د. عبدالجبار العلمي - حديث الذكريات : من ذكريات الأدب والأدباء

1 – الحلقة الأولى عن الأدب والأدباء في المشرق :

كان زمنا جميلاً حقاً ذلك الزمن الغابر الذي انفلت من بين أناملنا، وما زال يتسلل شيئاً فشيئاً إلى أن يعلن عن النهاية كأي فيلم من الأفلام الذي يختتم دائما بهذه الكلمة بخط منمق جميل أو بطريقة فنية طريفة. كنا رغم ضيق ذات اليد نقتني بعض ما يصلنا من مجلات وكتب من أرض الكنانة ومن المشرق العربي بصفة عامة. وكانت المجلات والكتب زهيدة الثمن. كنا نشتريها بما كانت تنفحنا به عائلتنا مكافأة لنا على قضاء حوائجها في السوق . كنت أوزع ما يتجمع لدي أسبوعياً بين اقتناء الكتب والسينما ، وهما كانا عشقي في تلك المرحلة من العمر . كنت أشتري كتاب "الهلال" بما قدره ١٠ قروش مصرية، وحين علمت ذات يوم بوصول " الأيام " لطه حسين إلى إحدى مكتبات المدينة ، لم أنم ليلتها ، ولم يرتح لي بال إلا بعد أن حصلت على ثمنها الزهيد آنذاك وهو 5 دراهم مغربية ، وقصدتُ المكتبة بالساقية الفوقية التي كانت عامرة بالمكتبات آنذاك. شبيهة بالأحباس في الدار البيضاء ( أحباس مصغرة ). كان الكتاب في جزأين فقط ، صدرعن دار المعارف بغلاف أبيض اللون. على يمينه لوحة تشكيلية بسيطة تمثل ثلاثة أطفال يلبسون جلاليب مختلفة الألوان وعلى رؤوسهم طاقيات من التي يلبسها أطفال الأرياف المصرية. أما اسم الكتاب : " الأيام " فيقع في الأعلى على اليمين بخط فيه عني بتشكيله وجماليته. وأمامه بالضبط اسم الكاتب طه حسين مكتوب ببنط رقيق بخلاف العنوان الذي كتب ببنط غليظ بارز ، وبنفس التشكيل الذي في العنوان في الجانب الأيسر رقم الجزء مرسوم بالرقم الهندي ١ – ٢ وفي أقصى الجهة اليسرى أسفل الغلاف صورة رمز دار المعارف وتحتها اسم الدار مكتوباً بخط كوفي. أما طبعة الكتاب، فكتبها مصمم الغلاف ببنط رقيق جدا (الطبعة الخامسة والخمسون) . ما الحاجة إلى زخرفة غلاف الكتاب وتزيينه بلوحة ملونة جذابة من أجل التسويق والإثارة؟ ، فيكفي اسم الكاتب الذائع الصيت ( طه حسين بدون حروف الدال قبله ) المكتوب ببنط رقيق ، وتكفي منارة دار المعارف العريقة التي تشع منها أنوار العلم والمعرفة ، ويكفي العنوان المعرف بصيغة الجمع، لكي يدخل القراء إلى الأحداث التي تقع في هذه الأيام لشخص معروف بطموحه وقوة إرادته وتحديه لإعاقته . وها هي ذي الطبعة الخامسة والخمسون بين يد الأجيال المتلاحقة من القراء بعد نفاد العشرات من الطبعات السابقة. سعدت أيما سعادة بقراءته وعشت مع الصبي الضرير في مختلف أطوار حياته من الدراسة في الكتاب ، ومشاركته حزنه على وفاة أخته الصغيرة بالكوليرا، حيث بللت دموعي الصفحات التي تصور هذا الحدث. ورافقته لدى انتقاله إلى الدراسة في الأزهر بالقاهرة المعزية ، وعاينت عن كثب مواقفه من شيوخه، ونقده اللاذع لطرق التدريس بها باستثناء البعض مثل صاحب كتاب " الوسيلة الأدبية" الشيخ حسين المصرفي. واستمتعت وأفدت من أسلوب طه حسين السهل الممتنع . أما المجلات ، فكان من أبرزها " الرسالة " لأحمد حسن الزيات التي توقفت عن الصدور للأسف مع بداية الثورة المصرية هي وغيرها من مجلات زمان مثل (الرواية) لنفس الكاتب الكبير ، والحقيقة أنني لم أصداف في مكتبات المدينة مثل هذه المجلات ، وإن كنت أسمع عنها وعن غيرها في تلك السن المبكرة - كنت أحصل على مجلة "الكاتب" التي كان يصدرها طه حسين- وأذكر أن أحمد حسن الزيات قد جمع أجمل ماكان ينشره من قصص مترجمة في مجلتيه في كتاب " ضوء القمر وقصص أخرى " ، وذلك في كتاب الهلال . ومازلت أحتفظ به في خزانتي . وكنت أختار منه بعض القصص القيمة مثل قصة "الحلية" التي ترجمها الزيات لكاتب القصة القصيرة الفرنسي " جي دي موباسان " ، وأدرسها لتلامذتي. كتاب أعتبره تحفة من تحف الأدب الرفيع من حيث مادته وأسلوبه. كم هو حديث شيق ممتع عن ذكريات الصبا والشباب وسنوات التحصيل الدراسي والتعلم الذاتي والكفاح والأحلام الوردية.
لقد كنتُ حين التحقت بالتدريس بمدينة الدار البيضاء في بداية سنوات السبعين، أقتني أسبوعياً مجلات كانت تصلنا بانتظام ، (صباح الخير وروزليوسف والمصور وحواء ) كنت أقرأ لعايدة الشريف ولإحسان عبدالقدوس الصحفي والأديب الروائي المعروف ، وأتأمل كاريكاتور الفنان المتعدد المواهب صلاح جاهين . ممثل سينمائي وسيناريست وشاعر زجال ملأ الدنيا وشغل الناس برباعياته . ونسيت أين كنت أرى أعمال الفنان جورج بهجوري وأقرأ تعليقاته اللاذعة . أما أمينة السعيد، فأذكر أنها كان لها باب خاص في مجلة "حواء" تعالج فيه مشاكل الفتيات ، وتوجههم وترشدهم إلى الطريق التي يمكن أن توصلهم إلى النجاح بالجهد والعرق والدراسة والمثابرة . مرة سألتها فتاةٌ مراهقة: لماذا لا تكون مثل شادية فهي تغني وتمثل ولا ينقصها الجمال ، وأذكر، كأنني قرأت ذلك بالأمس، أن السيدة أمينة السعيد نبهتها إلى أن المطربة الممثلة شادية لم تصر شادية الشهيرة بمجرد التمني والأحلام ، بل وصلت إلى ما وصلت إليه من شهرة بالدراسة والثقافة والاجتهاد والكفاح والعمل المتواصل . ونصحتها بأن تتخذها قدوة في هذه النواحي، فتسير على منوالها ، ولا تفرط في دراستها ... إلى غير ذلك . وأذكر أن هذه الأحاديث التي كانت تنشرها جمعتها في كتاب طبعته دارالهلال في سلسلة " كتاب الهلال".
كانت تصلنا مجلات الكواكب في عهدها الزاهر حين كان يديرها الناقد المعروف رجاء النقاش . وكانت كل هذه المجلات الأسبوعية زهيدة الثمن ، تصلنا من أرض الكنانة بقروش . ناهيك عن سلسلة روايات الهلال وكتاب الهلال الشهرية ، وكتابي لحلمي مراد . من يذكر هذا الرجل الفذ الذي كان يصدر كتابا شهريا جميل الإخراج، في متناول الجميع، لكبار الكتاب من الشرق والغرب ، وكم قرأنا من كتب عالمية في سلسلته الرائعة لهيجو وأناتول فرانس وفلوبير ( روايته الشهيرة مدام بوفاري بترجمة الدكتور محمد مندور ) .سقيا لذلك الزمن وأهله من مثقفي ذلك العهد وكتابه ومبدعيه ومفكريه المستنيرين الذي أضاءوا عتمات العقول ، وفتحوا آفاقا شاسعة للعلم والمعرفة ، وساهموا بكل إخلاص في محاولة النهوض بشعوبهم وتنوير عقول أبناء أمتهم.






د. العلمي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى