عدنان السبتي - الحريرو ، «سيد جبالة ».. البطل المنسي - تعريب : أنس عثمان

كيف يمكن إثارة اسم مقاوم مغربي كبير إذا كانت الأرشيفات تضن علينا بالمعلومات عنه، وأنه لا صورة عنه ، وأن كل ما تبقى عنه ذكرى بطولة ضبابية ؟ لقد توفي قبل الثلاثين من عمره ، واسمه أحمد بن محمد الحزومري ، الشهير ب « أحمد الخريرو »، هو الذي كان واحدا من أهم قواد البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال حرب الريف ( 1921-1926) . وإذا كان صعبا رسم پورتريه متكامل عنه ، فإنه يمكننا رسم بعض ملامح عنه . وكل ما يسعفنا في ذلك متواجد في أرشيفات الجيش الإسپاني . ثم هناك الصحافة الإسپانية التي تحدثت عنه بإعجاب دوما كعدو يخشى منه ويفرض الاحترام أيضا ؛ ثم وثائق المؤرخ العسكري الإسپاني المتخصص في المغرب الذي قضى به 30 سنة ، طوماس ݣارثيا فيݣيراس Tomás García Figueras .
ولد أحمد الحزومري سنة 1898 بمدشر دار الغازي بقبيلة بني حزمر بإقليم تطوان الحالي ؛ كانت عائلته فقيرة ، وبسبب فقرها منحت أحمد لرجل غني ،هو الطالب محمد الحرتيتي ،الذي جعل منه راعي أغنامه.
تصادفت طفولته مع أخبار تمرد بوحمارة وإسقاط السلطان مولاي عبد العزيز ،واحتلال الشاوية من قبل الفرنسيين ، وقمع انتفاضة فاس دمويا . كان المغرب على مرمى أطماع دول استعمارية عدة، هي إنجلترا وفرنسا وإسپانيا وألمانيا، ما جعل المغاربة ينخرطون في مقاومات عدة لهذه الأطماع . وبعد توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912 ، واحتلال تطوان من قبل الجنرال الإسپاني فليپي ألفاو Felipe Alfau سنة 1913 ، انتفضت القبائل المحيطة ضد عاصمة الاستعمار الإسپاني الجديد بالشمال المغربي [ تطوان] ، فالتحق أحمد الحزومري بتوصية من حاميه محمد الحرتيتي في حركة سي لحسن دوتكزارت من قبائل بني عروس الذي تزعم قبائل جبالة ضد التواجد الإسپاني. وهي الحركة التي كانت متمركزة بدار بن قريش ، الذي هو مدشر يقع في طريق استراتيجية بين تطوان والشاون ، وهناك تعلم الحزومري استعمال السلاح ومواجهة الجنود الإسپان وعمره بالكاد 16 سنة .
بعد التحاق حركة السي لحسن دوتكزارت سنة 1915 بأحمد الريسوني « سلطان الجبال » التحق معهم ذلك الشاب البسيط والوفي الذي سيصبح واحدا من قادة ابن عبد الكريم العسكريين .
كان الريسوني شخصية مركبة غير واضحة ، مرة يحالف الإسپان ومرة يحاربهم ، وكان طموحه التحالف مع مدريد لمنحه منصب خليفة السلطان بتطوان . كان الشمال عموما هادئا ، لأنه لم تكن للإسپان الإمكانيات العسكرية كالتي لفرنسا للتحكم في الأراضي المغربية التابعة لها ، وفي الآن نفسه لم تكن للريسوني الأسلحة الكافية لطرد الإسپان ؛ لكن ستتغير هذه الوضعية سنة 1918 بعد الوفاة المفاجئة بمكتبه بتطوان الجنرال الإسپاني فرانثيسكو ݣومث خوردانو Francisco Gómez Jordana ، وتعويضه بالجنرال القوي داماسو بيرينݣير Dámaso Berenguer الذي باشر عمليات عسكرية للتهدئة بمناطق النفوذ الإسپاني ، فانطلقت الحرب .
كان أول قرار لبيرينݣير هو رفع مصدر القلق الذي تشكله قرية دار بن قريش في طريق الشاون .
وبسبب عدم قدرة قوات الريسوني على المقاومة انسحبت صوب تازاروت عاصمته الخاصة . من ضمن الملتحقين محمد الحرتيتي والشاب المحمي من قبله أحمد الحزومري المتزوج حديثا، والذي بلغ 20 سنة من عمره . سيؤسس هذا الشاب بعد أشهر فرقة من بضع عشرات من المحاربين الأقوياء تابعة له خلقت الرعب جديا في صفوف الإسپان ، بل إن الهجمات طالت ،ليس فقط قوافل الجند الإسپان المغادرة من تطوان ، بل أيضا من كان يعتبر متعاونا معهم من حاشية الخليفة السلطاني ، فأصبح اعتقال الضباط والجنود الإسپان ، وكذا ممثلي السلطة المخزنية فرصة لأحمد الحزومري للتفاوض بشأنهم للحصول على فدية مهمة ، التي يسلم جزءا منها للريسوني ويشتري السلاح بالجزء المتبقي .
سيضع الحزومري اليد سنة 1920على ضابط إسپاني كبير ، لكن العملية التي ستطبع الأذهان هي اختطاف اثنين من كبار أغنياء تطوان، كونه تسلل ليلة يوم 21 نونبر 1921 إلى حي زيانة وشل حركة الحراس ،واختطف علي السلاوي المدير السابق للأحباس وزوجة ابن شقيقه ،التي ليست سوى عائشة الطريس ،ابنة الباشا الشهير أحمد الطريس وحفيدة محمد الطريس الدبلوماسي المغربي الذي تفاوض باسم المغرب في مؤتمر الجزيرة الخضراء الشهير سنة 1906 . وهي أيضا الشقيقة الكبرى للزعيم عبد الخالق الطريس ،الذي كان حينها في ال 11 من عمره .
كان ذلك الاختطاف مزلزلا للاحتلال الإسپاني كله ،كونه أذل كل مؤسساتهم الأمنية والعسكرية ، وفي قلب تطوان . ولقد مجدت قصيدة شعرية في الجبال شجاعة الخريرو ،واستهزأت بساكنة المدينة الذين سهل اختطافهم . حمل السلاوي على ظهر حمار ، بينما استنحدت عائشة بوالدتها لبيع الزرابي وكل غال لدفع فديتها . ولن يطلق سراحهم سوى شهور بعد ذلك ، بعد أن قضوا مدة في سجن الريسوني .
المفارقة هي أن الخلاف بين الريسوني والخريرو سينطلق من هذه الحادثة الكبيرة ، حيث حصل الخريرو على تعويض مالي كبير ، لكن حازه الريسوني ووعده بتعيينه قائدا على قبيلته بني حوزمر ، لكن الرجل الذي حماه من قبل محمد الحرتيتي لم يقبل بذلك ، فاندلعت مواجهات بينه وبين محميه السابق أمام الريسوني الذي لم يحرك ساكنا .
كانت حرب الخطابي بالريف قد حققت انتصاراتها الكبرى منذ 1921 ، لكن الريسوني والخريرو لم يشاركا فيها ، ولا دعماها ، قررا القيام بعملياتهما بشكل مستقل بمنطقة جبالة ؛ وسينفذون يوم 22 أكتوبر 1923 واحدة من عملياتهم العسكرية القوية في قلب تطوان ، من خلال محاولة احتلال أحد أحياء المدينة الذي انسل إليه الخريرو مع رجاله بشكل متخف نهارا ، ونزلوا في شقق بالمدينة الأوروپية ،قبل أن يبدأوا في الليل إطلاق النار على الجميع ،وسقط عدد من الجنود الإسپان ،ومن المدنيين الأوروپيين والكثير من الجرحى لقوا حتفهم بعد ذلك بأيام . وبعد إنهاء مهمتهم غادر الخريرو بهدوء رفقة رجاله تطوان إلى الجبال المجاورة . لقد نجحت خطة ترهيب المدينة ، وفي الغد ازدحمت عشرات العائلات بمحطة القطار للعودة إلى سبتة .
وجدد الخريرو هجومه صباح الغد 23 أكتوبر حين هاجم قطارا إسپانيا مخلفا سبعة قتلى و اثني عشر جريحا .
لقد أصبح الخريرو في لمحة زمن أكثر شهرة من الريسوني وحتى من ابن عبد الكريم الخطابي في الذاكرة الإسپانية .
كان ذلك بداية القطيعة النهائية مع الريسوني الذي تراجع عن وعده له وعين الحرتيتي قائدا على قبيلته ،فأحس الخريرو بالمهانة . لم يتأخر رده وجوابه ، حيث ربط الصلة مباشرة بمحمد بن عبد الكريم الخطابي ، ولأن هذا الأخير كان فرحا بتوسيع نفوذه الجغرافي صوب منطقة جبالة فقد استقبله بعاصمته أجدير استقبال الأبطال ، بل إنه سمح له باستقطاب كل ما يحتاجه من رجال ، فانضمت إليه القبائل التابعة للريسوني ، وبعث إليه الخطابي حركة من أربعمائة رجل ، وعينه قائدا على قبيلته وعلى القبائل المجاورة . بعد هزيمة الإسپان في الريف بدأوا ينسحبون حتى من بلاد جبالة وغمارة بسبب الوضعية الجديدة سنة 1924 . بل إنه حتى مدينة الشاون قد وقعت تحت نفوذ الخطابي ، واعتقل في نفس السنة من قلب تطوان رجال الخريرو اثنين من القساوسة الفرانسيسكان الإسپان وثلاثة أطفال إسپان سلموا جميعهم للخطابي ؛ توفي القساوسة في الأسر ،بينما أطلق سراح الأطفال بعد نهاية الحرب .
في نهاية تلك السنة شرع التخطيط للهجوم على مقر قيادة الريسوني نفسه ، ومن القائد غير ابن جبالة الخريرو ،الذي قاد حركة متكونة من ألف رجل ؛ وفي يوم 25 يناير 1925 هاجم الخريرو قيادة تازاروت وانهار الريسوني وهدمت قلعته المحصنة وأسر رجاله.
اعتقل الريسوني ... وتم بعثه إلى تماسين بالريف حيث توفي هناك أشهرا بعد ذلك بسبب المرض .
أصبح الخريرو في قمة مجده سنة 1925 ، لقد أصبح سيد جبالة ، وبفضل دعم الخطابي له بالسلاح والمدفعية ، فإنه حاصر تطوان من على قمة جبل غورغيز ،وشرع يقصفها بالمدفعية ... وفي شتنبر 1925 حرر موقع كدية الطاهر القريبة من قبيلته ،لمراقبة ومواجهة تجمع الجنود الإسپان الذين كانوا يهيئون لاستعادة الحسيمة ، لكنه فشل في ذلك لأن فرنسا بالتعاون مع الإسپان جندوا خمسمائة ألف عسكري بالشمال المغربي للقضاء على الثورة الريفية بزعامة الخطابي ، اعتبره الإسپان خطيرا على نفس درجة الخطابي ،والذي وجهوا صوبه لأول مرة في تاريخ كل الشمال الأفريقي مدفعية ثقيلة جديدة من نوع رونو ف.ت.17 ،ومن نوع شنيدر س.11
في سنة 1926 ، بزعامة الماريشال پيتان Le maréchal Putain قائد معركة ڤيردان بفرنسا . انتصر الحلفاء الأوروپيون على ثورة الخطابي الذي استسلم للفرنسيين ونفي إلى جزيرة لا رينيون Ile de La Réunion، فقرر الإسپان توجيه كل قواهم صوب أمير جبالة الخريرو . سقطت أولا الشاون ، فدخل أحمد الحزومري الشاب البطل الشهير في حرب عصابات ناجحة، كلفت الإسپان العديد من الخسائر الفادحة ،وحققت له انتصاراته شهرة أشبه بروبان ديبوا Robin des Bois المحمي من قبل ساكنة المنطقة . لكن في يوم 3 نونبر 1926 أثناء معركة مع الجيش الإسپاني قرب غابة ببني مسعود ،غير بعيد عن مكان ولادته ، تخلى الحظ عن صاحبه ، فأثناء مواجهات مسلحة عنيفة أصابته رصاصة ،فتراجع رفاقه محملين به لمداواته ، لكن عبثا ، فقد توفي البطل ساعات بعد ذلك ؛ ولأن رفاقه قرروا أن لا يتركوا جثته للإسپان ، فقد حملوا جثمانه وتوجهوا به صوب جبل العَلَم حيث ضريح مولاي عبد السلام الذي تضم مقبرته خير مقاومي جبالة .
هناك دفن ، وهزت وفاته مناطق الشمال كله . وبتأثر سيكتب عنه مراسل أ ب ث ABC الإسپانية بصفته الرجل الذي فضل المقاومة والموت بدلا من الاستسلام ، حيث يقول :
« توفي الخريرو ، والجبال حزينة ثكلى أن سقط آخر زعمائها الكبار ، فكل المعابر وكل الأشجار وكل الفجاج هناك تعرف قيمة الرجل . واليوم تمنح آلاف الأشجار المحيطة بأقدم مرابطي المغرب بجبل العلم ( مولاي عبد السلام ) ظلها لروحه النائم جسدها في قبر منها هناك .»


(عن مجلة «زمان » عدد شتنبر 2012)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى