امتياز دياب - زرعنا بحر في قلنديا

جلس أبو علي أمام طاولة مستديرة في مشتل ابنه علي. على مدار الأعوام العشرة الأخيرة، يشرب قهوته الصباحية اليومية، يجول بنظره على النباتات والزهور المتدلية من أُصُصها. يستمع إلى طلبات الزبائن من ابنه دون أي تدخل في رغباتهم (أو عدم رغبتهم) في زهرة أو شجرة بعينها، يستمع فقط.
كان أبو علي يقف أحيانا أمام كرسيّه، يتلفّت بعنقه إلى اليمين والشمال، مثل زرافة، دون تغيير في ملامح وجهه، يعاود الجلوس، يزرع نظره في قلب الزهور الملونة، أو يتابع نحلة تطن بجناحيها فوق زهرة قرنفل.
يتنقل علي بين الأصص حاملاً طلبات الزبائن، يقول لكلّ زبون إنّه يبيع بسعر الجملة تقريبا، بسبب نيته بيع كل ما في المشتل، لأنه اتفق مع صاحب الأرض على أخذ حصة من قطعة الأرض بشرط تنازله عن عقد الإيجار القديم. مساحة تكفي لبناء عمارة مستطيلة بسبب صغرها، لكنها تفي بحلمه بتأجير الشقق والعيش برغد، دون بذل أي جهد يذكر. بصق علي على أصص الزهور تأكيداً على قرفه من العمل المضني الذي لا يجلب خبز يومه.
نظر أبو علي نحو البصاق الذي علق في ورقة زهرة، قام من كرسيّه حاملا منديلا ورقيا وجفف ورق الزهرة، مربتا عليها بأصابعه العجوز متأسفا لها عما بدر من ابنه الغليظ القلب. عاد وجلس على كرسيّه
ملتفتا برقبته التي دارت مع نظراته تمسح ألوان الزهور والنباتات.
بعد شهر واحد، كان أبو علي واقفا في هيكل شجرة الإسمنت التي حلّت مكان المشتل، وقف في الزاوية التي كانت تحتل طاولته وكرسيّه، وقف دون فنجان قهوته، وقد تهدلت رقبته على صدره، وسال مخاطه المغبرّ على شفتيه. لم يسارع إلى مسحها، نامت نظراته على قطع الحديد والخشب والمسامير المتناثرة، ضاعت أنفاسه تحت ضجيج الحفر والدق والصبّ.
بعد شهر آخر، سارت جنازة حاملة جثمان أبو علي نحو مقبرة القدر، ودفن في قبر فرشوه بغطاء من إسمنت وشاهدة من رخام أسود. وضعوا أمامه أصصاً فخارياً مليئاً بنباتات جفت أوراقها وسقط بعضها على بصاق أحد المارة. ولم تمتد يد أبو علي لمسح البصاق من فوق قبره.

***
بعد جنازة "بيريس"، مهندس مجزرة قانا وأحد مهندسي اتفاقية "أوسلو"، وسير الرموز الفلسطينية وراء جثمانه، فهم الجميع أنّ رام الله العاصمة لم تعد مؤقتة!
تتحول رام الله إلى مقبرة كبيرة من أشجار الإسمنت، تُنزع كل نبتة خضراء، يهدم كل بيت له "بلاكين" مع عقود عربية الهوية.
تسير في شوارع لا أرصفة لها، احتلتها عمارات اقتلعت جدرانها أشجار الزيتون والخروب والبلوط، وقتلت العجائز الذين زرعوها، حسرة على أيام زمان وحلاوة زمان وزيتون زمان وهواء زمان وبرقوق زمان الذي كان ينتشر تحت أشجار الزيتون، ويُقْطف فقط لِيلوِّن بيضاً مسلوقاً لعيد "خميس الأموات"، ليأكله الصغار مع الخبز الذي اكتسب لونه الأصفر من الزعفران الأصلي الذي استُورِد على ظهور الحمير من بلاد فارس.
في الدولة المؤقتة، تحولت مفردات مثل الذاكرة والمكان والتراث وحرية التنقل والعودة... إلى ممنوعات يعاقب عليها القانون الممول والمصنوع في دكاكين الدول المانحة المنتشرة في المكان والأرواح مثل الطاعون، تُرسِل كل من بقيت من الأرواح المنهكة إلى جوار أبو علي التي زهقت روحه تحت شجرة إسمنت، افتتح في جوفِ جذعِها الإسمنتي مقهى يَشرب فيه كل من انتفع بأموال المانحين.

***

على ناصية أحد الأرصفة، من منزل صمد بجدرانه وعقوده الدائرية، كان بيت المربي خليل السكاكيني الذي أصبح منبر الشاعر صاحب صرخة "هذا البحر لي". تحت سقفه تكاتف من بقي خارج المنظومة المدعومة من الوحش الغربي، وصرخوا معا في محفل قلنديا الفني "هذا البحر لي"... أمام طائرة مقطوعة الأجنحة (رمز محفل قلنديا الفني)، لتمثيل استحالة السفر من مطار قلنديا المغلق واستحالة الحركة واستحالة العودة.
لتصل إلى "محفل قلنديا الدولي" عليك السير في شوارع رام الله، العلبة الإسمنتية، وعليك تفادي عجلات ثلاثة آلاف سيارة تاكسي إلى جانب خمسين ألف سيارة أخرى، جميعُها تنبح بأبواقها الغاضبة على المشاة الذين لا يملكون أجرة ركوبها، كما لا يملكون الحظ بالسير على شوارعِها لضيقِها بِهم. تسير بينهم وهم يشتمون ذاكرة مهندس المدينة الذي غاب عنه أن المدن لها أرصفة، لا تبعجها أشجار حديقة بضيق القبور، احتلّها صاحب العمارة طمعا بمتر إضافي على حساب عجوز باعوا شجرة التوت التي كانت عظامه تستكين في ظلها الأخضر.
تدخل باب "مركز خليل السكاكيني" الأديب المعلم، وتكاد تسمع نشيد الثورة العربية الذي كتبه خليل بدمه الفلسطيني وبعروبته المسيحية، "يا علمي ـ يا علمي
يا علم العرب أشرق واخفق في الأفق الأزرق يا علم،
من نسيج الأمهات في الليالي الحالكات يا علم، يا علم،
لبنيهن الأباة كيف لا نفديك؟ كل خيط فيك
دمعة من جفنهن خفقة من صدرهن قبلة من ثغرهن يا علم...".
تجتاز عتبة البوابة وتسمع صوت جمانة عبود إحدى الفنانات المساهمات في محفل قلنديا الفني، تهمس من "حصار حصارها" بمناشدة للحوت ألا يأكل القمر، لأنه بضوئه تغتسل جنّيات عيون الماء التي لحقت بهن، مع عيسى فريج رفيقها في البحث وعشق العيون المسكونة بحكايات شخوصها محوكة من خيوط استعارها خليل السكاكيني ليكتب فيها نشيد علم الثورة العربية الذي انطلق من مكة المكرمة.
ترى مجموعة من صناع الفن الفلسطيني، ربما هم أحفاد أو امتداد لروح خليل، الشاعر المعلم، ها هو يزن الخليلي الذي يحمل الاسم نفسه لمن رسم الطائرة المكسورة الجناحين، وها هي لارا الخالدي تنظر حولها كطفلة تائهة على رمال البحر. وربما هم امتداد لروح محمود درويش الذي استعاروا من أشعاره "هذا البحر لي" للتعبير عن طموحاتهم الإنسانية، كما يقول جاك برسكيان "ذلك الشاعر المبدع الذي ربط قضيتنا بقضايا الشعوب المضطهدة في العالم، والذي أنسن القضية الفلسطينية، وحوّلها ببساطة إلى قضية كونية تهم كل من ينتصر لقيم الحرية والعدالة".
نحمل تعويذة درويش الكونية، على ظهر "الحصان الوحيد"، ونخبّ بين الخيوط الملونة التي تطرز أحلام سليمان منصور، يلتقي مع خالد حوراني وسليم تماري في حلمهما عن مشهد البحر في الوجدان الفلسطيني. يسير الموكب الفاضل على الأمواج نحو المتحف الفلسطيني الذي يفتح بابه على تاريخ الحكايات أمام العالم.
يسير الموكب في شوارع رام الله وهو يقفز فوق القمامة التي قذفت بها أيدٍ ضاقت بها الدنيا فضيّقت دنياها أكثر برائحة قمامتها.

امتياز دياب







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى