عبد الله المتقي - القصة القصيرة جدا بالمغرب: مواقف ورؤى

القصة القصيرة جدا، جنس أدبي استطاع أن يتخذ له موضعا بين الأجناس الأدبية، وقد لاقي اقبالا كبيرا، واهتماما لافتا في المشهد الابداعي المغربي، مع توالي الاصدارات. وقد بلغ الاهتمام بهذا الجنس درجة تخصيص أيام دراسية ونشر مختارات لكتابه ضمن انطولوجيات مختصة(1).بيد أن هذا الجنس القصصي ما زال يثير جدلا واسعا، بين مؤيد ومعارض وأحيانا بين جاحد ومنكر لا يعترف به، اذ لا يعدو أن يكون في نظره الا فورانا وموجة لن تلبث ان تمحي. ما موقفك من هذا الشكل من الكتابة السردية؟ وكيف تري مستقبلها؟ سؤالان سعينا من خلال طرحهما في هذا الاستطلاع علي نخبة من القصاصين والنقاد الي تعميق النقاش حول الجنس وتداعياته من جهة وتقريب القراء والمهتمين منه أكثر.مصطفي لغتيري ـ قاص* القصة القصيرة جدا عرفت ولادة طبيعية جدا والمجال مفتوح أمامهااذا انطلقنا من اعتبار الأجناس الأدبية وليدة حاجة اجتماعية وانسانية ملحة، وبأنها كائن مستقل تخضع ولادته وتطوره وانقراضه لعدة عوامل ذاتية وموضوعية، فان القصة القصيرة جدا ـ بناء علي ذلك ـ ظهرت الي الوجود وبدأت شيئا فشيئا تفرض نفسها علي المشهد الأدبي المغربي، لأن هناك ضرورة ملحة لوجودها، وقد ساهم في ذلك عاملان أساسيان، أولا التطور الذي عرفته القصة القصيرة، والذي كان من المحتم أن يفرز شكلا كتابيا من نوع ما ،ثانيا التحولات الاجتماعيةالمتسارعة في علاقتها باكتساح العولمة لكل المجتمعات وتأثيرها المباشر علي أنماط العيش، وهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن لا يخلف آثاره الواضحة علي الذائقة الفنية والأدبية، ولعل ذلك ما يبرر الاهتمام الذي أضحت القصة القصيرة جدا تلاقيه ـ في الآونة الأخيرة ـ من الكتاب والقراء علي السواء. القصة القصيرة جدا عرفت ولادة طبيعية جدا والمجال مفتوح أمامها علي مصراعيه لتحقق التراكم المرغوب، وهي ـ بلا شك ـ اضافة نوعية الي المتن السردي المغربي شكلا ومضمونا، وأتوقع لها ازدهارا مضطردا في السنوات القليلة القادمة.ہپہپہمحمد رمصيص ـ ناقد * وضع القصة القصيرة جدا بالمغرب يؤشر علي مستقبل مطمئن … واقع وآفاق القصة القصيرة جدا بالمغرب.حققت القصة القصيرة جدا بالمغرب تداولا ومقروئية هامين لثلاثة أسباب أساسية في اعتقادي الشخصي وهي:1 ـ الشكل المعماري المكثف.2 ـ اللغة الحكائية.3 ـ المضامين المعالجة. أما علي مستوي المعمار فقد اتصفت بالتكثيف وشدة الامتلاء الشيء الذي جعل ملفوظها الموجز والمرمز يثير عدة تأويلات. وهذا يتوافق واحدي استراتيجية الكتابة العربية القديمة البلاغة في الايجاز . ان حجمها المكثف حتم تجنب الاستطراد واسقاط التفاصيل وبالتالي السرعة في الايصال والتواصل الأمر الذي يتوافق وطبيعة العصر السريعة. فالحكي المضغوط والمكثف لدرجة تقطيره عبر مصفاة دقيقة جعل منها عنصرا جماليا وليس هدفا في حد ذاته، أقصد القوة الاقناعية للتعبير المركز الملتقط للحظة شعورية أو حدث مثير أو شخصية فارقة وهذه احدي التمفصلات التي يمكنها اختزال حركية العالم في جمل محدودة، وكما يقال القصة القصيرة جدا تري العالم من خلال ثقب الباب بينما القصة القصيرة تنظر له بعد أن يفتح علي مصراعيه. بمعني أن شكل فعل الكتابة محدد أساسي في خلق العالم الموازي للواقع، فضلا عن الأثر المتبقي بسببه.أما علي مستوي اللغة الحكائية للقصة القصيرة جدا فقد تم شعرنتها وأضحت تكتسي نشاطا وحيوية جديدين وطلقت خمولها المعجمي المألوف. وبذلك أمست كتابتها تحمل في ثناياها نبضة شعرية قربتها من قصيدة النثر. ان جملها الحكائية أضحت بمثابة برقية سردية شديدة الوقع والتأثير. فشكل كتابتها استبدل السرد الخطي بالحكي المفتت والمتشظي.. كتابة تراهن علي الاقلاق لا الامتاع والتسلية.. كتابة من دون مقدمات في الغالب وبخاتمة مفتوحة علي ما لا نهاية من الاحتمالات الدلالية. أما ملمحها الثالث والمسعف علي تداولها وأقصد به المضامين المعالجة.. فقد أضحت أكثر جرأة وان كانت أحيانا تشتغل وفق جمالية المجاز لا الحقيقة فهي تمس موضوع الحرية الجنسية وتحولات القيم والعلاقة المختلة بالسلطة وصراع الأجيال وما شابه مما جعلها برقيات سردية قلقة ومقلقة.. ويبقي أن نشير علي الرغم من بلورتها لهذه الملامح فالقصة القصيرة جدا لا زالت غير مكتملة الملامح أي أنها في طور التشكل بمعني أنها مشروع قصصي يبحث عن شكله النهائي.. ان اهتمام منتجيها بالمعمار الفني واللغة الحكائية فضلا عن جرأة المعالجة هو نوع من اعادة الاعتبار لشكل الكتابة الأدبية، وهذه قناعة جيل أدبي جديد له أسئلته الخاصة وهواجسه الفنية وحساسية الابداعية. ان هذا الرصد المركز لوضع القصة القصيرة جدا بالمغرب يؤشر علي مستقبل مطمئن لتداولها بشكل أوسع ووقع أعمق. ہپہپہمحمد اشويكة ـ قاص * القصة القصيرة جدا مفتوحة علي آفاق الجمالـ أظن أنه مهما اختلفنا حول تسمية القصة (قصيرة، قصيرة جدا، ومضة…) فنحن ندور في فلك واحد، ونشتغل علي جوهر واحد: القِصَر… هذا هو الشيء الثابت غير المختلف حوله، أما ما بقي فعوارض تتأثر بالزمان والمكان ونفسية القاص و… اذا، كيف نقدم فكرة القصة في حيز نوسعه ونضيقه حسب الحاجة القصصية؟ وهل تختلف القصة القصيرة جدا من حيث التقنيات عن القصة القصيرة؟أظن أن في كل تكْنِيكٍ بُعداً غيبيا، بمعني أن تكنيك القاص فيه كثير من الاعتقاد، وكثير من الأفكار النهائية التي غالبا ما يشحذها الناقد ويكرسها محاولا جعلها مرجعيات يقوض بها النصوص تارة ويرفع من شأنها تارة أخري، فعوض عن أن يكشف عن مكامن التجديد، يكرس التقليد والتعود… والقصة القصيرة جدا ـ ان تَمَّ تداولها ـ بهذا المعني، لا تستطيع أن ترفع رأسها الي كبد السماء لتتجدد من الداخل، بل تنهار الي أنفاق مظلمة تضعها داخل أقانيم يألفها القاص ويتعود عليها. اذا فالتكنوقاص، يتجاوز كل ايمان قصصي مطلق، ويوظف التقنية لحظيا في انتظار البحث عن تقنيات متجددة أخري، فليست كل الأفكار تحكي بنفس التقنيات. ان جعل النفس طيعة لمسايرة قفزات الزمن، تجديد لأنفاس القصة القصيرة جدا… فأخطر شيء علي الابداع النكوص… نقرأ في التجارب العالمية، سيما في أمريكا اللاتينية، قصصا قصيرة جدا زادها المغامرة، اختصرت الحكي في كلمة أو كلمتين، وجعلت أبواب التأويل مشرعة للمغامرين… القصة القصيرة مغامرة ذهنية وسردية تمارس اغراء علي الكاتب خصوصا وأن الزمن الذي نعيشه قد بلغ من التعقيد ما لا ينفع معه نسق فلسفي أو باراديغم علمي للفهم… وبما أن القاص، في رأيي، عاشق للمغامرة كالفيلسوف، فاللحظة القصصية فرصة وجودية لالتقاط بعض من جزيئات ذلك التعقيد وتدوينه في تضاعيف قصة قصيرة جدا… ونكون بالتالي هنا أمام شذرات فلسفية قصصية تعالج جزءا من اشكاليات الانسان الراهن.شخصيا، أميل الي الشذرة القصصية للسبب الذي ذكرت آنفا، فالقاص لا يعيش اليقين كعالم الدين، ولا يتوهم الامساك بناصية القول كالخطيب، ولا يمتلك الحل الآني كالسياسي، ولا يري الكل مريضا كالطبيب… انه يشتغل علي المفارقات القصيرة، ويخلخل العتمات اللغوية، ويعانق أدغال القص الوحشية، ويخلق الكثافة في لحظات الفراغ ويعوضها بلحظات الامتلاء، ويخاطر في اللحظات العسيرة، يعانق النفوس الكسيرة والبرهات القلقة، يقبض علي التصورات الهاربة والأزمنة المنفلتة… القصة القصيرة جدا، قنبلة اذا لم يعرف حاملها طريقة التعامل معها، يفجرها في أية لحظة، والمشكلة ان فجرها وسط الأهالي! نغامر بضرب عنصر التجديد المهم في اللحظة القصة. مثلا، كثيرة هي النصوص القصصية التي لا نكاد نعثر فيها علي اللحظة القصصية داخل اللحظات الشعرية التي تكتنفها، مع العلم بأن شعرية القصة تختلف عن شعرية القصيدة… مهما اجتهدنا في الحجج التي تدعم تكسير الحدود الأجناسية. ان البعض يري أن هذا التطعيم يجدد دماء القصة القصيرة جدا، لكنه لا ينتبه الي أنه يضيع روح الشاعر فيه ويفتت نغم القصيدة الذي هو مبني علي الاستماع الدقيق لنبض الطبيعة (بمعناها الفلسفي)، وبالتالي لا يؤسس لشعرية القصة، ولا يحفظ للقصيدة جرسها، فالتجديد القصصي لا يعني التدمير الجمالي، بل صناعة الجمال… فالقصة القصيرة جدا مفتوحة علي آفاق الجمال، ما دام الجمال ينبع من الذات المتأملة القلقة التي تريد القبض علي لحظة باسقة من تلك اللحظات الطائشة.ہپہپہوفاء مليح ـ قاصة* ق. ق. جدا لون قصصي مؤقت وفوران منذور للانطفاءحينما نتحدث عن القصة القصيرة جدا، نتحدث عن القصة الومضة، القصة اللقطة، القصة الكبسولة، القصة البرقية الي غير ذلك من المصطلحات التي تعني القصر والسرعة في التعبير. يبدو من خلال مصطلح ق. ق. جدا أنها تتميز بخاصيتين أساسيتين وهما القصصية والقصر الشديد.. هذا اللون في كثير من الكتابات لا يتجاوز السطرين وربما يزيد في بعض الكتابات الي صفحة.يتضح من تعدد مفاهيم المصطلح تعدد الآراء وفتح باب النقاش علي مصراعيه لوضع مقاربة تحدد مفهوم المصطلح. استعمل مصطلح القصة القصيرة جدا ليدل علي:قصة لا تتجاوز ثلاثة أسطرقصة لا تتجاوز صفحة واحدةقصة لا تتجاوز الأربع صفحاتفما يطلق عليه قصة قصيرة جدا في الفترات الأخيرة القصة التي لا تتجاوز ثلاثة أسطر ويعلل كتاب هذا اللون القصصي بالسرعة التي أصبحت تميز ايقاع الحياة، فأصبحت أكثر الأجناس الأدبية استهلاكا لسهولة نشرها في منابر صحفية وأدبية بحيث تخصص لها مساحات تناسب حجمها الصغير. وتشترك مع القصة القصيرة في سمات منها الاقتصاد في اللغة والتكثيف والايحاء، مع اختلاف بسيط هو أن ق. ق. جدا أشد اختزالا وتكثيفا، حيث تصبح الكلمات لا تتجاوز عدد أصابع اليد.. فنجدها في الأمثال الشعبية، الحكم والنكت اذ تتقاطع مع هذه الأجناس الابداعية وتتداخل معها، لهذا لا يمكن أن نتحدث عن جنس مستقل بذاته وننسب لها سمة القصصية التي لا تتميز بها لأن شرط القصصية هو الحكاية ولغة الحكي. القصة القصيرة كجنس أدبي يتميز بكثافته ولغته المركزة والموحية، يمكن أن يتراوح حجمه بين الصفحة والأربع صفحات، يحقق شروط القصصية بما فيها روح الحكي والتكثيف. أما القصة ق. جدا التي لا تتجاوز الثلاثة أسطر فهل نجحت في تحقيق متعة روح القص والحكي؟…لذا أعتبر ق. ق. جدا لونا قصصيا مؤقتا وفورانا منذورا للانطفاء وتبقي القصة القصيرة الجنس الأدبي المستقل بذاته الذي يحقق شروط القص والتكثيف والترميز ومتعة الحكاية وشاعرية اللغة….ہپہپہابراهيم القهوايجي ـ ناقد* القصة القصيرة جدا.. الجنس الأدبي المناسب لهذا العصر بامتيازساهمت عدة عوامل في بلورة القصة القصيرة جدا، منها سرعة ايقاع التطور والتحول الذي عرفته المجتمعات العربية التي استلزمت البحث عن شكل تعبير جديد هو القصة القصيرة جدا، هذا فضلا عن عوامل أخري ليس هنا مكان استقصائها…لقد استطاعت القصة القصيرة جدا أن تحظي بموقع متميز بين باقي الأجناس الأدبية الأخري، كما أنها شكلت ظاهرة ملفتة للانتباه من ناحية مقروئيتها واقبال القراء علي التهامها، والمشهد القصصي المغربي يعج بأسماء كتاب هذا الجنس الذي تتالت اصداراته بشكل مطرد، ومع كل هذا الزخم ما تزال القصة القصيرة تسيل مدادا وتثير جدلا في المدونة السردية العربية…أري أن القصة القصيرة جدا جنس أدبي قائم الذات يسنده بناء فني خاص وتشكيل مميز.. وهو يستجيب لمتطلبات حياتنا السريعة التي تقتضي بدورها الاختصار في كل شيء..وما التكثيف والاختزال والايجاز والمفارقة و..الا انعكاس للحظتنا السريعة المتميزة بتعقد وتشابك تفاصيل وجودنا في ظل واقع افتراضي، وتزايد خطير لدور المعلومة والتقدم التقني الممعن في التطور..فحاجتنا للقصة القصيرة جدا، تبعا لذلك، ملحة جدا..ولا يسعني في هذه العجالة الا أن أكون متفائلا بمستقبل القصة القصيرة جدا انطلاقا مما يشهده حاضرها ومنجزها الحالي وتراكمها المتزايد في النشر هنا وهناك. أعتقد أنها ستترسخ أكثر فأكثر، لأنها ومضات سريعة أو ساندويتشات خفيفة ملائمة للحظتنا الهاربة بسرعة، مع العلم بأنها تنطوي علي أسئلة عميقة جدا… وسيزداد عدد المهتمين بها كتابة ونقدا وقراءة يوما بعد يوم.. ولعل وعي كتابها الجمالي وقدرتهم المعرفية واطلاعهم علي تجارب قصصية أخري ومهارتهم في سبك اللغة.. كل ذلك قمين بتبوئها مكانة سامقة في أدبنا…***القصة القصيرة جدا ليست بموجة عابرة بل هي صيغة جديدة من الخطابد. سعاد مسكين ـ باحثةمما لا شك فيه أن القصة القصيرة جدا جنس أدبي خاض غماره العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة في السنوات الأخيرة من هذا القرن. ومن المتعارف علي هذا الجنس أنه ظهر في أمريكا اللاتينية، وبزغت فيه أسماء لامعة من مثل: خوليو كورطاثار ، و خوان خوصي أريولا ، و خوليو طوري ، وآخرون. لكن هذا لا يمنع من وجود جذور أصيلة له في الأدب العربي القديم، اذ لا تختلف القصة القصيرة جدا في بنيتها ورؤاها عن بنية الخبر أو النكتة (أخبار الحمقي والمغفلين، وأخبار اللصوص، وأخبار العشاق، وأخبار البخلاء…)، بنية حاولت أن تقارب الذهنيات العربية المهمشة والمقموعة ببلاغة تتأسس علي الوعي الجمالي، وعلي التكثيف الصوري والرمزي. لا تخرج القصة القصيرة جدا اذن عن هذا الاطار، فقد جعلتها خصائصها البنيوية المتمثلة في : القصر والايجاز/ حضور المعني المقتضب / تفادي الجمل الطويلة / اجتناب الاطناب / ايحائية ورمزية المعني / تنوع النهاية /حضور عنصر الدهشة، غمازة، همازة، عبارة عن طلقة رصاص سريعة وهادفة قد تصيب الهدف (القارئ المفترض)، أو تطرحه أرضا قتيلا.لهذا يمكن القول ان القصة القصيرة جدا هي شكل من أشكال الكتابة لا يخرج عن أدبية النص السردي، شكل يتماشي مع متغيرات ومتطلبات الحياة الجديدة، فهو ليس نتاجا جديدا بل هو تطور لأشكال قديمة (النكتة، الخبر) واستمرار لأشكال حديثة (القصة القصيرة). ونعني بهذا القول أيضا أن القصة القصيرة جدا ليست بموجة عابرة (une mode) بل هي صيغة (un mode) جديدة من الخطاب تلتقط اللحظة، والحدث الومضة بكثافة لغوية، وبلاغة رمزية، تعبران عن الانسان العادي والهامشي عبر كتابة صادقة وبليغة كما عبر عنها الخبر في التراث قديما.ان الحديث عن القصة القصيرة جدا يدعونا أيضا الي الحديث عن شروط الكتابة فيه لأنه قد يغرر بالبعض ركوب صهوته أخذا بعين الاعتبار معياري الايجاز والتكثيف، لكن لا يعني ذلك السطحية والفراغ لأننا في بعض الأحيان قد نقرأ نصوصا مطروحة علي أعمدة الصحف والمجلات العربية لا ترقي الي مستوي هذا الجنس السردي، وأقل ما يمكن أن نصفها به ( خواطر، حكايات، ثرثرات…). لذلك نري من وجهة نظرنا أن المقبل علي الكتابة في هذا النمط من الأشكال السردية، قبل أن يكون مبدعا عليه أن يكون قارئا راكم العديد من النصوص العربية والأجنبية المنتمية الي هذا الجنس الأدبي، أو القريبة منه كالشعر والقصة القصيرة كي يتمكن من انتاج نص قصصي قصير جدا محكم السبك، ومبصوما بالجودة.ہپہپہعبد اللطيف النيلة ـ قاصـ سيتنامي الاهتمام بالقصة القصيرة جدا… لكن مخاضا عسيرا ينتظرهاكيف تلتقط في ومضة خصيبة صورة من صور الحياة؟ كيف تسرد القطرة، مثلا، تقلبات السماء أو نوايا الغيوم أو هواجس أرض أو حلم بقرة أو روح شخص يفكر في القطرة نفسها؟ ذلك سر/سحر القصة القصيرة جدا. فهي تقطر مادتها، في ايقاع سريع متوتر، لتصنع مجهرا نشرف منه علي قطعة من الحياة، فنري حركة فكرة عميقة، أو تشابك موقف بسيط، أو سيرة عاطفة، أو انكسار حلم، أو قفزة خيال، أو لا شعور حادثة… سرها/سحرها محبوك بخيوط التكثيف والايحاء، مستثمر للمفارقة والقلب والادهاش، ناهل من التناص والمحاكاة الساخرة… تتقدم الينا مستلهمة مزاج نكتة أو مثل أو حكمة، متقاطعة مع روح الشعر أو المنطق أو المقالة أو… والبياض الكثير الذي يتدلي تحت السواد القليل للقصة. ق. ج هو نداء لملء الفراغات واستخلاص الدفين، هو استنفار لاطلاق الشحنة المركزة في رؤوس اللغة النووية. علي المتلقي، اذن، أن ينشط الذوق والذاكرة والمخيلة… ليخلخل الكثيف، يوسع الضيق، ويفصل المجمل، كأن الصانع أكمل بناءه بأقل ما يمكن من مادة وصورة، لكنه أودع فيه طلبا لكمال أعلي، كمال يوجد بالقوة، ولن يصير وجودا بالفعل الا في حضرة قارئ خبير رهيف الذوق. ان الخصائص السالفة لا يمكن الا أن تغري القاص بمراودة القصة القصيرة جدا عن نفسها. لذلك أخذت تتسع دائرة الاهتمام بالقصة الق.ج من طرف عدد من القصاصين المغاربة وبعض المنشغلين بالقصة (بوجه خاص، مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، التي بذلت جهدا لافتا في احتضانها والتعريف بها وترجمتها). ويبدو لي أن هذا الاهتمام سيتنامي أكثر فأكثر، فالحاجة ملحة الي سرد يواكب الايقاع السريع الذي صار يسم عصر الطفرة التقنية، كما يستجيب الي ما يرد الي رأس القاص من أفكار وامضة وأحاسيس خاطفة وسيناريوهات ميكروسكوبية. واذا كانت القصة الق. ج تتمتع راهنا بمكانة متميزة في الأدب العالمي، لا سيما في أدب أمريكا اللاتينية أحد المختبرات النشيطة للقصة، فذلك سبب آخر يحرض علي ممارستها وانتشارها.يصعب، من ثم، اعتبار القصة الق.ج مجرد موجة عابرة لن تلبث أن تنحسر تاركة بحر السرد لقوارب القصة القصيرة وسفن الرواية. غير أن مخاضا عسيرا ينتظر القصة.ق.ج، في المشهد السردي المغربي، حتي تشارف ما أنجزته القصة القصيرة، كما وكيفا. هناك فعلا نصوص جميلة وعميقة، تأخذنا اليها بقوة، لكن ما أكثر الزبد. الجرم الصغير للقصة الق.ج يشجع علي اجتراحها، لكنه مدار صعوبتها بالذات: انه الفخ الفاغر مَكره لمن لا يعرف من أين تؤكل الكتف. أما النقد، الذي يفترض فيه أن يكشف قيمة وحدود وأفق ما تحقق، فما زال صوته خافتا ومحتشما، ربما عن اهمال أو كسل أو عدم اهتمام، أو ربما لأنه لم يستوعب بعد صدمة القصة. ق. ج.ستثمر شجرة القصة ق. ج أجمل فأجمل، اذا عمق القاص الرؤية وشحذ الأداة أكثر فأكثر، مستندا الي وعي نظري بخصوصيتها الجمالية. ولا بد، بموازاة ذلك، من حضور بناء وفاعل لصوت النقد.ہ ہ ہمحمد فاهي ـ قاصمستقبل ق ق جدا يتوقف علي وعي أصحابه برهانات هذا الشكل العميق والشعري بالنظر الي عوامل متعددة، فولادة القصة القصيرة جدا كان أمراً طبيعيا، هنالك من جهة، تراكمات التجريب في القصة المغربية التي تسارعت في السنوات الأخيرة ابداعا ودراسة، وهنالك الفورة التي عرفتها قصيدة النثر، ليس علي مستوي الاشكال الشعرية فحسب، بل علي مستوي ما يسمي وقتها بالتمرد علي الوصاية الشعرية، ولا شك أن القصة كانت تنصت الي كل الجدل الذي لم تثره بكل هذه الحدة، بقدر ما كانت جدارة النص حافزا أساسيا في الغالب.أعتقد ان الزرافة المشتعلة لأحمد بوزفور ظهرت في هذه الفترة لتقول: انه يمكن قراءة الذات والانصات للآخر بوعي جمالي وفكري مرهف.هنالك من جهة أخري متطلبات التواصل الرقمي التي تستدعي التعرف علي شبكة واسعة من الرموز ستؤثر لا محالة في الشكل القصصي، هذا دون اغفال التفاعل والحوار مع نصوص أجنبية أهمها القصة القصيرة جدا في أمريكا اللاتينية.* ان القصة القصيرة جدا تلخص سيرورة الترميز والتكثيف وبلاغة الاقتصاد سواء تلك التي تراكمت في القصة او تلك التي تفرضها متطلبات التواصل المعاصرة.* القصة ق جدا تقول أكثر مما تقوله القصة القصيرة مع خلاف ما يروج أحيانا في صفحات الجرائد…* مستقبل ق ق جدا يتوقف علي وعي أصحابه برهانات هذا الشكل العميق والشعري ، كما يتوقف علي اشتغال الدرس الأدبي برصد آلياته البلاغية، وظروف تشكله وشروط استمراره.* انني اكتب القصة القصيرة جدا، نشرت بعضها في مجموعتي الأولي، واشعر بجدارة هذا الشكل في اختيار زاوية النظر علي الأقل.* القصة ق جدا ومضة او شظية أو جزيء تتمثل تجزؤات العالم وتشظيه واغراقه في الراهن المفارق وكأنه يتمظهر علي شاشة هائلة.. فيها تتوسع حقول الهامش والمنسي، وتبرز التناقضات القاتلة أحيانا، والمضحكة أحيانا أخري، كما تمثل غربة الفرد وسط الآلة في عالم تسيره قوي قاهرة تستهدف نبضه الانساني وهويته الوطنية…ہپہپہالزهرة رميج ـ قاصةمن المعلوم أن القصة القصيرة جدا مارسها كتاب كثيرون في أمريكا اللاتينية قبل ظهور أول دراسة نقدية لهذا الجنس الأدبي. فالنقد دائما يأتي في بداية الأمر، بعد الابداع وليس قبله، أي أن التنظير لجنس أدبي لا يكون الا بناء علي المادة التي يوفرها المبدعون بتمردهم علي الأشكال المعروفة وخلق أشكال جديدة تدفع النقاد الي تأملها واستخلاص القواعد منها.ولهذا، فالاختلاف حول مصطلح هذا الجنس والتسميات المتعددة له (القصة القصيرة جدا ـ القصة الومضة ـ القصة اللوحة ـ القصة اللقطة…) ناجمة عن اختلاف طرق الكتابة وخصائصها وانفتاحها علي أجناس أدبية وفنون مختلفة وكذلك عن آراء بعض المبدعين الذين يمارسون الي جانب الابداع التنظير النقدي لهذا الجنس الأدبي.ولعل انفتاح هذا الجنس الأدبي علي أجناس أخري هو ما جعل القراء والنقاد يختلفون حول قيمته وأهميته ومدي استقلاليته كجنس له خصوصياته المميزة. ويري البعض فيه مجرد تقليد أعمي للكتاب الغربيين وموضة عابرة سرعان ما ينقضي عمرها الافتراضي.غير أني أري أن الشروط الموضوعية التي أفرزت جنس القصة القصيرة جدا في أمريكا اللاتينية هي نفسها التي أفرزت هذا الجنس في المغرب. فوتيرة الحياة السريعة واكراهات الصحافة والغزو الالكتروني والميل الي كل ما هو سريع وخفيف، كلها عناصر ساهمت في الاقبال علي هذا النوع السردي. كما أنها ليست غريبة علي نمط التفكير العربي الميال الي الايجاز والمحتفي بالمثل والنكتة. لذلك، أعتقد أن القصة القصيرة جدا سائرة في طريق التطور وأن الاقبال عليها يتزايد بتزايد الاقبال علي القصة القصيرة التي عرفت نوعا من الازدهار في أواخر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة.غير أن ما يجب التنبيه اليه، هو أن القصة القصيرة جدا ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض. فهي ليست مجرد حكاية قصيرة جدا، وانما هي عمل ابداعي يحتاج الي الكثير من التكثيف والتشذيب والرمز والايحاء… ذلك أن قوة القصة لا تكمن في الايجاز وحده وانما في الأثر الذي تخلفه في القارئ سواء ارتبط ذلك بالزمن أو الدهشة أو الصدمة أو النهاية المفاجئة التي يطلق عليها النقاد ضربة السيف النهائية أو بتوظيف الكلمات ذات الرمزية العالية أو التناص الذي يعول علي فهم القارئ الذكي وثقافته الواسعة.فهذا الشكل السردي قد يبدو سهلا وفي متناول الجميع، غير أنه في اعتقادي من أصعب أنواع السرد علي الاطلاق، لأنه يحتاج الي مهارة عالية ان علي مستوي البناء القصصي أو علي مستوي الدقة اللغوية.1 ـ ندف النار ـ مختارات من القصة القصيرة جدا في المغرب واسبانيا ـ سلسلة ترجمات ـ مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى