رواية ( أنا خير منه ) للروائي المستشار بهاء المري هي واحدة من أهم الروايات التي خرجت حديثًا لمعالجة فكر الإرهاب المعاصر على كافة أشكاله وألوانه وتعقيداته ، وبلغة جديدة نستحق أن نسمها ونصفها بكونها لغة ( هادئة ) في معالجة درامية سلسة ومنطقية ومتدرجة على درجة من درجات الوعي والحكمة والرصانة ، رغم أنها تعالج قضايا محورية بالغة التعقيد والتداخل والتشابك ، وظني أن تحكم الإبداع في بناء لغة العمل ، وتخريجه في مثل هذه اللغة الهادئة والوصافة بالدرجة الأولى إنما جاء لهدف موضوعي ومقصود ألا وهو امتصاص الصدمات التي يزجي بها العمل طيلة فصوله ، خاصة أننا أمام عمل يجمع ثلاثة أطراف من أطراف البنية الموضوعية والفنية في الوقت نفسه ، فالطرف الأول .. طرف ظهرت فيه الرواية في نسيجها الأولي بـ ( صورة اجتماعية ) من خلال علاقات أسرة البطلة ( زينب ) وأخيها (حمزة ) وابوهما ( عمدة القرية ) إلى جانب الأبطال الثانويين ، ثم يأتي الطرف الثاني لتظهر فيه الرواية بصورة ( موسوعية ) تعالج من خلال موسوعيتها أخطر قضايا العصر منذ مطلع القرن العشرين ألا وهي قضايا الإرهاب والتطرف ، وجاء وعي الإبداع في هذا العمل ليربطها بمسارب أخرى مثل مسارب الثأر والانتقام والتربص والقتل بالنية ، ثم يأتي الطرف الثالث في هذه الرواية ليمثل الجانب ( الواقعي ) وهو ما يعكس أو يمثل جانبًا من جوانب السيرة عند المؤلف أو راوي العمل ، أو ينقل تجاربه الحقيقية التي مرت أمام عينيه في سياق عمله وانعكست بوعي على كتاباته ، وعلى طبيعة بنائه الأسلوبي الخاص به ، والذي مال فيه كثيرًا إلى لغة الوصف من الخارج مع قراءة الشخصية من الداخل بوعي واستنارة واستبطان وتدبر واستقراء ، وإدراك نفسي لطبيعة الشخوص ، وهذا الذي دفعه لأن يُغلب المنهجية السردية المستغرقة مع الدفع بمساحات السرد المفصل ، والقائم على افتنانه بطاقات الحكي المتولدة من نمو (المحرك الحدثي ) وتراكمات التراسل اللغوي النابعة من رصده الخارجي لحركة الأحداث وتناميها في قلب العمل ، وحركة الشخصيات ذاتها ، مع محاولته الدؤوبة لفك عقدته بطريقة جدلية منطقية واعية .
والعُقد طوال العمل هي عُقد ( الفكر العقيم والمغلق ) لدى جماعات التكفير والجماعات الوهابية والمتشددة ، والرائع في ذلك كله أن تأتي المعالجة ضمن بنيات الحوار ، باعتبار أن الحوار هو أول معالج سحري لفك نظريات العقم الفكري بتوظيف طاقات الجدل والمنطق والفكر بتركيز مقصود ومتجدد ونشط وواع ، إذن فنحن ببساطة أمام عمل نجح فيه الإبداع أن يميل فيه كثيرًا لما يمكننا أن نسميه بـ (ذوبان النوعية ) فيما أنتجه وأخرجه ، ونقصد به التداخل بين الروائية بصفتها الاجتماعية الواقعية ، وبين فن من فنون السيرة والتجارب والرؤية الحقيقية للأزمات الكبرى ومن أهمها أزمات الإرهاب وبطلان الفكر الضال ، ولذا نجد تقنيات الرواية تحرك الأحداث على درجة من درجات الوعي ، ومنها التركيز والتكثيف ، وحضور الشخصيات بكامل مواصفاتها الرئيسة والثانوية ، والدوران بوعي في فلكي الزمان والمكان ، واستحضار دور الراوي بعناية فائقة ، ومحاولته الركيزة في رصد الأحداث من الخارج مع إعطاء شخصياته حق الحديث عن نفسها ، تاركًا فكرة الحكم عليها للمتلقي ، والتزامه مذهب الحياد بذكاء شديد ، وفي خلق أدوار للشخصيات ، وفي توظيف الضمائر كصيغة سردية للحكي عن شخصياته مع ملاحظة سياقات التحول في بنية الشخصية نفسها بين ما كانت عليه ، وما أصبحت فيه ، وقراءة دواخلها وصراعاتها وأدوارها ، مثل شخصية البطلة ( زينب ) الهادئة العاقلة التي مثلت العقل الجمعي المصري إن صحَّ التقدير ، وشخصية أخيها (حمزة) التي جاءت في دور يماثل أدوار المتلقي ، الذي يحتاج دائمًا إلى جرعات التفسير والوعي والتمثيل للحقيقة لشاب في مقتبل العمر يعيش أجواء متناقضة في حركات الفكر ما بين الانفتاح الحقيقي على العالم ومجرياته وتطلعاته ، وبين الردة والانغلاق والعودة إلى الخلف والتقوقع في أزمنة المتحجرين من أصحاب الفكر المتشدد ، والحبس في سجن الوهابيين ، وشخصية ( مصعب ) صديقه الوهابي والمعقد والرجعي محدود الفكر ، والذي نجحت الجماعات المتطرفة في إقناعه بمنهجهم وتلقينه أفكارهم على درجة من درجات الإيمان والتقديس .
إذن فالشخصيات الرئيسة الثلاثة ( زينب وحمزة ومصعب ) هم وجوه العقدة ، وهم وجوه الحل في الوقت نفسه ، زينب أخت حمزة التي تحاول طيلة العمل فك عقده وأزماته عن طريق إقناعه بدلالية الحق وواقعية المنطق ، والرد على مزاعم المُنغلقين الذين قبل أن يحاربوا مجتمعهم حاربوا أنفسهم بجلهم وتشددهم الأعمى ، وسيرهم وراء أئمتهم أنصار الضلال والعنف ، والذين دفعوا الشباب إلى القتل والموت تحت راية الاستشهاد ، وهم أبعد ما يكونون عنها ، وفي تحويل شاب مثل ( مصعب ) خريج كلية العلوم إلى إرهابي ينتهي به المطاف إلى قتل صديق طفولته ( حمزة ) في مشهد صادم دامٍ تعلقت به القلوب وانفطرت حزنا ، وهي تجد الصديق يقتل صديقه في سيناء تحت راية من رايات الضلال والتغييب والظلم والحقد والانتقام من دم بريء لا ذنب له .
ومن أجمل تقنيات العمل في هذه الرواية تقنية ( الاسترجاع الحدثي ) أو ( الفلاش باك ) لتاريخ الإرهاب في مصر منذ مطلع القرن العشرين ، وإلى يومنا هذا والتدقيق في أدوارها ، وطرح رؤية كلية أو داخلية يتحرك المؤلف / الراوي من خلالها ، والاعتماد في ذلك كله على فنون ( المونولوج ) وعلى الحوارات المفتوحة أيضًا بين شخصيات العمل المحمورية ، وحتى الهامشية إلى جانب شخصية ( زينب ) البطلة المعتدلة المحركة لمعظم الأحداث ، وقد كشفت هذه الحوارات عن جرائم الجماعات الإرهابية وخططها وأفكارها واتجاهاتها وما يدور في وعيها ، وباعتماد الإبداع على تقنيات ( الاسترجاع الحدثي ، والمونولوج الذاتي ، والحوارات المفتوحة ) نجح في أن يدفع بشخصياته لأن تكون حاضرة أمامنا مباشرة دونما رتوش ، ودون تدخل في بعض الأحيان من قبل الراوي ، كما نجحت تقنية الحوار في التحام المتلقي بالخطاب الروائي ، كطرف فعال يشارك في إنتاج المعنى ، ولا يكتفي بموقع المستقبل السلبي .
ومن تقنياته الروائية في صناعة هذا العمل تقنيته في صناعة العنوان ( أنا أفضل منه ) ، وهو العنوان المختار من قول إبليس المتكرر في القرآن في سياق حسم الصراع بينه وبين آدم ، ولو نظرنا إلى بنية العنوان سنجد أننا بالفعل بصدد لغة تقابلية بين ( أنا / منه ) تكشف عن البعد النفسي بين طرفي الصراع في الرواية (مصعب / حمزة) ، فنحن أمام الأنا الصارخة ( أنا ) بلغتها الخبرية اليقينية هنا من زاوية المتكلم ، و ( منه ) وهي تمثل الطرف المقابل أو المناقض للطرف الأول وإحكام تلك التناقضية بالخيرية ( خير ) منه ، وهو لفظ تفضيلي بحت أتى في سياق العنوان على غير حقيقته ، كما جاء في القرآن على المنهجية نفسها ، فالشيطان بطبيعة الحال ليس بخير من آدم ، وكذلك في العمل فليس ( مصعب ) القاتل المتطرف بخير من ( حمزة ) المعتدل الذي يمثل الوجه الحقيقي لكل المصريين ، والذي استشهد دفاعًا عن وطنه في سيناء ، إذن فالعنوان بصيغته التقابلية أضفى دلالة مزدوجة على العمل ذاته وعلى بنياته الموضوعية والفنية ، ورغم أنه اعتمد على لعبة الضمائر ( أنا / منه ) وهي ترمز دائمًا إلى الفراغ الدلالي باعتبارها ضمائر سواء كانت للحضور أو للغيبة ، إلا إن توظيف الآية القرآنية في العنوان دفع هذه الضمائر إلى سياق الامتلاء الموضوعي والاكتمال الرمزي ، وجعل العنوان وهو عتبة النص يشي بدلالات الحدث وتراتيبه وتكاثف المواقف والشخصيات والتفاصيل وإحكام العقدة والوصول إلىا الانفراجة .
كذلك مثلت الرواية البُعد الملحمي أو الموسوعي من خلال معالجة قضايا الإرهاب والتطرف من زاوية شديدة العقلانية ، واضحة المعالم عبر الوقوف على أسبابها ووضع الحلول لها من أكثر من خط منها الخط التأصيلي ، والخط الثقافي الداعم له مثل معالجة الإبداع لأفكار المتشددين ومنها قضايا زيارة أولياء الله الصالحين والرموز الدينية في مصر أو فكرة هدم التراث الإثري ، وتراث الفراعنة والرومان واليونان ، وجاءت قراءة الحدث التاريخي عبر الرواية بمستويات مختلفة ، منها ما جاء على السياق المباشر ، ومنها ما جاء على السياق غير المباشر مما أثرى أفق المتلقي ، وأكسبه خبرتين خبرة معرفية وخبرة جمالية ، والخبرة الجمالية في العمل نابعة من إدراك المؤلف للخيط الرفيع الذي يفصل بين الخط الملحمي والرواية ، ففي الوقت الذي وظف فيه التاريخ لمعالجة عقدة الإرهاب ، وهي عقدة العمل الرئيسة ، لم تفته أن يعالج قضيته وعقدته عبر إجراءات الشكل الروائي ، وصناعة القوام السردي وبنياته التراكمية .
ومن هذه الإجراءات اعتناء المؤلف / الراوي بالفضاءين الزماني والمكاني باعتبارهما محوري التشكيل والبناء الدرامي في الرواية ، وصورة الزمن في ( أنا خير منه ) ليست صورة ثابتة ، فقد أصبغ عليها بهاء المري صبغته الدرامية بداية من زمن التكوين للأبطال في فصول الرواية الأولى ، حيث كانت نشأتهم في أسيوط ، ومن ثم الارتحال منها إلى الإسكندرية في سنين التكوين والدراسة ، ومن ثم إلى سيناء والتي لقى فيها البطل ( حمزة ) حتفه برصاص صديق عمره ( مصعب ) في دراماتيكية صادمة ، وكأن الإبداع في حركة الزمن أراده أن يتحرك من مؤثر خارجي ، يُحرك من خلالها الأحداث عن بُعد ، ويوثر في مجراها وشخصياتها وتشابكها ، والجميل في حركة الزمن في ( أنا خير منه ) أنك لا تشعر فيه بفكرة القفزة الملحمية المعروفة في الأدب الملحمي ، ولكنك تشعر بأن الحركة الزمنية في الرواية كانت رهينة أمكانيات عدة أهمها امكانية إشعارك بأن الأحداث من الإمكان أن تنفتح على المستقبل في أي لحظة .
والأمر ذاته في لعبة ( المكان ) الذي جاء متوحدًا مع عنصر الزمن ومتداخلا معه ، وتشعر معه أن الإبداع قَصَدَ عن وعي أن يكون موضوع الرواية متشعبا مكانيًا ، فالرجل نقلنا من أسيوط إلى الإسكندرية إلى سيناء ، ونجح في ذلك كله أن يجعل مجموع الأمكنة في الرواية خادمة لصيرورة الحكي وميسرة له من زاوية ، ولخلق فكرة الجدل والحوار والرد على مزاعم المُنغلقين والمتشددين ، فكان المكان محورًا جدليًا من محاور الأحداث ، كذلك جاء توظيف الأماكن على كثرتها بتتابع مثير خلق روح التشويق والإثارة مما أكسب الرواية جوهرها الذي تبحث عنه ، وخرج بها إلى محط الأمان والتوفيق .
والعُقد طوال العمل هي عُقد ( الفكر العقيم والمغلق ) لدى جماعات التكفير والجماعات الوهابية والمتشددة ، والرائع في ذلك كله أن تأتي المعالجة ضمن بنيات الحوار ، باعتبار أن الحوار هو أول معالج سحري لفك نظريات العقم الفكري بتوظيف طاقات الجدل والمنطق والفكر بتركيز مقصود ومتجدد ونشط وواع ، إذن فنحن ببساطة أمام عمل نجح فيه الإبداع أن يميل فيه كثيرًا لما يمكننا أن نسميه بـ (ذوبان النوعية ) فيما أنتجه وأخرجه ، ونقصد به التداخل بين الروائية بصفتها الاجتماعية الواقعية ، وبين فن من فنون السيرة والتجارب والرؤية الحقيقية للأزمات الكبرى ومن أهمها أزمات الإرهاب وبطلان الفكر الضال ، ولذا نجد تقنيات الرواية تحرك الأحداث على درجة من درجات الوعي ، ومنها التركيز والتكثيف ، وحضور الشخصيات بكامل مواصفاتها الرئيسة والثانوية ، والدوران بوعي في فلكي الزمان والمكان ، واستحضار دور الراوي بعناية فائقة ، ومحاولته الركيزة في رصد الأحداث من الخارج مع إعطاء شخصياته حق الحديث عن نفسها ، تاركًا فكرة الحكم عليها للمتلقي ، والتزامه مذهب الحياد بذكاء شديد ، وفي خلق أدوار للشخصيات ، وفي توظيف الضمائر كصيغة سردية للحكي عن شخصياته مع ملاحظة سياقات التحول في بنية الشخصية نفسها بين ما كانت عليه ، وما أصبحت فيه ، وقراءة دواخلها وصراعاتها وأدوارها ، مثل شخصية البطلة ( زينب ) الهادئة العاقلة التي مثلت العقل الجمعي المصري إن صحَّ التقدير ، وشخصية أخيها (حمزة) التي جاءت في دور يماثل أدوار المتلقي ، الذي يحتاج دائمًا إلى جرعات التفسير والوعي والتمثيل للحقيقة لشاب في مقتبل العمر يعيش أجواء متناقضة في حركات الفكر ما بين الانفتاح الحقيقي على العالم ومجرياته وتطلعاته ، وبين الردة والانغلاق والعودة إلى الخلف والتقوقع في أزمنة المتحجرين من أصحاب الفكر المتشدد ، والحبس في سجن الوهابيين ، وشخصية ( مصعب ) صديقه الوهابي والمعقد والرجعي محدود الفكر ، والذي نجحت الجماعات المتطرفة في إقناعه بمنهجهم وتلقينه أفكارهم على درجة من درجات الإيمان والتقديس .
إذن فالشخصيات الرئيسة الثلاثة ( زينب وحمزة ومصعب ) هم وجوه العقدة ، وهم وجوه الحل في الوقت نفسه ، زينب أخت حمزة التي تحاول طيلة العمل فك عقده وأزماته عن طريق إقناعه بدلالية الحق وواقعية المنطق ، والرد على مزاعم المُنغلقين الذين قبل أن يحاربوا مجتمعهم حاربوا أنفسهم بجلهم وتشددهم الأعمى ، وسيرهم وراء أئمتهم أنصار الضلال والعنف ، والذين دفعوا الشباب إلى القتل والموت تحت راية الاستشهاد ، وهم أبعد ما يكونون عنها ، وفي تحويل شاب مثل ( مصعب ) خريج كلية العلوم إلى إرهابي ينتهي به المطاف إلى قتل صديق طفولته ( حمزة ) في مشهد صادم دامٍ تعلقت به القلوب وانفطرت حزنا ، وهي تجد الصديق يقتل صديقه في سيناء تحت راية من رايات الضلال والتغييب والظلم والحقد والانتقام من دم بريء لا ذنب له .
ومن أجمل تقنيات العمل في هذه الرواية تقنية ( الاسترجاع الحدثي ) أو ( الفلاش باك ) لتاريخ الإرهاب في مصر منذ مطلع القرن العشرين ، وإلى يومنا هذا والتدقيق في أدوارها ، وطرح رؤية كلية أو داخلية يتحرك المؤلف / الراوي من خلالها ، والاعتماد في ذلك كله على فنون ( المونولوج ) وعلى الحوارات المفتوحة أيضًا بين شخصيات العمل المحمورية ، وحتى الهامشية إلى جانب شخصية ( زينب ) البطلة المعتدلة المحركة لمعظم الأحداث ، وقد كشفت هذه الحوارات عن جرائم الجماعات الإرهابية وخططها وأفكارها واتجاهاتها وما يدور في وعيها ، وباعتماد الإبداع على تقنيات ( الاسترجاع الحدثي ، والمونولوج الذاتي ، والحوارات المفتوحة ) نجح في أن يدفع بشخصياته لأن تكون حاضرة أمامنا مباشرة دونما رتوش ، ودون تدخل في بعض الأحيان من قبل الراوي ، كما نجحت تقنية الحوار في التحام المتلقي بالخطاب الروائي ، كطرف فعال يشارك في إنتاج المعنى ، ولا يكتفي بموقع المستقبل السلبي .
ومن تقنياته الروائية في صناعة هذا العمل تقنيته في صناعة العنوان ( أنا أفضل منه ) ، وهو العنوان المختار من قول إبليس المتكرر في القرآن في سياق حسم الصراع بينه وبين آدم ، ولو نظرنا إلى بنية العنوان سنجد أننا بالفعل بصدد لغة تقابلية بين ( أنا / منه ) تكشف عن البعد النفسي بين طرفي الصراع في الرواية (مصعب / حمزة) ، فنحن أمام الأنا الصارخة ( أنا ) بلغتها الخبرية اليقينية هنا من زاوية المتكلم ، و ( منه ) وهي تمثل الطرف المقابل أو المناقض للطرف الأول وإحكام تلك التناقضية بالخيرية ( خير ) منه ، وهو لفظ تفضيلي بحت أتى في سياق العنوان على غير حقيقته ، كما جاء في القرآن على المنهجية نفسها ، فالشيطان بطبيعة الحال ليس بخير من آدم ، وكذلك في العمل فليس ( مصعب ) القاتل المتطرف بخير من ( حمزة ) المعتدل الذي يمثل الوجه الحقيقي لكل المصريين ، والذي استشهد دفاعًا عن وطنه في سيناء ، إذن فالعنوان بصيغته التقابلية أضفى دلالة مزدوجة على العمل ذاته وعلى بنياته الموضوعية والفنية ، ورغم أنه اعتمد على لعبة الضمائر ( أنا / منه ) وهي ترمز دائمًا إلى الفراغ الدلالي باعتبارها ضمائر سواء كانت للحضور أو للغيبة ، إلا إن توظيف الآية القرآنية في العنوان دفع هذه الضمائر إلى سياق الامتلاء الموضوعي والاكتمال الرمزي ، وجعل العنوان وهو عتبة النص يشي بدلالات الحدث وتراتيبه وتكاثف المواقف والشخصيات والتفاصيل وإحكام العقدة والوصول إلىا الانفراجة .
كذلك مثلت الرواية البُعد الملحمي أو الموسوعي من خلال معالجة قضايا الإرهاب والتطرف من زاوية شديدة العقلانية ، واضحة المعالم عبر الوقوف على أسبابها ووضع الحلول لها من أكثر من خط منها الخط التأصيلي ، والخط الثقافي الداعم له مثل معالجة الإبداع لأفكار المتشددين ومنها قضايا زيارة أولياء الله الصالحين والرموز الدينية في مصر أو فكرة هدم التراث الإثري ، وتراث الفراعنة والرومان واليونان ، وجاءت قراءة الحدث التاريخي عبر الرواية بمستويات مختلفة ، منها ما جاء على السياق المباشر ، ومنها ما جاء على السياق غير المباشر مما أثرى أفق المتلقي ، وأكسبه خبرتين خبرة معرفية وخبرة جمالية ، والخبرة الجمالية في العمل نابعة من إدراك المؤلف للخيط الرفيع الذي يفصل بين الخط الملحمي والرواية ، ففي الوقت الذي وظف فيه التاريخ لمعالجة عقدة الإرهاب ، وهي عقدة العمل الرئيسة ، لم تفته أن يعالج قضيته وعقدته عبر إجراءات الشكل الروائي ، وصناعة القوام السردي وبنياته التراكمية .
ومن هذه الإجراءات اعتناء المؤلف / الراوي بالفضاءين الزماني والمكاني باعتبارهما محوري التشكيل والبناء الدرامي في الرواية ، وصورة الزمن في ( أنا خير منه ) ليست صورة ثابتة ، فقد أصبغ عليها بهاء المري صبغته الدرامية بداية من زمن التكوين للأبطال في فصول الرواية الأولى ، حيث كانت نشأتهم في أسيوط ، ومن ثم الارتحال منها إلى الإسكندرية في سنين التكوين والدراسة ، ومن ثم إلى سيناء والتي لقى فيها البطل ( حمزة ) حتفه برصاص صديق عمره ( مصعب ) في دراماتيكية صادمة ، وكأن الإبداع في حركة الزمن أراده أن يتحرك من مؤثر خارجي ، يُحرك من خلالها الأحداث عن بُعد ، ويوثر في مجراها وشخصياتها وتشابكها ، والجميل في حركة الزمن في ( أنا خير منه ) أنك لا تشعر فيه بفكرة القفزة الملحمية المعروفة في الأدب الملحمي ، ولكنك تشعر بأن الحركة الزمنية في الرواية كانت رهينة أمكانيات عدة أهمها امكانية إشعارك بأن الأحداث من الإمكان أن تنفتح على المستقبل في أي لحظة .
والأمر ذاته في لعبة ( المكان ) الذي جاء متوحدًا مع عنصر الزمن ومتداخلا معه ، وتشعر معه أن الإبداع قَصَدَ عن وعي أن يكون موضوع الرواية متشعبا مكانيًا ، فالرجل نقلنا من أسيوط إلى الإسكندرية إلى سيناء ، ونجح في ذلك كله أن يجعل مجموع الأمكنة في الرواية خادمة لصيرورة الحكي وميسرة له من زاوية ، ولخلق فكرة الجدل والحوار والرد على مزاعم المُنغلقين والمتشددين ، فكان المكان محورًا جدليًا من محاور الأحداث ، كذلك جاء توظيف الأماكن على كثرتها بتتابع مثير خلق روح التشويق والإثارة مما أكسب الرواية جوهرها الذي تبحث عنه ، وخرج بها إلى محط الأمان والتوفيق .
بهاء المري
بهاء المري is on Facebook. Join Facebook to connect with بهاء المري and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com