وشبابها اليافع العائد من القاهرة حيث يتابعون دراستهم الجامعية مثل الأخوين حمادة وفريد . إن الساردة ـ المشاركة رغم أنها لم تعش تلك الحقبة إلا أنها استقت الأحداث التي ترويها من مخزون جدتها وأمها الحكائي. ( انظر الصفحة ما قبل الأخيرة من الرواية.)
لقد قدمت الساردة ـ المشاركة صورة حية صادقة عن حياة الفلاحين في الريف المصري بكل ما يسوده من إيجابيات وما يعتو ره من سلبيات من خلال قرية اسمها "البراري".
وسنعمل على دراسة الرواية انطلاقاً من مكونين أساسين في كل عمل سردي هما : القصة والخطاب.
القصــة:
استطاعت المؤلفة أن ترسم لنا لوحة كبيرة عريضة تشبه لوحة الجيرنيكا لبيكاسو مع الاختلاف في الموضوع و أداة التعبير . لقد رصدت حياة القرية المصرية بجميع تفاصيلها الدقيقة : التقاليد والعادات في المناسبات المختلفة كالمآتم والأعراس. وعالجت كثيراً من المشاكل التي كانت تعاني منها القرية المصرية يمكن أن نختصرها في الثلاثي اللعين : الجهل ـ الفقر ـ المرض. ومن أهم هذه المشاكل التي عالجتها :
1 ـ مشكلة ختان البنات في صغر هن والآثار النفسية البليغة التي تخلفها هذه العملية فيهن.
2 ـ تزويج البنات في سن مبكرة .، فــ" مستقبل البنت الجواز وتربية الأولاد " (ص : 229)
3 ـ حرمان الإناث في الأسرة من الميراث الذي يستحققنه شرعاً . واستئثار الذكور بأفضل ما في التركة. ( انظر ص : 222) ف " على الرغم من أن الدين حدد بدقة قوانين الميراث " والناس تصلي ، وتسمع الدروس وتقرأ القرآن إلا أن التقاليد والأعراف القبلية ما تزال تحكم هذه الموضوعات ، وتسيطر على عقول الناس حتى المتعلمين منهم ( ص : 223)
4 ـ رضا المرأة ( بنتاً أو زوجة ) بالقليل ، تعويضاً عن نصيبها( ص : 223 ) في بيت الأب وأرضه . وتظل تحمل في صدرها هما دفيناًً يتوارثه الأولاد ، ولكنها مع ذلك لا تكف عن حب الأخ والخوف عليه .
5 ـ تعرض الفلاحين لمرض البلهارسيا بسبب استحمامهم في الترع وشربهم منها وغسل ملابسهم بمياهها رغم أن السلطات تعمل ما في إمكانها لتوعية الناس بضرورة استعمال الماء الشروب المصفى من قنوات جماعية . لم تكن أنابيب المياه والصنابير قد دخلت إلى المنازل ، ولكن كان لها أماكن مخصصة ، وأحواض حول الخزان الكبير. ( انظر ، ص : 218. )
6 ـ اعتماد أهل القرية في علاجهم على الطرق التقليدية العتيقة التي كانت كثيراً ما تسبب في الإعاقات والعاهات ( فؤاد ابن عيوشة بدل أن يحضروا له الحكيم ، أحضروا له المزين) فكواه بسكين عريضة حامية إلى درجة الاحمرار ، وكواه على رقبته ، فأصابه في عرق النظر فصرخ الولد .. ومنذ ذاك وهو كفيف ( انظر ، ص : 216)
7 ـ الاعتقاد في الأولياء و الصالحين والتبرك بهم سواء كانوا أمواتاً في أضرحتهم أم أحياء يعيشون بين ظهرانيهم ( "مسرجة "حامل السراج ليلا ونهاراً ) ( محمد زهران ) (ص : 214 )
8 ـ للولد في الأسرة الريفية موقع هام ومميز( ) ( ص : 197) تقول الساردة المشاركة : عندما تلد المرأة في الريف بنتاً تغضب الأسرة . " لا تحظى بالطعام الجيد والرعاية الواجبة وكأنها ارتكبت جرماً تستحق عليه العقاب " (ص : 204).
9 ـ استغلال الإنجليز عرق جبين الفلاحين الذين يزرعون القطن ، فيأتي ممثلو الحكومة لشرائه منهم بأبخس الأثمان ، بعد أن يؤدوا عنه الضرائب.
وإذا كانت الساردة ـ المشاركة العليمة بأسرار القرية وخباياها والجوانب السلبية التي تعم حياة الناس فيها ، فإنها لم تكن أقل علماً بالنواحي الإيجابية ، فقد أبرزت وبشكل يمتلئ بالحنين والنوستالجيا ، النواحي الإيجابية العديدة في حياة الأسر في الريف المصري ، حيث كانت تعيش العائلة في بيت واحد كبير يرأسه غالباً الجد ( أصل الأسرة ) ، كما أنها وصفت علاقات الناس المبنية على أساس التكافل والتآزر بصفة عامة ، وبين الجيران بصفة خاصة . كما تمت الإشارة من لدن الساردة ـ المشاركة إلى ذلك التعاطف الذي كان يبديه بصدق ذوو اليسار تجاه الفقراء من أهل القرية ، وغيرها ممن يحل بها ، ويلجأ إلى إحدى دورها ، فيرزق طعاماً وفيراً مما لذ وطاب. لكنها لا تغض الطرف أيضا عما يعتور حياة بعض العائلات والأقارب من إحن وضغائن تؤدي في كثير من الأحيان إلى مآسي ، كما نجد ذلك في كثير من المقاطع السردية في الرواية ، ولاسيما في الجزء الثالث الذي خصصته الساردة ـ المشاركة لـ"هدى" وأمها " حياة ".
واللافت للنظر أيضاً أن الساردة ـ المشاركة تعنى عناية فائقة بوصف الطبيعة في الريف المصري وصفاً يتسم بالدقة ، وذكر تفاصيل مظاهرها. فتصف الحقول والأشجار والطيور ، وتركز على الحياة اليومية للفلاحين ، وطرائق أعمالهم الشاقة ، فتصف لنا بنفس الدقة والاهتمام بالتفاصيل : كيفية زرع القمح والقطن والذرة والفواكه المتنوعة ، كما أنها تعنى عناية خاصة بوصف مختلف عمليات جني المحاصيل الزراعية بعد اكتمال نضجها (ص :140 وما بعدها) . والأمر نفسه يتعلق بوصف العادات والتقاليد الاجتماعية من أفراح وأتراح ، وذلك في فقرات عديدة من الرواية، كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفاً. ويبدو أن الساردة ـ المشاركة حين تركز على الجوانب الإيجابية التي لا تخلو منها حياة الناس في الريف ، إنما تحن إلى هذه الحياة البسيطة الرومانسية الخالية من التعقيدات والجشع والجري وراء المال وامتلاك معطيات وآليات الحياة المعاصرة سواء في المدن أم القرى في عصر الانفتاح .
يمكن أن نؤطر هذه الرواية في إطار رواية الأجيال. وقد تبدى لي أن المؤلفة حاولت أن تكتب ثلاثية من أجزاء ثلاثة مثل ثلاثية نجيب محفوظ ( ) ، إلا أنها صورت فيها حياة الأرياف ، وليس حياة المدينة كصنيع محفوظ. إذا كان نجيب محفوظ رصد حياة أسرة من الأسر البرجوازية الصغرى خلال حقبة من حياة مصر، مواكباً ثلاثة أجيال من تلك الأسرة ، راصداً أحداثاً سياسية هامة ، كانت مشحونة بالصراع بين الشعب وزعمائه وبين الإنجليز ، ثم بين النظام الجديد من جهة ، والشيوعيين والإخوان المسلمين من جهة أخرى ، فإن عواطف أحمد البتانوني رصدت حياة الفلاحين ومعاناتهم هم الآخرين مع الاستعمار الانجليزي ، ابتداءً من حادثة دنشواي إلى إكراه الشباب والرجال على التجنيد الإجباري الذي كثيراً ما كان يعود منه إلا القليل ، وإن عاد ، عاد مقعداً أو فاقداً أحد أعضائه.
وهكذا استطاعت المؤلفة أن ترصد بكل صدق ودقة وتفصيل الحياة في الريف المصري في الحقبة الممتدة من بدايات القرن الماضي إلى ثورة الضباط الأحرار 1952وما خلفته من آثار إيجابية وسلبية على الريف المصري طالت جميع طبقاته ابتداءً من الفلاحين والعمال الفقراء إلى الفلاحين الصغار ، إلى ملاك الأراضي والفدادين الشاسعة. كما أنها تتبعت التحول الذي عرفته الأجيال المتلاحقة في مختلف العائلات التي تحدثت عنها الرواية. وأهمها عائلة المينيلاوي إذ طفقت القيم الأصيلة والتقاليد الإيجابية تتلاشى رويداً رويداً، خاصة بعد أن أخذت مظاهر الحياة العصرية تقتحم على الناس حياتها.
ولا تخفي المؤلفة انتقاداتها لبعض القوانين التي أتت بها الثورة الاشتراكية منها على سبيل المثال : جعل الفلاحين الذين كانوا يمتلئون حيوية ونشاطا في السابق، خاملين متهاونين في عملهم، مما نتج عن ذلك ضعف الإنتاج ؛ الشعارات الرسمية الرنانة الداعية للحماس التي تذاع في الراديو موجهة إلى صغار الفلاحين ؛ توجيه النداء للعمال والفلاحين برفع الرأس ، جعل هؤلاء يدخلون في مواجهات تتسم بالفظاظة وعدم الاحترام بينهم وبين أرباب أعمالهم ( أصحاب الفدادين القليلة) الذين كانوا يعيشون في كنفهم و يمثلون أولياء نعمتهم . ( ص : 412 ). وبموازاة تلك الانتقادات ، تمتدح الساردة ـ المشاركة شريحة البرجوازية الوطنية التي كان رجالاتها يوظفون رؤوس أموالهم لصالح المشاريع الوطنية الكبرى فيقيمون المعامل والمصانع والمشاريع الثقافية والفنية التي من شأنها أن تنهض بمصر وتجعلها تواكب مظاهر الحداثة والعصرنة الآتية من الغرب الحضاري. كما أن الساردة ـ المشاركة لم تكن تنظر إلى بعض الفلاحين الأثرياء باعتبارهم إقطاعيين استغلاليين طغاة، بل إن شواهد كثيرة عايشتها في الريف المصري تدل على عكس ذلك.فقد كانوا يتعاطفون مع الفلاحين العاملين في حقولهم ، وكان إذا ما أصيب أحدهم بمرض يتولى رب العمل عامله بالرعاية ، فيتكفل بتطبيبه ، وقد يحمله بنفسه في سيارته إلى المستشفى، ويسهر على علاجه كما كان يفعل والد "هدى "، وعمها "مرتضى "( ص : 417 ) يقول " رجب " المحامي في حوار له مع " حياة " أم " هدى " ابنة الثورة : " إن الحياة السياسية لم تكن سيئة .. فهناك البرلمان و الأحزاب : حزب الأحرار وحزب الدستور ، وحزب الوفد ، وحزب مصر الفتاة.كانوا يناضلون بشرف .. يواجهون الملك والاستعمار الانجليزي بشجاعة ، ويتحملون عذاب السجون والمعتقلات " ( ص : 418 )
ولعل موقف المؤلفة هذا أن يكون موافقاً لموقف بعض شرائح المجتمع المصري ( ) ، لاسيما بعد أن أبان الزمن كثيراً من مثالب عهد الثورة وما بعدها في عهد السادات. ومازلنا نسمع ونقرأ في العهد الحالي عن عمال التراحيل الذين كتب عنهم الكاتب الكبير يوسف إدريس روايته الجيدة " الحرام " ( )
الخطاب الروائي :
إن رواية " ثقوب في جدار الزمن " ، غنية بالعناصر الفنية التي ترقى بها إلى مستوى العمل الفني الناضج.ومن هذه العناصر : العتبات النصية / استخدام تقنية الحذف الزمني / الشخصيات الكثيرة المتنوعة / توظيف النصوص الشعرية زجلية وفصيحة / توظيف الأمثال الشعبية المنبثقة من الذاكرة الشعبية المصرية / تعدد اللغات.
وسنقارب الخطاب الروائي من خلال هذه المكونات :
1 ـ العتبات النصية :
1 ـ يلج القارئ عالم الرواية من خلال العتبات النصية الآتية :
1 ـ العنوان : يتكون من الناحية التركيبية من متتالية مركبة من : مبتدإ ، خبره شبه جملة (جار ومجرورـ مضاف ومضاف إليه ). لقد بأَّرت الروائية لفظ " ثقوب " لتثير انتباه القارئ المفترض إلى أنه بإزاء مجرد ثقوب ، يمكنه أن يطل منها على العالم الروائي من خلال جدار الزمن السميك. .وقد استخدمت لفظ " ثقوب " نكرة حتى لا تحدد ، لا عددها ، ولا مدى اتساعها. هل تود المؤلفة بهذا الصنيع أن تقول لنا إن الزمن الذي يحياه الإنسان مليء بالأحداث والذكريات ، بيد أن الذاكرة الإنسانية عاجزة عن التقاط كل ذلك؟ وإلا لسودت آلاف الصفحات. ثم إن الخبر الذي أتى في مكونات العنوان شبه جملة ( في جدار الزمن ) ، يوحي إلينا رغم الإضافة ( الزمن ) ، أننا أمام شبه جملة ، وليس أمام جملة كاملة. وفي ذلك دلالة على عدم الإحاطة بكل ما خلف السور.
يقول جرار جنيت : " احذروا العتبات "،( ) ويورد د.سعيد يقطين بعد مقولة "جينيت" مثلا مغربيا مفاده : " أخبار الدار على باب الدار ". ( ) إن لفظ الزمن في عنوان الرواية رغم هلاميته واستحالة القبض عليه ، فإن المؤلفة صنعت له جداراً صلداً لا يمكن نسفه أو تسلقه لرؤية ما خلفه رؤية واضحة بجميع أرجائه وأبعاده، ولكنْ ثمة ثقوب في ذلك الجدار هي التي تتيح وحدها للناظر رؤية ما خلفه من وقائع وأحداث حدثت في الزمن الماضي. فالذاكرة خؤون ، والزمن مشحون بالأحداث والذكريات التي يطوي معظمها النسيان. ولذلك نلاحظ أن الساردة ـ المشاركة لطالما لجأت في سردها إلى تقنية الحذف الزمني (Ellipse ) في مواطن عديدة من المتن الروائي. نكتفي بذكر بعضها على سبيل التمثل :
" ومضت الأيام بحلوها ومرها .." ،( ص : 103 )
" مرت ثلاث سنوات ولم تبد بشائر حمل على الزوجة "، ( ص : 105 )
" وتمر الأيام ، ويتغير وجه الحياة سريعاً"،( 150)
" مضت سنوات الدراسة " ، ص : 300 )
" وهكذا مضت السنوات بنا " ، ( ص : 408)
ورغم أن رؤية الزمن الماضي كانت عبر ثقوب في جدار ، فإن المؤلفة استطاعت أن تقدم لنا عالما شاسعا مشحوناً بالأحداث ، ممتلئا ًبالشخصيات ، متشحا بوشاح الوصف الدقيق للطبيعة. وذلك من خلال ثلاثة أجزاء روائية تحتوي على 441 صفحة.
إن العنوان هو نواة الحكاية ، وبؤرتها التخيلية ، وهو أيضاً أول عتبة نلج من خلالها عالم النص ". ( ) وتحضر بعض ألفاظ العنوان ودلالاته بصيغ مختلفة، وعبارات متنوعة دالة على الزمن ، وما يتميز به من ذكريات سريعة المرور في كثير من المقاطع الروائية. نكتفي بالإشارة إلى بعضها على سبيل التمثيل :
ـ" أين يكمن هذا الشريط الكامل من الذكريات بألوانه ورائحته وأصواته وشخوصه ؟ ، ( ص : 306 )
ـ " شيعت آخر أيام الدوار الجميل " ( ص : 112 )
ـ "شيع فيها الزمن الجميل " ( ص : 112 )
ـ" كيف يعيش الإنسان عمره كله في ساعات بل أحيانا يستحضره في لحظات ؟ " ، ( ص : 306 )
ـ " يادي الزمن الرديء " ، ( ص : 118)
ـ " تبكي الزمن الجميل " ، ( ص : 247 )
ـ " ومضت الأيام بحلوها ومرها " ، ( ص : 90 )
ـ " فالأيام تمضي وفاطمة لا يتقدم إليها أحد " ، ( ص : 91 )
2 ـ الإهداء : توجه المؤلفة الإهداء إلى زوجها الحبيب . تذكره باسمه محمد أبو شادي شريك رحلة العمر، وتوقعه باسمها الشخصي " عواطف ". وهذا ينم عن مدى الروابط الوثيقة ، والعلاقة الحميمة التي كانت تربط بينهما : المودة والعشرة الطيبة والعواطف الصادقة التي سنصادف كثيراً من مظاهرها في حياة الناس ضمن المتن الروائي. وهكذا نلاحظ أن ثمة وشائج تربط دلالياً بين النص الموازي والنص الروائي.
3 ـ العتبة الثالثة : هي عبارة عن مقولة من تأليف الكاتبة ، لها ارتباط وثيق بعنوان النص ، ولها دلالتها في ثنايا الرواية . وهذه المقولة هي:" يصنع الزمن بيننا وبين ما مضى من أيامنا جدارا.يصعب تسلقه، ولكنه جدار ليس أصم" الأمر الذي يوحي للمتلقي بأنه بصدد الانغمار في أعماق الزمن الماضي الذي تحكي عنه الرواية ، رغم صعوبة تذكر أحداثه كلها . بيد أن أهم الأحداث والوقائع تبقى رغم ذلك موشومة في الذاكرة، عصية على النسيان. وهي ما ستقوم بسرده الساردة ـ المشاركة التي ستتولى مهمة السرد في الجزأين الأولين من الرواية: " غسيل الذهب" و"عيون القمر"، بينما سيعهد بمهمة السرد في الجزء الثالث من الرواية " حياة الشوك " للشخصيتين الرئيسين: " هدى " ووالدتها " حياة ".
4 ـ المقدمة : تكشف المقدمة للقارئ أن الساردة المشاركة استقت مادة روايتها من جدتها أمينة أو أم حمادة . وهذه الأحداث تمتد من بداية القرن 20 إلى قيام ثورة الضباط الأحرار 1952 وما خلفته من آثار إيجابية وسلبية على المجتمع المصري سواء في المدر أو الحضر . وتستكملها عند زيارتها للجدة التي كانت تجد في أحاديثها الممتعة المليئة بالمعارف التي تفوق في نظرها كل ما قرأت من كتب ( ص : 9)
الشخصيات الروائية : تمتلئ الرواية بالشخصيات إلى درجة يعسر حصرها . فالرواية رواية أجيال . فثمة أصول يمثلها الأجداد والآباء والأمهات . وأهمها : الحاج عبد الرزاق المينلاوي ، وقد كان رجلا وطنيا ، له غيرة على قريته وأبنائها . وكان له الفضل في إنقاذ أهلها من هجوم عساكر الانجليز يوم حادث دنشواي (ص : 52) ، وهناك الفروع وهي كثيرة ويمثلها:
ـ حمادة وفريد أولاد العمدة
ـ يحيا و زكريا أولاد الشيخ أحمد
ـ الحسن والحسين أولاد الشيخ محمد
ـ فواز ابن الشيخ عبد الله
ـ محسن ابن الشيخ عبد الخالق
ـ محمود ومحمد أولاد الشيخ عبد العزيز
ولا تخلو الرواية من شخصيات ذوي ثقافة متنوعة واختصاصات متعددة، نذكر منهم على سبيل التمثيل : الشيخ عبد الرحمن الأزهري : خطيب المسجد ، محمود : مهندس زراعي ؛ ناجي سعيد الشاعر؛ الأستاذ رجب حسين : محام ، الدكتور سعيد : طبيب ؛ خالد الفضالي ( مدرس التاريخ ) ؛ أشرف محمد ( شارك في بناء السد العالي ) الرائد حسن عمارة ـ المهندس أشرف ؛ هدى ابنة الثورة المتحمسة لها قارئة نهمة للتراث الذي خلفه جدها من كتب صفراء وللروايات الحديثة لإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله وطه حسين وغيرهم . " لا أهتم بشيء إلا بالكتب ( ص : 297).
وقد رصدت الساردة ـ المشاركة لدى حديثها وتصويرها للشخصيات ، التحول الذي عرفته أجيال الأرياف ذكوراً وإناثاً، حيث عم الوعي لدى الناس بضرورة تعليم أبنائهم وإرسالهم إلى إتمام دراستهم في الجامعات.
توظيف الموروث الشعبي والنصوص الشعرية الفصيحة :
أ ـ الشعر الزجلي والفصيح : توظف الساردة ـ المشاركة أو الأنا الثانية للمؤلف حسب ( WAYN BOOT ) المخزون التراثي الشعبي ، فتورد كثيراً من القصائد الزجلــــية ( ص : 131 وما بعدها) على سبيل المثال ، ومن أهم القصائد الزجلية التي أوردتها قصيدة وطنية جميلة لشاعر النيل حافظ إبراهيم ، يقول فيها :
مَزَاِرعُ جَوْفُهَا دَافي
وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا وَافي
وَليهْ يِمْشِي ابْنُهًا حَافي
يَمُدُّ الإيدْ ويِطْـوِيهَا
بِسَاطُها سُنْدُسِي أخْضَرْ
وَنِيْلهَا بُنْدُقِي أَحْمَرْ
وَطِينْهَا عَنْبَري أَسْمَرْ
وليه الذُلُّ كَاسيها
يَا أبُو إِبراهيمْ ساعِدْنا
وِهاتْ إيدِكْ على إِيدْنا
نِخَلِّصْ مِصْر يا سيدْنا
مِنِ الرَّتْشِ الِّلي مَاليها
تَبَدَّالوا النَّقيبْ مَكْرَمْ
وِقالْ لُه يافَتى اعْلًمْ
بِأَنَّ اْلِمْصِري حَيْحَطِّمْ
قُيُودُه الِّلي اتْرَبَطْ فِيها ( ص : 23 )
ولكنها لا تكتفي بإيراد القصائد الزجلية ، بل توظف القصائد الفصيحة لا تنسبها غالبا إلى مؤلف معروف إلا بعض النصوص زجلية وفصيحة تنسبها إلى إحدى شخصيات الرواية المتخيلة الشاعر ناجي ( ص : 211 وما بعدها) . حتى الأغاني والأهازيج الشعبية التي يتغنى بها بعض شباب القرية لدى سهرهم في الليالي المقمرة مجهولة المؤلف ( ص : 12 وما بعدها ). أما القصائد الفصيحة فأهمها قصيدة ( أو جزء من قصيدة ) مكونة من بضعة أبيات للشاعر المصري الكبير عزيز أباظة يقول فيها :
لَمْ نَعْتَنِقْ وَالهَوَى يُغْري جَواِرحَنَا وَكَمْ دَعانا روحَانا وَقَلْبَاَنـــــــــا
نَغُضُّي حَيَاءً وًنُغْضِي عِفَّةً وَتُقًـى إِنَّ اْلَحَيَاةَ سٍيَاُجُ اْلحُبِّ مُذّ كَانــَا
ثُمَّ انْثنَيْنَـــا وَمَا زَالَ الْحَنينُ لَظًـى وَالْوًجْدُ مُحْتَدِمًاً وَالشَّوْقُ ظَمْآنَا
( انظر ص : 422)
تليها قصيدة الشخصية المتخيلة ناجي ، من الشعر المنثور. ويدور موضوعها حول المستقبل القاسي الذي ستسود فيه الآلة ، وتنتفي فيه المعاني والقيم .وهي قصيدة مشحونة بالآلام والأحزان والتشاؤم من المستقبل.نجتزئ هنا بهذا المقطع منها :
آسِف أقول : سَتَجِدُ في رُكْنٍ َمجْهولْ ..
قليلاً من الأحْرارْ ..
وكثيراً ..كثيراً مِنَ الأَرقَّاءْ ..
يُحَرِّكُونَ العالَمَ بالقُّوة .. بالأزْرارْ ..وَلَكِّـنَّهُمْ أَِرقَّاءْ..
مَلايينٌ مِنَ الْمساميرِ وَالتُّرُوسْ ..
تَدُورُ في وَحْشِ الآلَة ..
تَسْحَقُ عِظامَ الْمَعانِي..
وَتُحِيلُ اٌلْقِيَمَ أشْلاء ْ.. ( ص : 243 )
وتأتي مقدمة الجزء الثالث من الرواية عبارة عن قصيدة من الشعر المنثور على لسان البطلة "هدى " العاشقة. وهي حوار عاطفي بينها وبين حبيبها المهندس محمود القارئ المثقف الذي كان يهديها روايات إحسان عبدا لقدوس.. ( انظر ص : 255 )
ب ـ الأمثال الشعبية :
من اللافت لللنظر في هذه الرواية أنها غنية بالنصوص سواء منها الزجلية أو الفصيحة أو الأناشيد الشعبية الريفية أو الثقافة الشعبية. منها ما يتعلق بالتقاليد الأصيلة في مجال المعاملات والعلاقات الإنسانية ، ومنها ما يتعلق بالناسبات ، أفراحاً كانت أم أتراحاً، ومنها ما يرتبط بالطرائق والوسائل الزراعية والفلاحية ، ومنها ما يتصل بفنون الطبخ والأغذية إلى ما ذلك مما تزخر به الثقافة الشعبية الغنية في الريف المصري.
ومن التراث الشعبي الذي تزخر به الثقافة الشعبية في مصر، إن في الريف أو في الحواضر: الأمثال الشعبية. و الملاحظ أن الرواية زاخرة بهذه الأمثال بشكل مثير لنظر المتلقي ، مما يدل على غنى الذاكرة الشعبية المصرية بهذا التراث الأصيل. ويمكن القول إن توظيف الأمثال في هذه الرواية يستحق وحده دراسة أكاديمية. وسنكتفي هنا بذكر بعضها على سبيل الاختصار :
ـ " يدي الحلق للي بلا ودان " ، ص : 34
ـ " ولكل فول كيال " ، ص : 34
ـ " إن ذبلت الوردة رحيقها فيها " ، ص : 117
ـ " آخر العنقود سكر معقود " ، ص : 125
ـ " السلف تلف ، والرد خسارة " ، ص : 146
ـ " الجود من الموجود " ، ص : 148
ـ " إن فاتك البدري ، شيل هدومك واجري " ، ص : 153
تعدد اللغات :
نلاحظ أن الساردة ـ المشاركة توظف في الرواية تعدد اللغات :
ـ اللغة الفصيحة
ـ اللهجة المصرية
ـ اللغة الشعرية
والملاحظ أن بعض المقاطع السردية تمزج بين اللغة الفصيحة و اللهجة المصرية ، بيد أن السرد الروائي عموماً تستخدم فيه اللغة الفصيحة ، ولكن من الملاحظ أن كثيراً من صفحات الرواية تمتلئ بالأخطاء النحوية. ومن يتصفح الرواية سوف لا يلقى أي عناء في الوقوف عليها . وهذا لن يمس في نظري بفنية هذا العمل الجميل الجبار(441 صفحة) ولربما كان سبب هذه الهنات عدم مراجعة الرواية قبل تقديمها للطبع. أما الحوار فمعظمه باللهجة العامية المصرية مما يوحي بواقعية الشخصيات وانتماء أغلبها إلى الوسط الشعبي المصري في الأرياف .
أما بخصوص اللغة الشعرية فالملاحظ أن المؤلفة شغوفة بالتصوير الشعري في روايتها ، فتوظفه في كثير من المقاطع الوصفية للطبيعة أو الشخوص. نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر :
ـ "و تتفتح اللوزة أخيراً . ويسيل القطن الناصح البياض على جوانبها"( ص : 164 )
ـ تقــول هدى : " كنت كفراشة جذبها الضوء... أو كنحلة سقطت في بحر الرحيق " ( ص : 434) ، و تقول حياة لابنتها هدى : "كنت دائماً أشبهك بالزهرة البرية التي تتألق في أي مكان تتواجد فيه ـ فوق الصخور أو في صحراء جرداء ، أو على أغصان الحديقة.. يكفيها قليل من الطل لتتألق " ( ص : 399)
ـ "كانت شمس الضحى قد فاضت بالدفء والضياء على قرية البراري ( ص : 11)
ـ " يحمل لهم الليل أنين السواقي السهرانة طوال الليل تروي الزروع العطشى وتلمع المياه في القنوات الضيقة تحت أشعة القمر كأنها سلاسل من الفضة " . ( ص : 209 )
وتقول حياة لابنتها هدى " أسقيك من قلبي رحيق الحنان. " ( ص : 399 )
ونلاحظ في بعض المقاطع الوصفية الشاعرية أن الساردة ـ المشاركة هدى تجسم الأشياء ، وتبعث فيها الروح والحياة كما في المقطع الوصفي التالي : " كان حفيف الشجر وصوت الكروان وحنين الناي ( يكونون) كذا ـ فرقة موسيقية رائعة " أما صوت الضفادع فهي تشبه الإيقاع الرتيب ، أما ظلال الأشجار وأعواد الذرة فهي جمهور المستمعين ، ويقوم القمر بدور المايسترو بدونه ينفرط هذا العقد الفريد. " ( ص: 210)
إن الرواية تتسربل بهذا الأسلوب الشاعري ، لاسيما وأن الفضاء الروائي الذي تدور فيه الأحداث هو فضاء الريف المصري . ولعل الزمن الجميل ( انظر: ص : 419 ) الذي عاشته المؤلفة في هذا الفضاء ، وافتقدته في عالم المدينة ، ساقها إلى التعبير بكثير من الحنين والشفافية والشاعرية في وصفها لعالم الرواية ، رغم أن ما أتيح لها رؤيته من ذلك الزمن ، كان من خلال مجرد ثقوب في جدار سميك.

** د. عبدالجبار العلمي / ناقد وشاعر من المغرب

* ثقوب في جدار الزمن ، عواطف أحمد البتانوني ، روايات الهلال ،العدد704 ، أغسطس ـ آب 2007 .



الهوامش :
1 ـ طبعاً هذا في سائر الوطن العربي مشرقاً ومغرباً ، في البوادي بل وحتى في الحواضر ـ وما زالت هذه الظاهرة فارضة وجودها في كثير من الأسر ـ عربياً ومغربياً إلى يومنا هذا .
2 ـ تقول الساردة ـ المشاركة : " أما الحياة الاجتماعية داخل هذا المبنى العتيق فهي عالم كامل ،.. خليط عجيب لاينقصه إلا مخرج حاذق ليخلق منها رواية أغرب من الخيال..ربما أعجب من ثلاثية نجيب محفوظ " الرواية ، ص : 20.
3 ـ من المثقفين الذين قرأت عن رأيهم في تلك الأوضاع بعد الثورة الروائي المعروف جمال الغيطاني . يقول: " إنني أنتمي إلى جيل فتح عينيه على الرعب ، وانخرط في العمل السري ضد الأوضاع التي رآها كثيرون منا خاطئة " ( انظر كتابه : "المجالس المحفوظية "، ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2007 ، ص : 8 )
4 ـ آخر شيء قرأته مؤخراً عن عمال التراحيل في جريدة القدس العربي ، عدد5801 ، الثلاثاء 92 يناير 2008ـ 21 محرم 1429هـ ، خبر إلقاء القبض على الإعلامية هويدا طه معدة ومخرجة برامج بقناة " الجزيرة " هي والطاقم التقني الذي معها أثناء تصويرهم فجرأ ، برنامجا ًعن عمال التراحيل والفلاحين والمهشمين.
5 ـ ربما يشير هنا إلى أهميتها باعتبارها نصاً موازياً ملتبساً ، قد يذهب بالمتلقي إلى تأويلات متعددة ، خارقاً أفق انتظاره. ومن المفيد في هذا الصدد مراجعة كتابه " عتبات". 1987 rard ,Seuils, Genette Gé
6 ـ عبد الفتاح الحجمري ، عتبات النص: البنية والدلالة ، ط.1 شركة الرابطة، الدار البيضاء ، 1996م.
7 ـ عبدالفتاح الحجمري ، عتبات النص : البنية والدلالة ، م . س . ذ ، ص : 19.








1636238944396.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى