محمد السلاموني - مقاربة أوَّلية.. "الله فى الدين" الله فى الفلسفة، القديمة والحديثة

منذ سنوات طويلة وأنا منشغل بالسؤال عن "الله"؛ هل يوجد حقا؟، ومن الذى أوجده؟، وهل هناك ضرورة لوجوده؟، وماعمله؟، وما الذى يمكن أن يعود عليه من خلق الكون بما فيه؟، وماذا يريد من البشر، وماذا يريد البشر منه؟... إلخ، وبعد أن قرأت ما تيسَّر لى بحثا عن إجابة أو إجابات، انتهيت إلى تلك المقاربة الأوَّلية:
// يبدو لى أن هناك خلط كبير بين "الله- فى الأديان" و"الله- فى الفلسفة"، نظرا لاختلاف منهج البحث وموضوع وهدف كل من الدين والفلسفة عن بعضهما البعض؛ فكما أن هناك منظور دينى وحقيقة دينية، كذلك هناك منظور فلسفى وحقيقة فلسفية، وهما مجالان مختلفان تماما عن بعضهما البعض، وإن لم يمنع هذا كثيرا من الفلاسفة من الخلط بينهما، لاسيما فى الفلسفة السابقة على "كانط".
// الدين عرفانى فى جوهره- والعرفان لغويا هو المعرفة، أما إصطلاحيا فهو "السعى نحو معرفة الله"، لذا يقال بأن [العرفان- كمصطلح- هو ما يصبو إليه التصوف؛ فهو معرفة قلبية بالله؛ أى بالحق، كنتيجة للسلوك القلبى...]، ومع ذلك، يذهب البعض إلى أن هناك فرق بين التصوف والعرفان، ويقولون: [ما يميز العرفان عن التصوف هو أنّ التصوف طريق والعرفان مقصده]، من هنا، ليس كل متصوف عارف بالله، لأن تلك مرتبة لا يبلغها إلاَّ البعض فقط .
// البحث فى ماهية الظواهر "أى فى حقيقتها" هو العامل المشترك بين العرفان والفلسفة- ومع ذلك فللعرفان الدينى شقه الروحانى أو القلبى، أما الفلسفة فعقلانية تماما، وتخضع لمنطق صارم.
وربما كان هذا يعود إلى أن كلاهما يعملان بحثا عن "المعنى"- والمعنى لا يزيد عن التماع خارجى على سطح الظواهر، أى أنه لا يعثر على ما يبرره من داخل الظاهرة نفسها- إنتاج المعنى الخاص بالظواهر يخضع لنظام أخر مختلف تماما، يتعلق باللغة والثقافة...
// فى الفلسفة الميتافيزيقة القديمة، لم يكن ثمة تاريخ للظواهر "الموجودات"، بالمعنى الذى نفهمه الآن؛ ذلك أنهم كانوا يعتقدون بأن ما يتغير فى الأشياء هو الشكل الخارجى فقط ، أما باطنيا أو جوهريا، فالظواهر تظل "هى هى- لا تتبدَّل بحال"، ومن هنا كان البحث عن "الماهيات". / وهو ما تستعيده الفلسفة الظاهراتية الآن فى بحثها عن أصل الظواهر.
// البحث القديم عن الحقيقة المجردة، عن الماهيات أو الجواهر، الذى كان يعد التاريخ مجرد استمرارية زمنيه تتعلق بالشكل الخارجى كان هو الداعى للخلط بين العرفان والفلسفة. فعلى سبيل المثال: يذهب ابن رشد إلى أن الفلسفة والشرع يشتركان فى وجوب النظر العقلى فى الموجودات وطلب معرفتها واعتبارها؛ وقد كان على اعتقاد تام بعدم وجود تناقض بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية؛ أى بين الشرع والفلسفة.
من هنا كانت قضية وجود الله-عند ابن رشد- قضية إيمانية وفلسفية فى آن واحد .
// أعود للتأكيد على أن الفلسفة الميتافيزيقية القديمة، الباحثة عن التعريفات الماهوية المطلقة، هى التى دفعت ابن رشد للمطابقة بينها وبين الشرع، هكذا "فى غيبة التاريخ- بما هو التغَيُّر الباطنى وليس الخارجى فقط".
الآن، بعد أن أصبح التاريخ "بمعنى التغَيُّر الذى يطال بواطن الظواهر" إحدى الملموسيات الحدِّية الكثيفة فى حياتنا الحديثة، تراجع البحث الفلسفى "الماهوى- الباطنى". / ويعود هذا إلى "كانط" تحديدا، بتفريقه الشهير بين [الشئ فى ذاته؛ أى الشئ فى واحديته وفرادته، وعزلته عن الأشياء الأخرى" و"الشئ لذاته؛ أى الشئ منظورا إليه فى شبكة علاقاته بغيره من الأشياء]، مما قاده إلى إعادة تأسيس المعرفة على الحواس، ونبذ المعرفة الميتافيزيقية، التأملية "الباطنية" الخالصة.
// الحقيقة الدينية تبحث عن "الله فى ذاته"، أما الحقيقة الفلسفية الحديثة، فتبحث عن "الله لذاته"، أى فى شبكة علاقاته... من هنا، لم يعد البحث الفلسفى متعلقا بالماهيات المجردة، المطلقة، التى لا تتغير بحال، بل بالتحولات العميقة التى تخضع لها الظواهر فى علاقاتها أو فى اعتماداتها المتبادلة "تفاعلاتها الجدلية" ببعضها البعض .
وهو ما يدفعنى إلى القول بأن "الله" فى الفلسفة الحديثة تحول إلى ظاهرة أو موضوع، مثله فى ذلك مثل مختلف الظواهر والموضوعات الأخرى، وبذا فإن "الله- كمفهوم مركزى"؛ يقيم فى مركز القيم الحاكمة للمجتمعات، يتعرَّض بالضرورة للتغيُّر والإختلاف، مثله مثل المفاهيم الأخرى، أعنى أن ما تعكف الفلسفة الحديثة على دراسته تحديدا هو [ما الذى يعنية "الله"، ليس الله فى ذاته، وإنما فى مجموع علاقاته بالعالم؟] باعتباره معطى ثقافى نتفاعل معه فى أطر تاريخية وسياقات مجتمعية متحولة...
وبذا، فالإلحاد الحديث لا يمت بصلة للدين، لأنه لا يتعلق بالله الدينى، بل بالله كمعطى مجتمعى فقط ؛ أى بالله فى تحوله إلى مؤسسات: دينية وسياسية وإجتماعية وقانونية وتعليمية وأسرية وثقافية حاكمة، أى إلى ترسانة هائلة من "الأجهزة الأيديولوجية للدولة"- هذا والدولة القومية الحديثة هى "الله الرمزى"- عوضا عن "الملوك- الرعاة القدامى، ظلال الله على الأرض"، وهو ما يعنى أن الدولة الحديثة صارت هى "جسد الله، أو الله مُجَسِّدا"، وإذا كانت تلك ظاهرة عامة من ظواهر الحداثة، إلاَّ إن الدول المتخلفة- ومنها الدول العربية بطبيعة الحال- حيث يلعب "الدين" دورا محوريا فى أيديولوجيا الطبقة الحاكمة، تجعل من "الله" هو الحاكم الفعلى الذى يدير شئون الحكم... وما الصراع بين القوى السياسية المختلفة، فى أحد أبعاده، سوى صراعا على لعب دور الله...
عدم الإيمان بالله "الإلحاد" سياسى فى جوهره، لأنه يتعلق بالنظم السياسية الفاشلة .
وبطبيعة الحال، لا مجال هنا لمقارنة الإلحاد لدينا بالإلحاد الغربى المتعلق بالإنجازات العلمية الفائقة التى حولت الإنسان إلى سوبرمان، حل محل الله، ويحيا فى فردوس أرضى.
////// أعتذر عن عدم استطاعتى عرض موضوعى هذا بشكل أفضل، نظرا لضيق الوقت.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى