سيد الوكيل - عالم سعيد الكفراوي الصغير. جذوره وتجلياته.

بعض كتابنا الكبار لديهم ملكة خاصة تمكنهم من صناعة الحكايات عن أنفسهم. ربما نجيب محفوظ وحده صنع حكايته بالصمت، فسارع عشاقه بنسج الحكايات عنه. أما القاعده الغالبة فإن الجلسات الخاصة تكون حلقة لحكايات الأدباء خارج قوانين السرد، كونها حكايات عن أنفسهم. علميا، الحكايات المروية لا دليل على صدقها، لكن منطق الحكاية وقوة حضور المحكي عنه، تحول المرويات -ومهما كانت شخصية المروي عنه – إلى حقائق نتذكرها في مناسبة ما، وربما نعيد إنتاجها على نحو مختلف يجعلها أكثر شيوعا وتحققا.

سعيد الكفراوي هو آخر الحكائين الذين عرفتهم. كان لا يفوت فرصة لقاء بلا حكاية. يمكنك ملاحظة أن بعض حكاياته تتكرر. هذا التكرار يدعم صدقها، كونها سكنته وحددت هويته المكانية بالقرية، وخطابها الشفهي: عاداتها، وطقوسها، وممارساتها الشعبية. هكذا كانت القرية وممارساتها الشعبية هي أبرز موضوعاته السردية. حتى عندما يكتب عن المدينة، فهي لا تبدو أكثر من النموذج الضد، أو النظير الشارح لعالم القرية الجميل، وحكاياته الصغيرة.

المغزي هنا أن حكايات سعيد الكفراوي العفوية والمرتجلة -ابنة حدس اللحظة كما يسميها باشلار – لا تبتعد كثيرا عن قصصه. لإنها عن عالمه الحميم، القرية، ومفرداتها الصغيرة التي علقت بذاته مهما طالت رحلاته بعيدا عنها. وربما لهذا أخلص الكفراوي للقصة القصيرة. إذ كانت الفن الأقدر على تجسيد عالمه الشخصي الذي يحضر بطفولته وتلقائيته وغنائيته. هكذا يحضر سعيد الكفراوي، في المشهد الأدبي المصري بوصفه أيقونة القصة القصيرة.

بدأ الكفراوي بكتابة القصيرة في الستينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت ازدهار هذا الفن. وفي أول السبعينيات، قبيل وفاة عبد الناصر بأيام قليلة، اعتقل بسبب

قصة كتبها. ويذكر، أنه بعد خروجه من المعتقل، حكى تجربة اعتقاله لنجيب محفوظ، وأن (محفوظ) استوحى وقائع وأحداث رواية الكرنك من حكايات الكفراوي عن المعتقل.

هكذا فإن حكايات الكفراوي، تلهم الآخرين بكتابة الروايات، بينما هو استمر يكتب القصة القصيرة. حتى بعدما تحولنا إلى زمن الرواية، لم يتخل الكفراوي عن كتابة القصة القصيرة، فصار كل منهما دالًا على الآخر. فبمجرد أن نتكلم عن القصة المصرية، نذكر الكفراوي، وإذا ما ذكرنا الكفراوي، نتكلم عن القصة القصيرة في مصر.

في ظني أن علاقة الكفراوي بالقصة القصيرة علاقة عاطفية، عشق خاص وشخصي. وهذه الشخصانية تفضي إلى المعنى الذي وصف به ( أكونورو) القصة القصيرة بأنها: فن الصوت المنفرد. عندما تشعر الذات الساردة بالاغتراب إذا ذهبت إلى عالم لا يخصها، ولا يحمل رائحتها وملامحها.

الذات الساردة ليست مصطلحا فارغا من المعنى، إنها وجود حي، حبلى بالكلام، ولديها خطابها المنتج عبر واقعها المعيش، وهي بالضرورة منحازة له، كما يقول بول ريكوار:”(1) ليس هناك قصة محايدة أخلاقيًا”. الذات الساردة تنحاز لهويتها الزمنية والمكانية، باعتبار الهوية مكونًا ثقافيًا ونتاج محيطها الاجتماعي. وتشعر بالاغتراب إذا هجرته. فهي لا تكتب عن موضوعات تأباها، أو تكرهها. وعندما تجد موضوعها الحميمي، تتدفق بسخاء. لأنها تعرفه جيدًا، بكل تفاصيله الصغيرة وظلاله الشجية التي تتغذى منه وجدانيًا وجماليًا إلى حد الإشباع، فتبدو راغبة في الإقامة فيه دائمًا، واسترجاعه، والتغني به، والغرام بكل ملامحه. إنها مكتفية به، وغير راغبة في هجره، ولا تتحقق إلا فيه. إنها ذات (جنينية) لصيقة بحرمها، شديدة الحساسية تجاه كل ما يهدد عالمها الداخلي، بمعنى أنها تشعر بالاغتراب عندما تتعارض تصوراتها ومثالياتها مع واقع مختلف أو مفروض عليها. وسوف نرى، أن الاغتراب موضوع يتردد عند الكفراوي، سواء بمواجهتة، أو بالهروب منه إلى عالم الطفولة، حيث الزمان والمكان الذي تكونت فيهما الذات الساردة وتربت جماليًا، هناك فقط، يجد الدفء، والأمن النفسي والإشباع الجمالي.

يقول الكفراوي في مدخل مجموعته القصصية الأولى:”مقدر على أن آتى بالماضي وأثبته على صفحات هذه الحكايا.. هل هو الصوت الذي يأتي من الآماد البعيدة. عبر الحلم وكهف الذاكرة؟ ربما..”(3)

صحيح هو عالم صغير ومحدود، وكثير من مفرداته تتشابه فيما بينها. لكنه كاف ليلبي كل الحاجات الشعورية التي تطمح إليها الذات الساردة. فيبدو عالمًا لا ينضب.

والمتأمل لقصص الكفراوي، يمكنه أن يلاحظ هذا النزوع الوجداني الشخصي، حيث الحنين إلى أزمنة الطفولة وعوالمها الحميمة، وانحياز الذات الساردة لواقعها المعيش وتجاربها الشخصية ذات الطابع الإنساني، وتغنيها بالقيم الوجدانية والجمالية التي أهدرتها تحولات الزمان من الماضي إلى الحاضر، أو المكان من القرية إلى المدينة، أو من دفء الوطن إلى وحشة الغربة.. وكل هذه السمات، تتبدى بوضوح منذ مجموعته القصصية الأولى (مدينة الموت الجميل – 1985م). التي تتناول أقصى صور الاغتراب الزمني والمكاني.

يمكن ملاحظة، أن كثيرًا من قصص الكفراوي، تتخلى عن مركزية الحدث، بمعنى أنه لا يستهدف الحبكة كضامن أساسي للبناء الفني، ومؤطِر للوحدتين: الموضوعية والشعورية، وربما هو غير متمسك بالتوصيف النوعي لما يكتب، فلا يعنيه أن تكون قصصًا بالمعنى الاصطلاحي المدرسي للقصة القصيرة، بل هو نفسه، يشير إليها بوصفها (حكايا) كما نرى في مدخل (مدينة الموت الجميل). وهذا الوعي بمعنى السرد، كونه حكايات وليس قصًا أو رواية تمنحه حرية البوح الذي يفضي إلى مغامرات أسلوبية، مثل الاستفادة من الأغاني والمقولات والأمثال والتعبيرات الشعبية، ومفردات الطقوس والألعاب والممارسات الطفلية، والأناشيد والأذكار والأدعية الدينية، على نحو ما نجد فى ختام قصته لابورصا نوفا: “يا عدرا..يا أم المسيح.. كيرياليسون.. يارب ارحم.. كيرياليسون..المجد لله في الأعالي وعلى الأرض العوض”.(3)

وهى انحرافات تنمح نصوصة حركية مميزة، وتكسبها فضاءات دلالية أكثر رحابة، تتسع لذات ساردة، تعلن عن نوازعها وأحلامها وهواجسها بطاقة جمالية تضمن للغة مستوى من التناسق الشعوري بين الذات والعالم والأشياء. أو بمعنى آخر، تذيب مساحة الاغتراب بين (الذات والموضوع ) فتقترب التجربة المعيشة من الشعر، ويعيشان –معًا- في فضاء واحد من الحكي والغناء، الذي لا يخلو من الشجن، ولاسيما عندما يتجه السرد إلى استعادة الماضي، وصقله، بحيث يبدو كل مافيه جميلًا، وقابلاً للعمل في الآني.

إنه يشمل قراءه بنوع من الحنين الأمومي الدافئ.كذلك الطفل الذي نراه في بعض قصصه، كلما غضب أو تألم، يرتمي في أحضان جدته، العامرة بروائح الحياة والزمن والأرض.

وهو نزوع يختلف في أهدافه عن الرومانسية الأولى كملاذ (يوتوبي) من قبح الواقع. بل بالعكس، هو استغراق في المعنى الذاتي للواقع. ربما لأن المعنى الاجتماعي العام استهلكته الخمسينات والستينيات في رهانات سياسية أصابت الإبداع بالجفاف.عندئذ تأتي النزعة المشاعرية، لتبرر ارتباطنا بواقعنا الخاص والشخصي، وتجدد ارتباطنا بالواقع المعاش.

في قصص الكفراوي، الواقع المعاش هو ما يتبقى في ذاكرتنا ويظل قادرًا على تحريك مشاعرنا، فما يعيش بداخلنا فعلاً، هو واقعنا الذي يخصنا. إذ لا واقع يمكنه أن يعيش بمنأى عن الذات، بل هو جزء منها، ومكون أساسي فيها. وبهذه الطريقة يندمج مفهوم الواقع الموضوعي بمفاهيم أخرى أكثر ذاتية، كالخبرة الشخصية، والذاكرة، والخيال، وأحلام اليقظة، والعمق الأسطوري البدئي، الذي يوليه (كارل يونج) دورًا مهمًا في تشكيل اللاوعي، ويمنح أحلامنا شعريتها، فتتجلى غناءًا وسرداً.

وبهذا المعنى يصبح الواقع أكثر شعرية ومن ثم أكثر انكشافأ وألقاً بما يتيح لنا رؤيته على نحو أكثر عمقًا. لأن الواقع الخارجي سطحي وخادع، فالجزء الظاهر من جبل الجليد لايمثلة أبدًا، لأن ما خفي، دائمًا أعظم. وبهذا المعنى، يصبح الإدراك نوعًا من الاستبطان كشفًا وبصيرًة. إنه نفس معنى الواقعية، الذي راهن عليه الشعر، في تحولاته الأخيرة، وابرزه أدونيس في تنظيراته وشعره. إذ أن الشعرية هنا، ليست تشكيلاً لغويًا فحسب، بقدر ما هي قدرة على احتواء الذات للعالم. ولعل هذا التماس السردي بالشعر، هو المسئول عن الحضور الصوفي الشفيف في تجربة سعيد الكفراوي على نحو ما تمثله بعض قصص مجموعته (كشك الموسيقى)(4) منها قصص: (تلة الملائكة)، (في حضرة السيدة)، (بيت للعابرين).

(كشك الموسقى) احتوت مختارات من قصصه التي كتبها على مدار ما يقرب من ربع القرن، ومن ثم فهى تمثل مشروعه السردي الذي تشكلت ملامحه منذ (مدينة الموت الجميل) وظل يعمل على صقله وتطويره بإصرار، حتى انتهى إلى مجموعة من الخواص المميزة، التي تجعل القاريء، يفطن بقليل من الجهد، إلى أن سعيد الكفراوي واحد من الكتاب –القلائل- الذين امتلكوا مشروعًا سرديًا، على الرغم من خصوصيته، والتصاقه بذاته، ومحدودية جغرافيته.

عالم الطفولة، يبرز على نحو خاص في تجربة الكفراوي، ويأتي مفعمًا بالطزاجة، والعفوية، والدهشة، التي تسم ممارسات الأطفال، وألعابهم، وأغانيهم، وتشوفاتهم، وأحلامهم البسيطة المستحيلة، وعلاقاتهم المشتبكة بالأماكن، والأسرار الصغيرة، والأشياء الخاصة التي تتغير بفعل المخيلة من العادي إلى المقدس. هذه القداسة تمتد إلى بعض الشخصيات التي يرتبط بها الطفل على نحو يضفي الخيال عليها هالة من التقدير والبهجة، كشحصية عازف الرباب أو شاعر القرية، أو شيخ الكتّاب، أو الجد الذي يحاط عادة بهالة أسطورية. وتنسب له بعض القدرات الخاصة، التي تقترب به إلى منطق الخوارق أحيانًا، ولاسيما فيما يتعلق بقواه الجسمانية وشجاعته في منازلة الجان أو لصوص الطرق. وهكذا تحمل مثل هذه الشخصيات بعداً أسطوريًا.

والراوى في قصص المجموعة، قد يكون طفلًا أو كبيراً يستدعي الطفولة، إذ تبدو الطفولة هي كلمة السر في الإلهام السردي، ومحرك الخيال السحرى اللعوب المتسم بالعفوية.

ففي قصته المدهشة (تلة الملائكة) نجد هذا الراوي الطفل، وهو يحكى عبر مخيلة مفعمة بالدهشة عن عالم الغجر الذين يسكنون التلة البعيدة، ويثيرون المخاوف، والهواجس، في نفوس الصغار بعالمهم الغامض وأهازيجهم الساحرة. إنه عالم يثير دهشة وفضول الراوي / الطفل، الذي يضيئ الفانوس ويمضي لاكتشاف عالم التلة المثير. وفى هذه القصة يمتزج البعد التخييلي بالثقافة الدينية على نحو رائع، فالطفل يمضي إلى تلة الشياطين/ الغجر، مدفوعًا بالفضول الذاتي، لكنه يحتمي فى فضوله بفكرة أن فانوس رمضان، له القدرة على تبديد وحشة الظلام، وقهر الشياطين، ورؤية الملائكة. فالثقافة الدينية بعمقها التراثي، تغمره بيقين، أن شهر رمضان يسجن الشياطين، ويضعها في الأصفاد. فالخيال الشعبي هو خيال طفل، يجسد رمضان شخصًا مقدسًا، له هذه القدرة، التي يمتلكها الجد في مواجهة الأشرار وقاطعي الطريق، حتى أن الناس -في رمضان – تنام وتترك أبوابها مفتوحة وهي آمنه.

وبهذا اليقين يذهب الطفل إلى التلة، وهناك يتجسد المعتقد ويتحول الخيال إلى حقيقة، حيث يجد التلة تعج بالملائكة فعلًا، تستقبله الملائكة في طقس تطهير مستمد من الثقافة الدينية أيضًا، عندما تنزع قلبة وتغسله ثم تعيده، ليمضي بعدها الطفل، أكثر يفاعة وثقة فيما يعتقد.

إن الخيال الذي يثري وجدان الطفل، له جذوره التراثية والبدئية في الأساطير والثقافة الشعبية والدينية، يمثل قاسمًا مشتركا في قصص الكفراوي، مهما استمدت موضوعاتها من الواقع، ليتأكد المعنى الذي أشرنا إليه مسبقًا، عن الوعي المميز للكفراوي، بمعنى الواقعية. فيمنحه سبقًا مبكرًا، على كثير من أبناء جيله الستيني، الذين استغرقتهم الواقعية الاجتماعية، وروافدها السياسية.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بول ريكوار: فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء-ترجمة عدنان نجيب الدين- المركز الثقافي العربي- بيروت- 2003م.
2- سعيد الكفراوي : مدينة الموت الجميل ـ دار كتب خانة للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ 1985
3- نفسه
4- سعيد الكفراوي: كشك الموسيقى( مجموعة قصص)- مكتبة الأسرة-القاهرة-2003م


  • Like
التفاعلات: مصطفى البشير فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى