رشا بكر - انكسار وانعكاسات

تتوثب دفقة من ضياء الفجر على ظهر السحب الصامدة، أجر خلفي قدمين قد أصابهما التنميل، أغمغم بحكاية العاشقين اللذين سكنا البناية الزجاجية المقابلة، وكيف انقضت تلك الليلة التي اتفقا فيها على أن يغرقا في بحر النسيان.
ما زلت أذكر ذلك العشاء الذي كنت أراقبه.. كانت المرأة ترتدي فستانًا قصيرًا قاسي المقاس، تحيط برأسها هالة بحمرة الزعفران، وكانت عيناها الواسعتان تطلقان نظرات جهنمية، ورغم اتساع العينين فهي لم ترَ بهما سوى الأحلام.
على الحائط المدهون باللون الأخضر الضارب إلى الزرقة ثمة سيف معلق، صور ونياشين، فراء ثعلب مترب، وآثار من الإرث الذي خلفه الأجداد للأبناء.
أخرجت المرأة من الخزانة طاقم الصحون الخزفية المزخرف الذي أوصتها أمها أن تعتني به جيدًا، لكن الوصايا تبددت على مائدة الطعام، وامتلأت الصحون عن آخرها بأصناف المأكولات، وانهمك العاشقان في تناول عشائهما كيفما اتفق، وتبادلا نظرات السخرية، وبعد أن أكلا رميا الصحون المتسخة من النافذة، واختلطت أصوت الضحكات بصوت تكسير الصحون.
لم يكن ذلك العاشق الأول في حياتها، فالمرأة الناضجة بوجهها ذي الملامح المغوية كانت محطًّا للهوى، لم يتوصلو أبدًا إلى الجملة السحرية التي ستفتح أبواب كيانها.
كانت الأضواء في البعيد ترتعش.. تومض وتخبو، انكسار ضوء أعمدة الشارع النافذ إلى عالمي يضيء أركان بيتي بضوء شبه معتم.
أسدل ستار الذكريات وأغلق النافذة، أتراجع خطوات فترتطم قدمي المنملة بحافة المقعد، أعض على شفتي السفلى من شدة الألم. إنه ألم الخدر.. ألم عجيب يؤلم بلا ألم لكنه موجع حقًّا .
أفتح ثقوب عيني على عوانها، وأتحسس طريقي وسط ظلمة سديمية عجت بها أرجاء المكان،
أقع مرة واحدة ثم أنهض، أتعرق من حرارة الجو على إثر توقف المروحة الخربة، أسأل يدي أين أضعتِ مروحة اليد أيتها الشقية؟ إننا لا ندرك قيمة الأشياء إلا بعد فقدانها.
تذكرت اليد وأشارت نحو المنضدة الصغيرة ذات الطراز الكلاسيكي والتصميم العتيق، وجدت مروحة اليد التي كانت مستلقية في حالة استرخاء مؤقت. توارثتها نساء العائلة، كانت قديمة جدًّا، قماشها قد اهترأ، ريشها صار منتوفًا عن آخره ولم يعد فيها أثر لنقوشها الزاهية، وعندما فتحتها بدت مجرد هيكل عارٍ كأغصان الشقاء.
الحزن خيمة ننصبها بأنفسنا المنهكة من وعثاء أسفار الحياة، نعيش وسط صحراء العزلة، لا زرع لا مطر لا ماء.. لا رفيق ولا شغف، الجميع لا يحفظ سوى عبارة باهتة “لكي تعيشي الواقع لا بد من أن تنفصلي عن عالم الأوهام”، وأنا قلت: “لكي أعرف الحقيقة ينبغي أن أنعزل داخل فقاعة من خيالاتي”، أشعل داخلها بحرًا من الحطب وأجر خلفي سفينة محملة بكنوز جزيرة من جزر الأحلام، أن أستلقي فوق سحابة مصلبة الساق فوق الساق، لكن الفقاعة هوت بي إلى الأرض وانفجرت حيث اصطدمت بغبار الزجاج المهشهم كحبات السكر، أجري، ثم أنزوي خلف أرجل المناضد الصغيرة ، صرت بحجم عقب السيجارة المنطفئة، حتى إنني دلفت من تحت باب الحجرة التي كنت ممنوعة من دخولها بأوامر صارمة موروثة، الغرفة كانت مضاءة دون مصدر للنور، اقشعر بدني وشعري استقام وشعرت بقامتي وهي تمتد وتستطيل فأعود في حجم المرأة الناضجة.
حجرة المرايا كلها من المرايا، لم تكن ذات نوافذ أو شرفات، خلا حفرة صغيرة في الأرضية ماؤها من الزئبق كانت تسبح فيها طيور الحب، مددت إصبعي أتلمسها تتمعج تموجات من دوائر متداخلة، أمام المرايا زفرت بندى أنفاسي وكتبت حروفًا ومحوتها، ثم تفحصت صوري المنعكسة على طول المرايا وعرضها والسقف والأرضية، أقف وسط انعكاساتي الكثيرة التي كانت تبتعد وتقترب وتبتعد حتى تلاشت وازدحمت الغرفة بنساء لا يشبهنني، وعادت صورتي فوجدتني أرتدي نفس الفستان القصير قاسي المقاس، وفوق رأسي ذات الهالة الزعفرانية، الفستان كان يقبض على أنفاسي وكنت أجاهد كي أمسك بملامح وجهي التي تطايرت وحطت على كتفي كما يحط ضوء القمر المتنامي على أكتاف الليل، أنا سيدة الصمت، أنا حبيسة صمت المرايا.. أريد أن أكون حيث أستطيع ألا أرى نفسي، أريد أن أكون حيث لا أضيع مرتين.
بينما الحزن يمر أمام الأعين، حزن لا يمكن أن يكون مرئيًّا أو يلقي بظل حضوره، بل كان ناخرًا في العمق متخفيًا، المرايا التحتية تعكس كل ما حرصت على إخفائه عن الأنظار، ربما كنت من محاربات الرومان ذات عصر، أو صورة لهيلنا التي لم تخشَ شيئًا ذات حظ عظيم، ربما استشهدت وكانت لي صلاحية الاختيار فاستبدلت بخيولي جمال وجه في هذه الحياة.
المرايا تنشع بشخوص أعرفهم، نساء تتضاعف أعدادهن بفعل الانعكاس، تزدحم الغرفة حتى إنني لم أجد موطأ قدم أو شيئًا من الهواء أتنفسه. أحدق في انعكاسي عبر مساحة صغيرة من المرايا، ورأيت أمراة لم تعِ الجوهر الحقيقي للحياة، لكني أدركت أن عرق الخوف كان السبب في حجب صورة وجهي تحت كل هذه الكتلة من الغيوم.
الصمت فقد رونقه وبات ثوبًا مهترئًا ما عاد يغطي بقدر ما يكشفه من العري، أدفع بنفسي إلى الأسفل، أغوص عبر الفجوة الزئبقية وأهوي على سفح جبل حاولت تسلقه سلفًا، لكني حرصت هذه المرة على ملاحقة الكهوف التي كانت تغريني، أحاول أن أمط فمي بأصابعي كي أرسم فوقه السعادة، إن السعادة ليست لها قدمان تقفز بهما أو صوت ضحك محدد.
اجري عبر الممرات الضيقة، إلى جوف كهف عميق نمت فوق جدرانه أنياب الجليد، أسنان مدببة كفم ذئب قد ابتلع فريسته توًّا، أبطئ السير.. أتلمس برودة الجدران، لكن الثلوج المسسنة خدشت أصابعي، أحاول أن أتأمل ما وراء تلك الثلوج، ولكي أعي ما يدور خلفها لا بد أن أتخذ وضعية الوقوف.. إن الحقيقة ما هي إلا امرأة لاهثة توقفت لحظة لكي تتمعن التفاصيل، كان ثمة شيء أشبه بعصفور يذكرني بنقش رأيته على جدار معبد آمون، ذات أصيل استسلمت فيه للنوم حتى إذا أخذت الشمس تغرب عكست مقطعًا جانبيًّا لوجهي على جداره، فانطبع وصار كنقش من نقوشه. رأيت أيضًا تفاحة مقلوبة بجوار نرد تعب من مرات تداوله عبر الأيدي، أمنيات مغطاة بالقش، تمثال سيدة يتشعب من كفها النور. تذكرت أني قد نسيت أمر المرأة والرجل في البناية الزجاجية المقابلة، وعدت إلى النافذة كي أراقب انعكاس الذكرى من خلف الستار، وقلبت الأحزان على جمر الدموع المتشرذمة، لكني توقف عن البكاء حينما اكتشفت أنه لم يكن الحزن الذي استشعرته لي أنا، بل كان حزن شخص آخر تفصل بيني وبينه المسافات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى