عبدالرحيم التدلاوي - تشكلات المعنى في مجموعة "هيباتيا" للمبدعة مريم بغيبغ.

تستدعي المبدعة في مجموعتها شخصيات عدة من حقول معرفية مختلفة، سواء أكانت حقيقية ذات وجود تاريخي أم كانت أسطورية؛ وهي شخصيات محملة بشحنة دلالية كبيرة يتم استغلالها لتغذية القصص بمعاني إما جديدة وإما بهدف تزكية ما تحمله من خصوبة معنوية محددة، وإما لنقض تلك المعاني أو إفراغها منها وشحنها بمعاني ودلالات جديدة تستوجبها سيرورة القصص.
لقد اختارت المبدعة القص والوجيز واللعب في هذه الرقعة الصغيرة جدا معتمدة في ذلك على الرموز والإيحاءات والحذف والتكثيف وقول القليل للحديث عن الكثير، ومراوغة القارئ بخلق الدهشة لديه عن طريق خرق أفق توقعه وجعل المعنى ينفلت من بين يديه ليعيد النظر من جديد حتى يقبض على هذا المنفلت والمتأبي. تعمد إلى الإيحاء فاتحة أشرعة التأويل على رياح معرفة المتلقي الذي يقود سفينة القص إلى المرفأ الذي يرتضيه من دون شطط أو انحراف خوفا على تلك السفينة من الغرق أو التحطم.
ما يميز النصوص جميعها على مستوى البصر قصرها الشديد، فلا تجد ولا واحدة تجاوزت نصف الصفحة، هذا التركيز الشديد كان مصحوبا بالترميز الذي يبتعد عن التلغيز المذموم، فالترميز والغموض عنصران يساهمان في حث الذهن على تقليب تربة النصوص لاستخراج كنوزها، إذ لا بد من بعض الجهد؛ فالكسل في مثل هذا الجنس من الكتابة
مرفوض، لأن السلبية قرينة العقم. ثم إن المبدعة تراوغ في مساحة ضيقة وتطلب لاعبا ماهرا يتقن فن اللعبة، لا أن يكون متفرجا لاهيا. تقول الساردة عن شخصيتها المزاولة لفن الكتابة وما هي سوى قناع لها:
" تفكر في شخصية روايتها الجديدة ... تترك قلمه يكتب تفاصيل النهاية ... " إنها تعلن تنازلها عن ختم عملها مع ما يمثله هذا الختم من ضربة سردية قد تكون، في حال نجاحها، مدهشة ومثيرة للاهتمام، ومخيبة لأفق المتلقي الذي سيجترح دلالات من ورائها؛ تترك كل هذا له ليقوم مشاركا بفعل كتابة قفلة تكون مناسبة له وللقصة. وكأنها بهذا التنازل تفرض على الآخر وبصيغة تكليف، وضع نهاية للرواية، مع ما تمثله النهاية، كما قال الناقد عبد النبي بزاز، من قيمة دلالية في عملية السرد ، وهو انعتاق جلي عن ربقة محددات نمط كتابة (سرد) تنخرط في صيرورة مرتهنة لشروط تدرج موزع ومنتظم بإقحام الآخر ، في سياق فضفاض ، لصياغة النهاية في اختيار يشذ عن إرضاء المتلقي ، والاستجابة لتصورات أفق انتظاره : " أتوقف عن الكتابة ... أفكر في النهاية التي يريدها القارئ!
تؤكد، مرة أخرى، وإن بشكل مختلف، في صوغ نهاية غير متوقعة، لا ينترها المتلقي.
وخرق أفق التلقي إحدى سمات المجموعة فضلا عن المفارقة التي تشكل معها ضفيرة تحقق للنصوص تميزها وبراعة صوغها.
ففي قصة "متخاذل" نلمس هذين العنصرين اللذين جاءا في تركيبة واحدة تصنع الدهشة وتمنح المتعة، وتحث المتلقي على التفاعل الإيجابي. كما يمكن إضافة عنصر العنوان الذي يعد مفتاحا مهما لولوج عالم النص بغية اكتشافه. فمكونات النص إنسانية وغير إنسانية؛ يمثل المتخاذل والعرافة الجانب الإنساني، فيما القذيفة تمثل غير الإنساني، لكن، ومع توالي أحداث النص الخاطفة، نجد كل المكونات غير إنسانية، لتخاذلها وإيمانها بالخرافة. لذا، تأتي القذيفة لمحو كل هذا العبث بالعبث، ولتخرج الرجل من سريره الوثير والمتدثر بالأحلام إلى فضاء الانفضاح بكشف عريه وسلبيته.
فالمفارقة متعددة الأبعاد، بين السرير الوثير والزجاج المهشم، بين الحلم الجميل والواقع المر، بين الإرادة والتخاذل، ولكون القفلة عصفا مدمرا وطوفان تطهير
أما في قصة "وصية" فنلمس القفلة المرة التي تسير ضد إرادة الوحدة، وتخرق الوصية ولا تعمل بالتحذير، فنرى الخطو يسير بعمى إلى الشتات؛ وهو شتات قابل لأن يكون اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ويمكن إسقاطه على واقعنا المتشظي.
وحين نتتبع الشخصيات المستجلبة من الماضي الواقعي والأسطوري من مثل "نرسيس" المعبرة عن حب الذات وعشقها، نجد أن النص الذي يحمل هذا الاسم لا يحيد عن عادته؛ إذ ل حبيس ذاته وغير قادر على رؤية خارجها. يتأكد أن التوظيف يلعب دورا مهما في إناء القصص والدفع بها إلى مديات بعيدة، ويحمل القارئ على استنطاق أبعادها داخل حقولها المعرفية وداخل النص الموظف لها.
وما هيباتيا التي سحبت اسمها على العمل ككل، والمعبرة عن الحكمة والمعارف المتنوعة والقدرة على المجادلة والإقناع، وبخاصة لدى النساء كتعبير عن قدراتهن التي يسعى الرجل إلى طمرها، إلا دليل على فطنة المبدعة، وحسن توظيفها لتلك الشخصيات من دون أن تثقل كاهل النص ومن دون أن تذهب به إلى التلغيز المنفر.
مجموعة "هيباتيا" للمبدعة مريم بغيبغ، لذيذة وشهية، وتحفز الذهن على التأويل، والمشاركة في بناء معاني القصص المقطرة تقطيرا.






هيبا.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى