المستشار بهاء المري - مفهوم التكافؤ في الزواج وأحكام القضاء.. "قضية زواج أقامت مصر وأقعدتها"

إنها قضية زواج لا غير! ومع ذلك فقد أقامت مصر وأقعدتها، وقسمت الرأي العام والساسة، وأهل الرأي، وعامة الناس، وكانت محل كثير من المناورات السياسية الدقيقة التي دارت من وراء الستار، ذلك أنها كانت صدمة عنيفة للناس في الكثير من معتقداتهم القديمة عن "الشرف" و "الحَسَب والنسَب!" وما إليها من أخلاق اجتماعية راسخة، وضعتها هذه القضية موضع التجربة والتفسير الجديد! هي قضية زواج الشيخ علي يوسف من صفية السادة سنة 1904.
كما أدت هذه القضية إلى أزمة سياسية بين الحكومة والقضاء، وصلت إلى حد تهديد قاضي القضاة بإغلاق المحاكم.
وأثارت انقسام الرأي العام إلى ما بين مؤيد ومعارض لحق المرأة الرشيدة في تزويج نفسها زواجًا شرعيًا ممن اختارته زوجًا لها بصرف النظر عن معارضة ولي أمرها، وما بين مؤيد ومعارض لمفهوم التكافؤ في الزواج.
"ذلك أن الشيخ علي يوسف، وهو رجل كهل، تزوج بنتًا بلغت سن الرشد، وبرضاها دون رضاء أبيها.
فجلسات المحاكم وما دار فيها من مرافعات تطلع على الناس في الجرائد، والشعراء يضعون المقطوعات الظريفة، والجرائد الهزلية تنشر النُكت اللاذعة، والباحثون يبحثون في سلسلة نسَب الشيخ علي يوسف، وشُغِل بها الناس من الخديوي إلى البائع الجوال.
- من هو الشيخ علي يوسف:
الشيخ علي يوسف، عَلم خفَق في سماء مصر مَطلع القرن العشرين، كان ملء السمع والأبصار، والبطل المِغوار في حقل السياسة والأدب والصحافة، والنجم الساطع في دنيا العِشق والغرام، واكتسب من كل ذلك مجدًا ورفعة إلى مَصاف العِلية المرموقين وحقق ما كان يصبوا إليه من جاه وثراء ونفوذ، ثم إذا به فجأة، يُبدد كل هذا المجد، ويعتزل الأضواء والشهرة والصَّخَب، ويسعى إلى وظيفة شيخ طريقة صوفية.
وُلد بقرية بلصفورة بمحافظة سوهاج عام 1863 م لأسرة فقيرة ومات والده وهو طفل، فارتحل مع أمّه إلى بلدتها بَني عدي بمحافظة أسيوط، وهنالك التحق بكتاب القرية وحفظ القرآن الكريم وهو لا يزال في التاسعة من عمره، وفي بَني عدي تلقى العلم على يد أستاذه الشيخ حسن الهواري، وعندما أتم التاسعة عشرة من عمره رحل إلى القاهرة لإتمام دراسته بالأزهر الشريف، فأخذ ينهل من علومه الشرعية، وانكبَّ على كتب التاريخ والسيرة، وفي تلك الأثناء استهواه الشعر فأخذ ينظمه إلى أن أصدر أول ديوان بعنوان "نسيم البحر".
ترك الشيخ على يوسف الأزهر واتجه إلى الصحافة، فأخذ يكتب مقالات ويرسلها إلى بعض الصحف المصرية في ذلك الوقت، وسرعان ما أصدر مجلة أسماها "الآداب الأسبوعية" ولاقت رواجًا كبيرًا ولكن قلة الإمكانيات وقفت حائلاً دون استمرارها، فأُغلقت.
لكن سرعان ما عاد الشيخ علي يوسف يُفكر في إصدار جريدة يومية سياسية اجتماعية، فأقرضه صديقه الشيخ أحمد ماضي مائة جنيه، وصدر العدد الأول من "المُؤيد" في ديسمبر 1889 وأسماها المُؤيد لتكون مُؤَيَدة من الله ومن الناس، وأحدث صدور الصحيفة ضجة كبرى.
وكانت المؤيد ميدانًا لتسابق كبار الكتاب بأقلامهم على صفحاتها، فكان يحررها كبار رجال الأدب والسياسة، وقادة الرأي والفكر، أمثال الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وقاسم أمين، وتوفيق البكري، والمويلحي، وحفني ناصف، ومصطفى كامل، وحافظ إبراهيم.
وكان الشيخ علي يوسف بين كل هؤلاء صاحب قلم وأسلوب سياسي مُتفرِّد، وكان إصداره للمؤيد نابعًا من إيمانه بضرورة أن يكون للمصريين صوتًا صحفيًا معارضًا للاحتلال الإنجليزي، خاصة وأنَّ سلطات الاحتلال أصدرت عن بعض السوريين صحيفة "المُقطم" للدفاع عن سياستها، فأخذت المؤيد على عاتقها المطالبة بتحقيق الجلاء، والمطالبة بمجلس نيابي مستقل، كما هاجم اللورد كرومر بعد خطاب الوداع الذي هاجم فيه اللورد مصر.
وحُوكم الشيخ علي يوسف بسبب مقالاته السياسية مرتين، المرة الأولى عندما نشر بالمؤيد برقية سرية مُرسلة من اللورد "كتشنر" قائد الحملة بالسودان إلى وزير الحربية بالقاهرة، يصف فيها حالة الجيش، وما أصاب أفراده من وباء فتَّاك، ثم حُوكم للمرة الثانية عندما نَشر كتاب لعبد الله النديم بعنوان "المسامير".
"وكان لنشر البرقيات دوي كبير، وانطلق الانجليز يبحثون وراء المسئول عن تسريب هذه البرقية حتى عثروا عليه، موظف وطني صغير يعمل في مكتب تلغراف القاهرة اسمه "توفيق أفندي كيرلس" كان ينقل إلى الشيخ علي يوسف نص البرقيات.
وكان وكيل النيابة المُحقق هو "محمد فريد" فلم يلبث أن حَفظ القضية "لعدم كفاية الأدلة" وثار الانجليز من جديد، وأصدروا أوامرهم بنقل وكيل النيابة محمد فريد إلى الصعيد فاستقال وانضم إلى مصطفى كامل، وأُعيد التحقيق من جديد وقُدِّم علي يوسف وتوفيق كيرلس للمحاكمة.
وكما كان علي يوسف أول مصري صميم يملك جريدة يومية كبرى، كذلك كان أول صحفي يصل بقلمه إلى مركز أدبي رفيع في الدولة، فقد توثقت صلاته بأكبر الشخصيات المصرية المعاصرة، واتصلت أسبابه بعد ذلك بالخديوي عباس الثاني، ثم بالخليفة التركي في القسطنطينية، وازدان صدره بأرفع أوسمة الدولة ونياشينها، وأصبح رجلاً مرموقًا مرغوبًا، إلى جانب كونه صاحب قلم جَبار، يغرسه كل صباح في صدر الإنجليز.
- وقائع قضية الزواج:
كان من أهم حوادث عام 1904 قضية زواج صاحب المؤيد، ففي أواخر ربيع الثاني سنة 1322 تم عقد قران السيدة صفية السادات على الشيخ علي يوسف بسراي الخُرنفش بمنزل السيد محمد توفيق البكري.
- لقاء الشيخ علي يوسف بالشيخ السادات:
كان مكتب الشيخ علي يوسف باشا في صحيفة الوفد أشبه بمنتدى فكري يتردد عليه وجوه القوم من رجال الدين والسياسة والأدب، وكان من أبرز هؤلاء السيد/ عبد الخالق السادات عميد بيت السادة الوفائية، وهو أعرق البيوت المصرية وينتهي نسبهم إلى الحَسن السِّبط ابن الإمام عليّ كرم الله وجهه، واعتاد السادات أن يَصحب معه إلى المؤيد صغرى كريماته (صفية) وكانت صبية مليحة، على شيء من البدانة التي كانت من سمات الجمال في ذلك العصر وراقت الصَّبية في عين الشيخ علي وصادَفت من نفسه هوى.
كان ذلك في عام 1900 "وكان الشيخ علي يوسف في السابعة والثلاثين من عمره، وكانت صفية في الرابعة عشرة من عمرها، وتتمتع بجمال ذلك الزمان، أي أنها كانت تزن حوالي مائة كيلو.
ذهب الشيخ على يوسف إلى الشيخ السادات يطلب يد ابنته صفية، ووافق الشيخ السادات على الخِطبة مع تأجيل الزواج لأنها لم تزل صغيرة، وظل الشيخ السادات يُماطل في إتمام الزواج لمدة أربع سنوات، وفي عام 1904 كانت صفية في الثامنة عشرة من عمرها والشيخ في الواحدة والأربعين من عمره.
وكان السيد/ توفيق البكري، نقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الصوفية على رأس البيت الآخر من بيوت العِلية الأشراف، هو بيت السادة البكريين الذين ينتهي نسبهم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان البيتان الكريمان البكري والوفائي يتناوبان زعامة نقابة الأشراف، وتزوج توفيق من كُبرى بنات الشيخ السادات (حفيظة) وزَوج الوُسطى (أسماء) من ابن أخيه عبد الحميد البكري حتى تتوافر له وراثة الزعامة، وبقيَت الصُغرى (صفية) لتكون من نصيب الشيخ علي يوسف، ولتكون بطلة القصة التي هزت المجتمع المصري، وانقسم بسببها الرأي العام بين مُناصر للتقاليد والآداب الاجتماعية، ومؤيد للتحرر والخروج على الأعراف الموروثة، ولم يكن غريبًا أن تكون هذه القصة مجالاً للصراع بين القُوى السياسية الكبرى: المُعتمد البريطاني كرومر، والخديوي عباس، والزعيم الشاب مصطفى كامل، وكل الأحزاب السياسية، فضلاً عن المؤسسات الدينية التي هبت للدفاع عن حرمة الشرع.
"لجأ الشيخ علي يوسف إلى صديقه محمد توفيق البكري نقيب الأشراف، وكان علي يوسف قد ساعده في القضية المعروفة "بقضية السُّفهاء" إذ تدخل لدى الخديوي لمنع اتهام البكري بالاشتراك في وضع قصيدة الهجاء في شخص الخديوي والتي نشرتها جريدة الصاعقة.
وقام الشيخ البكري بوضع خطة للإتمام الزواج في بيته، وبحضور عدد كبير من العُلماء، حيث تولى الوكالة عن صفية أحد شيوخ الأزهر المعروفين وهو الشيخ حسن السقا، أي أن العقد كان بشكل شرعي، وكان الهدف من هذه الخطة هو وضع الشيخ السادات أمام الأمر الواقع.
وفي اليوم التالي - 16 يوليو 1904 - علم الشيخ السادات بنبأ زواج ابنته من خلال جريدة المقطم التي نَشرت الخَبر دون أن تشير إلى مكان عقد القران، لكي تُلقي على النبأ جوًا من الريبة، فقدم السادات بلاغًا إلى النيابة يتهم فيه الشيخ علي يوسف بأنه غَرَّر بابنته، وبحثت النيابة الموضوع فوجدت أن صفية قد بلغت سن الرشد فمن حقها شرعًا أن تُزوج نفسها، وقد حضر عقد القران عدد كبير من أقارب العروسين فليس هناك أية شبهة يمكن أن يُستنتج منها أن الشيخ علي يوسف قد غرَّر بها، وحفظت النيابة البلاغ، وشهد على العقد زوجَا أختيها توفيق وعبد الحميد البكري.
- الشيخ السادات يرفع دعوى تفريق:
"رفع الشيخ عبد الخالق السادات دعوى بالتفريق بين كريمته والشيخ علي يوسف لعدم أهليته لها، وتَحدد لذلك جلسة 25 يوليو 1904 بمحكمة مصر الشرعية.
بعد عشرة أيام فقط من إعلان زواج الشيخ علي يوسف وصفية السادات بدأت محكمة مصر الشرعية في نظر الدعوى التي رَفعها عبد الخالق السادات طالبًا فسخ العقد لانعدام شرط الكفاءة بين الزوجين، واستند الأب إلى أن الشيخ علي يوسف - وإن كان صحفيًا مرموقًا وأديبًا مشهورًا وزعيمًا لحزب سياسي وأحد المقربين من أمير البلاد - فإنه يفتقر إلى النَسَب الرفيع الذي يؤهله للزواج من إحدى سليلات البيت النبوي، فالشيخ عليّ من العامة، الذين لا يحق لهم التطلع إلى مصاهرة الأشراف.
- وجهة نظر الرأي العام:
في يوم نظر القضية غصَّت ساحة المحكمة الشرعية بباب الخلق بأشتات من البشر من شَتى الطبقات والثقافات، ليشهدوا وقائع هذه القضية التي
تَمس بعض مُقدسات المصريين في احترام العلاقات الأسرية، ومراعاة الآداب الاجتماعية والتقاليد الموروثة.
وكانت الكثرة الغالبة من الرأي العام تقف في صف الأب المنكوب ضد الشيخ الذي أغوى فتاة شريفة وحرَّضها على التمرُّد والخروج على الآداب، فتزوجت بغير رضاء والدها، بينما كانت القلة المثقفة المُتحررة من التقاليد تناصر الشيخ على يوسف الذي صنع مَجدًا لم يستمده من عراقة الحسَب والنَّسَب، ولكن من شرف العمل والجهد والكفاح، ولا ترى هذه الفئة عيبًا في خروج فتاة على ولاية أبيها لتتزوج الرجل الذي أحبته.
- من الوجهة السياسية:
كان الصراع بين جبهة التقاليد والأخلاق، وجبهة التحرُّر والانفلات، يُخفي وراءه صراعًا أشد وأعتى بين القُوى السياسية الجبارة التي وقفت وراء الكواليس تؤيد طرفًا من أطراف القضية، وتسعى لتصفية حسابات سياسية لا علاقة لها بجوهر القضية.
فمصطفى كامل وجدها فرصة ذهبية للانتقام من غريمه اللدود على يوسف، الذي كان دائم التهجم على الزعيم الشاب واتهامه بالرعونة والتطرف، وانهالت مَعاول مصطفى كامل في "اللواء" على رأس صاحب "المؤيد" وزعيم حزب الإصلاح، ولكنه يقصد الخديوي عباس الذي نفَض يده من مُعسكر الحركة الوطنية وانحاز نهائيًا إلى صف الاحتلال بعد توقيع الاتفاق الوُدي بين انجلترا وفرنسا في أبريل 1904.
وكان الخديوي يَعرف أنه المقصود بالهجوم، فوجد نفسه مضطرًا إلى الوقوف إلى جانب رجله في مِحنته، ولم يتخلف كرومر عن المشاركة في إذكاء حُمَّى الصراع بين أطراف القضية، فاختار الوقوف إلى جانب علي يوسف لسَبق وقوف الشيخ موقف المؤيد من الانجليز.
- المحكمة:
نُظرت الدعوى يوم 25 يوليو 1904 أمام القاضي الشيخ أحمد أبو خطوة، شيخ أزهري، عُرف بتزمته الشديد، وحضر عن الشيخ علي يوسف، حسن بك صبري المحامي، وعن زوجة الشيخ (السيدة صفية) الشيخ محمد عز العرب بك، وعن الشيخ السادات الشيخ عثمان الفندي.
ازدحمت القاعة ازدحامًا لم تعرف له المحاكم الشرعية له مثيلاً قَط، وفي الجلسة الأولى، طلب محامي الزوج حسن صبري باشا (رئيس الوزراء فيما بعد والذي مات أثناء إلقائه خطاب العَرش سنة 1940) التأجيل حتى يتمكن من الاطلاع على القضية، فانبرى له الشيخ عثمان الفندي محامي السادات قائلاً: إذا رأت المحكمة التأجيل فلتأمر بالحيلولة بين الزوجين إلى أن يبدأ النظر في الموضوع، فأمر القاضي الشيخ أحمد أبو خطوة بذلك، وتقبلت الجماهير المُكتظة في ساحة المحكمة قرار القاضي بالهتاف والتهليل، بينما وقع القرار على الشيخ علي يوسف وقوع الصاعقة، وسافر إلى الإسكندرية ليُدبر الأمر مع ولاة الأمر الذين كانوا يقضون هناك شهور الصيف هناك.
- موقف القضاء من تصرفات الحكومة:
نَشرت جريدة "المقطم" الناطقة باسم الاحتلال قائلة: بعد اجتماع الشيخ علي مع بطرس غالي باشا وزير الحقانية، فإنَّ أمر الحيلولة بين الزوجين لن يُنفذ، فانبرت لها "اللواء" بسيل من المقالات تُحذر فيها من تدخل السلطات في شئون القضاء، وتَستفز الرأي العام للدفاع عن حُرمة الشرع وكرامة التقاليد واستقلال القضاء.
- إضراب القضاة:
كان نظر هذه القضية امتحانًا رائعًا لاستقلال القضاء الشرعي، فالسلطة ممثلة في الخديوي عباس، واللورد كرومر، كانت تُساند الشيخ علي يوسف لكي يَصدر حكمًا في مصلحته ويرد له اعتباره.
وفي صباح يوم 27 يوليو 1904 اتصل الشيخ عبد الرحمن الأفندي قاضي قضاة مصر بمحافظ القاهرة، وسأله عما تم بشأن تنفيذ أمر الحيلولة، فأجابه المحافظ بأن الأوراق لا تزال معروضة على رئيس الوزراء ووزير الداخلية مصطفى باشا فهمي بالإسكندرية، عندئذ أدرك قاضي القضاة أن الحكومة ماضية في تَعويق أحكام القضاء وتعطيل قرار الحيلولة، فاتصل على الفور بالقاضي الشيخ أحمد أبو خطوة وطلب منه أن يذهب إلى قاعة المحكمة وينتظر منه كتابًا يقرؤه في الجلسة عند افتتاحها، واتفق الرجلان على أن يَتخذا مع الحكومة إجراءً يُعلمها أن حكم القاضي واجب الاحترام، وأنَّ القضاء يجب أن يكون بمنأى عن تدخلات السياسة وشئون الحكم.
وعند بدء الجلسة اتخذ الشيخ أبو خطوة موقعه على المنصة دون أن يتكلم، وظلت الجماهير تترقب بلهفة انجلاء الموقف، ولم يكن يُسمع سوى وجيب القلوب يَتردد في القاعة وقد خيم عليها صمت رهيب، ومرت فترة كأنها دهر حتى تلقي الشيخ أبو خطوة ظرفًا يحتوي على رسالة قاضي القضاة ففض الظرف وقرأ الرسالة على الجمهور، وكانت تتضمن قرارًا صريحًا بأن تتوقف جميع محاكم مصر الشرعية عن نظر القضايا المعروضة عليها إذا لم تلتزم الحكومة بتنفيذ حكم القضاء واحترام قراراته، فكانت أول دعوة إلى الإضراب العام في تاريخ القضاء المصري.
ولم يكد الشيخ أبو خطوة يعلن قرار الإضراب العام، حتى ضجت القاعة بالهتاف بحياة القضاء واستقلاله، وخرجت الجماهير إلى ميدان باب الخلق وقد اشتعلت حماستها، فأحاطت بمبنى المحافظة الملاصق لمبنى المحكمة تعبيرًا عن سخطها لتدخل السلطات الحاكمة في شئون القضاء.
- رد فعل الحكومة:
اجتمع مجلس الوزراء على الفور وأصدر بيانًا أعلن فيه التزامه بتنفيذ قرار الحيلولة، واضطرت الدولة أن تتراجع أمام سطوة شيخين أزهريين لا يملكان من مظاهر القوة سوى شجاعة القلب، ويقظة الضمير، والتمسك بكرامة القضاء.
- تنفيذ قرار الحيلولة بين الزوجين وتوابعه:
"تم الاتفاق على أن تُغادر صفية بيت الزوجية لتُقيم عند رجل مُؤتمَن هو الشيخ الرافعي، وقبلت صفية هذا الحل، وانتقلت بالفعل إلى بيت الرافعي، ولكن ظلت الاتصالات مُستمرة بينها وبين زوجها عبر رسائل تفوح عشقًا وهيامًا.
وكان لدى الشيخ علي خادمة أوروبية تتولى نقل الرسائل بين الزوجين العاشقين، وتَسربَّت أنباء الخادمة والرسائل إلى الصحف المعادية للشيخ علي، فلم تتحرَّج من نشرها في إطار الحملة المسعورة لتجريح الزوجين وإحراج الشيخ الرافعي، وزادت الصحف بأنَّ الشيخ علي نفسه يتسلل في الهزيع الأخير من الليل إلى بيت الرافعي ويختلي بزوجته صفية، ثم ينسحب عائدًا إلى بيته قبل أن يبزغ الفجر.
وثار الشيخ الرافعي وكتب إلى قاضي القضاة طالبا إخراج صفية من بيته وإيداعها بيت مُفتي الديار المصرية الشيخ حسونة النواوي (والد عبد الخالق حسونة الأمين العام السابق للجامعة العربية) والذي تدخل للتوفيق بين الأطراف وتعهدت صفية بعدم استقبال الخادمة.
- وقائع نظر موضوع الدعوى:
في يوم أول أغسطس عقدت المحكمة الشرعية جلستها للنظر في القضية، وبدأت باستجواب الشهود.
- شهود الشيخ السادات:
"كان على السادات أن يُثبت أمرين ليكسب القضية، أنَّ نسَب الشيخ علي يوسف لا يُوازي نسبه، وأنَّ حِرفة الشيخ علي يوسف حرفة غير شريفة.
- وجاء محامي الشيخ السادات بعشرات الشهود: وتسأل المحكمة بعضهم:
س: ما هو نسَب السادات؟
ج: هو فلان بن فلان حتى يصل إلى محمد بن إدريس الذي كان خليفة على بلاد المغرب منذ قرون، ثم إلى فاطمة الزهراء، ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.
س: ولماذا تَحفظ هذا النسب الطويل؟
ج: للتبرك به.
س: ما هو نسب علي يوسف؟
ج: لا أعرف.
س: هل بيت يوسف له ما لبيت السادات من العِلم والمكارم؟
ج: لا.
س: هل فيه ما في بيت السادات من العِز؟
ج: لا.
س: هل أصول العِلم والتقوى في بيت يوسف قديمة؟
ج: لا والشيخ علي يوسف "وضيع" لأني رأيته يومًا يقف في إحدى المطابع ويُصحح ديوانًا من الشعر من تأليفه، إذ لا يفعل ذلك إلا عديمو الأصل.
- وتسأل المحكمة حسن صبري محامي الشيخ علي يوسف
س: هل فيما اتخذه الشيخ علي في هذه الدعوى ما يتفق مع الفضائل والآداب الإسلامية والعادات القومية؟
ج: إننا نتقاضى قضاءً شرعيًا نظاميًا لا قضاءً أدبيًا.
س: ما الدليل على عِلم الشيخ علي يوسف؟
ج: إنه درس كتب الدين في الأزهر، وكاد أن يتخرج للتدريس فيه، ولكنه آثر صناعة الأقلام، فعمل في الصحافة.
- مرافعة الشيخ علي الفندي محامي الشيخ السادات:
- قال الشيخ الفندي المحامي:
إنَّ نسَب مُوكلي يرجع إلى أكثر من ألف سنة، في حين أنَّ الشيخ علي يوسف "أعجمي" ليس له نسَب معروف في الإسلام إلا "يوسف" فقط، أي أبوه! وهو نشأ في قرية حقيرة جدا تدعى بلصفورة كل أهلها أعاجم! والقاعدة أن سكان مصر كلهم أعاجم ما عدا الأُسَر القليلة جدا، المعروفة النسَب مثل: الوفائية والسادات والبكري!
إن موكلي يعيش على أملاك واسعة، تركها له آباؤه الأماجد، أما الشيخ علي فهو يضطر إلى العمل لكسب رزقه! ويحترف مهنة حقيرة هي الصحافة! حِرفة الصحافة في ذاتها دنيئة ويُحرمها الدين الإسلامي! لأنها تقوم على الجاسوسية والإشاعة وكشف الأسرار، وهذا مَنهي عنه شرعا!.
"فالصحافة صناعة لا تُشرُّفَ بشرف استعمالها، وحيث إن حرية الصحافة التي نسَبها المدعي عليه لنفسه قسمان: قسم يبحث في علوم وفنون مخصوصة، وهي المجلات غير اليومية، وهذه شرفها بشرف ما يُبحث فيه، وهذه الصحافة لا يدَّعيها الشيخ علي يوسف لنفسه، وقسم لا يختص بموضوع مخصوص وهي الجرائد اليومية، ووظيفتها إرشاد من تتكون منهم المملكة من الأفراد والهيئات والحكومة، وهذه الصحافة جليلة جدا، ولها أثر في رُقي المملكة من ناحيتيها الداخلية والخارجية، ويجب أن يتوفر في صاحبها أعلى أنواع الثقافة الاجتماعية والخُلقية والسياسية، كما يجب أن يكون على أعلى قدر من شرف النفس ونُبل الضمير، وأن يكون من أشد الناس محافظة على الكمالات والآداب، حتى يمكنه أن ينفع بنصحه، ويجمع الناس إلى رأيه، فضلا عن وجوب علمه بالسياسة الداخلية والخارجية.
والمدعي عليه لا يمكنه أن يدعي لنفسه هذه الصحافة، وذلك لتقلبه في المبادئ لغير سبب، وتعرضه للشخصيات في ثوب المصالح العامة، وسكوته عن بعض ما يلزم الكلام فيه لأغراض بعض من يهمه رضاؤهم، وكسرة أضراره، وهو يدعي أنه يريد النفع مما هو معروف عنه، ولا نريد أن نعدو ذلك، وكفى بهذه القضية وحدها دليلا عليه.
- وأضاف االشيخ الفندي المحامي:
وعلى ذلك فالمدعي عليه ليس مشتغلاً بالصحافة، قائمًا بها، وإنما هو مُشتغل بشيء يُشبهها لأغراضه، مُلبسًا إياها ثوب الإرشاد والمصلحة العامة، وهذا اشتغال بأخَس الحِرف وأدنسها، وعلى ذلك فلا يكون محترفًا الصحافة، وإنما هو مُحترف حِرفة أخرى دنيئة.
- الحكم:
أصدر القاضي أبو خطوة حكمه بعدم صحة العقد والتفريق بين الزوجين، وقال في حكمه إن فقر علي يوسف في بدئه وإن زال عنه الآن باكتساب الغِنى، إلا أن عاره لا يزول عنه!
استأنف الشيخ علي يوسف، فهلل الشعب لهذا الحكم، ونظر الناس إليه على أنه انتصار للأخلاق، والتقاليد والعادات.
- مرافعة الأستاذ حسن صبري المحامي عن الشيخ علي يوسف في الاستئناف:
في محكمة الاستئناف، قرأ محامي الشيخ علي يوسف قول أبي خطوة: "الثراء اللاحق لا يَمحو عن صاحبه الفقر السابق" ثم صرخ من أعماقه:
أين هي النصوص التي تقول إنَّ الفقر السابق يبقى عارًا على صاحبه مهما نال بعد ذلك من الغِنى والمال والجاه؟
إن القائل بذلك يريد أن يُسجل الانحطاط على الجنس البشري كله، لأن الأصل في الإنسان الفقر، والغِنى طارئ عليه، وأساس الغِنى الجد والعمل، ولو عَلمَ الإنسان الفقير الذي توفرت في غريزته بواعث الهمة، وانبعثت نفسه للعمل، أنَّ عار فقره سَيبقى له ولأولاده من بعده وصمة يُعيَّر بها حتى من الكسولين الخاملين ممَّن رزقهم الله ميراثًا، أو جرت عليهم صدقات وقف قديم، ما انبعثت نفسه لعمل كبير!
- حكم الاستئناف:
جاء حكم الاستئناف مؤيدًا حكم محكمة أول درجة الصادر بالتفريق بين الزوجين، وبعد صدور هذا الحكم، وافق الشيخ السادات بعد مَساعي ووساطات بينه وبين الشيخ علي يوسف، على زواج ابنته من علي يوسف بعقد جديد.
ولما مات سنة 1913 كانت زوجته ما تزال شابة، فعاشت بعده ما يَقرب من ثلاثين سنة، وأحبت الممثل المعروف زكي عكاشة وتزوجته!
- الشاعر حافظ إبراهيم يتأثر بأحداث القضية:
ـ تأثر الشاعر حافظ إبراهيم بما أثارته القضية من تباين في الرأي بين الناس فكتب قصيدة يسجل فيها حزنه لما جرى، مما جاء فيها:
حَطَّمتِ اليَراع فلا تَعجَبي = وعِفْتِ البيانَ فلا تَغضبي
فما أنتِ يا مصر دار الأديب! = ولا أنتِ بالبلد الطيبِ
وكم ذا بمصر من المُضحكات = كما قال فيها أبو الطيبِ
وقالوا "المؤيد" في غمرة = رماه بها الطمع الأشعبي
دعاه الغَرام بسِن الكهول = فجُن جنونًا ببنت النبي!
فنادَى رجالٌ بإسقاطه = وقالوا تلوَّن في المَشرب
وزكَّى "أبو خطوة" قولهم = بحكم أشد من المَضربِ
فيا أمَّة ضاق عن وصفها = جِنان المُفوَّه والأخطبِ
تضيع الحقيقة ما بيننا = ويُصلِّي البريء مع المُذنب
ويُهضَم فينا الإمام الحكيم = ويُكرم فينا الجهول الغبي!!




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- المراجع:
- أحمد بهاء الدين: أيام لها تاريخ، دار الشروق الطبعة الثالثة 1991.
- أحمد أمين: قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، مؤسسة هنداوي للثقافة.
- جمال بدوي: كان وأخواتها، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 1986 كتاب جريدة الوفد.
- محمد صادق: الموسوعة الذهبية للأعلام
- عمالقة من صعيد مصر، مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع بالقاهرة 1998.
- أحمد شفيق باشا: مذكراتي في نصف قرن، الجزء الثاني، مطبعة مصر 1934.
- لمعي المطيعي: موسوعة نساء ورجال من مصر، دار الشروق، الطبعة الأولى 2003.
- د. عبد اللطبف حمزة. أدب المقالة الصحفية في مصر المجلد الثاني، الجزء الرابع، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995.
(*) محمد توفيق البكري، ينتهي نسبه إلى سيدنا أبي بكر الصديق، ولد سنة 1870 في جزيرة الروضة بالقاهرة، ونشأ بها، وقرأ القرآن ومبادئ العلوم في بيت والده على أساتذة خصوصيين، ثم التحق بمدرسة أنجال الخديوي توفيق، وفي سنة 1885 أقفلت المدرسة، وأتم علومه بالمنزل، وفي سنة 1889 تقدم لامتحان شهادة البكالوريا ونالها بتفوق، وقرأ العلوم الدينية والشرعية على الشيخ الإمبابي شيخ الأزهر وأجازه بشهادة، وفي سنة 1892 تولى رئاسة المشيخة البكرية، ومشيخة المشايخ الصوفية، ونقابة الأشراف، وفي سنة 1895 استقال من نقابة الأشراف، وكان من المشتغلين بالحركة الوطنية، وراسل جريدة التيمس سنة 1983 م ولما زار ولي عهد إنجلترا مصر سنة 1906، أرسل إليه على صفحات جريدة المؤيد خطابًا مفتوحًا ذكر له فيه القضية المصرية، وتوفي سنة 1932 م بالقاهرة (زكي محمد مجاهد: الأعلام الشرقية، الجزء الثاني، دار الغرب اللبناني، بيروت، لبنان الجزء الثاني، الطبعة الثانية 1963.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى