المستشار بهاء المري - قضايا فكرية.. محاكمة العقاد بتهمة العيب في الذات الملكية

تضمن دستور سنة 1923 في المادة 23 نصًا على أن: "الملك هو رئيس الدولة الأعلى، وذاته مَصونة لا تُمس" وأعطاه حق التصديق على القوانين وحَل مجلس النواب، وتأجيل انعقاده.
وفي يناير سنة 1930 تولى مصطفى النحاس الوزارة بعد سقوط وزارة محمد محمود، بعد انتخابات حرة أجراها عدلي يَكَن وكان من نتيجتها فوز الوفد بالأغلبية الساحقة في البرلمان، وكان العقاد أحد الذين نجحوا في الانتخابات كنائب وفدي، ولكن الملك فؤاد لم يهدأ له بال، بقيام هذه الوزارة الشعبية المُؤَيَدة بأغلبية برلمانية ساحقة، وأخذ الملك يتآمر على الوزارة حتى انتهى به الأمر في شهر يونيو من نفس العام، إلى تعطيل مشروعات القوانين، التي كانت الوزارة تُقدمها إليه لتوقيعها، وأصبح عمل الوزارة مستحيلاً. فقدم النحاس استقالته إلى الملك، وفي يوم تقديم الاستقالة وهو يوم 17 يونيو سنة 1930 حضر النحاس إلى جلسة مجلس النواب المُنعقدة في اليوم نفسه، وأعلن تقديمه للاستقالة لأنه لم يستطع تحقيق أهداف هذه الوزارة في صيانة أحكام الدستور، وإحاطته بسياج من التشريع، يكفل له حياة متصلة ونموًا مُطردًا، وغادر النحاس مجلس النواب ومعه وزرائه بعد أن ألقى بيانه.
وهنا وقف الدكتور أحمد ماهر وقال للنواب: "لقد سمِعتُم بيان حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، فيجب أن تَسمع الأمة صوتكم اليوم، نعم يجب أن تَسمع البلاد تأييدكم لصاحب الدولة الرئيس في موقفه المُشرِّف، وقُوبلت كلمة أحمد ماهر بالتأييد والحماس، وأعلن مجلس النواب الثقة بالوزارة، وفي جو من الحماس الذي أثارته كلمة الدكتور أحمد ماهر، وقف العقاد في مجلس النواب ليقول كلمته.

- ماذا قال العقاد:
- قال العقاد تحت قبة البرلمان إنَّ هذا المجلس مُستعد أن يَسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته، لقد كان في مصر وزارة طاغية (يَقصد وزارة محمد محمود باشا) وقد طلَبَتْ إلى صاحب الأمر إيقاف الحياة النيابية وتعطيل الدستور وحماية حُكمها، فأجُيبَت إلى طلبها، واليوم في البلاد حكومة دستورية تطلب صيانة الدستور؛ فتُوضَع في طريقها العَراقيل والعَقبات، والحشرات التي لا تعيش إلا من دماء الأمّة، فماذا ننتظر بعد هذا، هل هناك شك في أنه من الواجب أن يُصان الدستور»؟!

- إحالة العقاد للتحقيق:
بعد كلمته تحت قبة البرلمان، توالت مقالات العقاد في صحيفة "المُؤيَّد الجديد" والتي تُهاجم الرجعية وأعداء الحرية والدستور، حتى أُحيل للتحقيق في 12 أكتوبر 1931 وقررت النيابة حبسه إلى أن تَمت محاكمته في ديسمبر 1930 وانتهت بحبسه تسعة أشهر قضاها كاملة وخرج من السجن في 8 يوليو 1931.
وأُحيل إلى التحقيق والمحاكمة مع العقاد، محمد فهمي الخضري مدير الجريدة، بسبب قيامه بنشر مقالات العقاد التي اعتبرتها الحكومة عَيب في الذات المَلكية. وعوقب بالحبس ستة أشهر حبسًا بسيطًا.

- قرار الاتهام:
- اتهمت النيابة العامة محمد الخضري بصفته مديرًا لجريدة "المؤيد الجديد" وعباس محمود العقاد:
- الأول: عابَ عَلنًا في الذات الملكية بأن نَشَر مقالات في الأعداد 21، 22، 25، 26، 33، 36 الصادرة في 9، 10، 13، 21، 24 سبتمبر 1930 تشتمل على عبارات العَيب.
- الثاني: بصفته شريكًا للأول في الجريمة المتقدمة، اتفق معه على ارتكابها، وساعده مع عِلمه بها على الأعمال المُسهلة والمُتممة لها، بأن حرَّر المقالات الواردة في الأعداد المتقدمة، وسلَّمها إليه فنشرها، وقد وقعت الجريمة فعلاً بِناء على ذلك الاتفاق والمساعدة.

- المحاكمة:
أُحيل العقاد، ومدير الجريدة، إلى محكمة الجنايات برئاسة عبد العظيم راشد باشا، وعضوية مصطفى حنفي بك، ويس أحمد بك، وكان ممثل الاتهام محمود منصور بك رئيس نيابة مصر الأهلية، وكان محامي العقاد هو الأستاذ مكرم عبيد باشا.
اهتمَّ الرأي العام بمُتابعة أحداث القضية وكذلك الصحافة، وفي يوم بدء المحاكمة 22 ديسمبر 1930 كتبت جريدة الأهرام تقول:
"نظرا لاهتمام الجمهور بالمحاكمة، وتَرقب البوليس ازدحام الجلسة، فقد أرسلت الحكمدارية قوة كبيرة من البوليس لحِفظ النظام، وكانت تلك القوة وفيرة العَدد ولكنها مع الأسف لم تتمكن من ضبط النظام، وأخفقت في مُهمتها بالرغم مما أظهره فريق من رجالها من عُنف واستعمال شدة وتطاول على الكثيرين وهو مما يُؤسَف له، وقد أحضر رجال البوليس في الساعة الثامنة الأستاذ العقاد، يَحرسه أحد الضباط، وأُجلس في قفص الاتهام مع الأستاذ الخُضَري، وفي منتصف الساعة التاسعة فُتحت قاعة الجلسة، وتَدفق الجمهور إليها واحتلَّ جميع المقاعد بما فيها مقعد الصحافة، فاضطر مندوبو الصحف إلى التشتت والجلوس في المقاعد الخلفية، والوقوف على الأقدام

- مرافعة الأستاذ مكرم عبيد عن الكاتب عباس العقاد:
تولَّى الدفاع عن العقاد الأستاذ الكبير مكرم عبيد في واحدة من أشهر وأهَم المحاكمات السياسية في مصر سنة 1931 بل تُعتبر مرافعته في هذه القضية نَموذجًا بديعًا للباحثين في القانون، ونموذجًا هامًّا للأدب القضائي الُمتميز لرجال القانون، وفوق كل هذا مِثالاً مُشرفًا للوطنية الصحيحة، والثقافة الدينية غير المُتحيزة لدين بعينه، وصورة مُحايدة للتفكير الوطني القويم دون حساسية بين مسلمين ومسيحيين.
- قال مكرم عبيد يا حضرات المستشارين:
لقد سمعتم مرافعة النيابة، وتبينتم ما فيها من جهد - بل واجتهاد - في التدليل والتخريج والتأويل، ولو أنكم تفضلتم فألقيتم نظرة واحدة إلى خارج المحكمة حيث القوات تتوزع وتتجمع، وأخرى إلى قفص الاتهام في ذاته لاقتنعتم بأن القضية المعروضة على حضراتكم إنْ هي إلا مأساة يَنفطر لها القلب، أكثر منها قضية يَنسجم لها البيان.
ذلك هو الوضع الصحيح للقضية، فهي مأساة أمَّة تمثَّلت في مأساة فرد،‏‏ ولكنَّ النيابة رأت أن تَتملَّص من الجوهر إلي المَظهر،‏ فرسمَت لنا من تُهمة باطلة صورة هي أشبه الصور بالحق،‏‏ وإن لم تكن من الحق في شيء‏، وفي ذلك خطر هو كل الخطر، فإنَّ أخطر الباطل وأشده تضليلاً ليس ما بينه وبين الحق هُوَّة سَحيقة، بل هو الذي يَفصله عن الحق طلاءٌ خارجي أو قشرة رقيقة.
لذلك أرى لِزامًا عليَّ أنْ أعرضَ للمحكمة الصورة الحقيقية لهذه القضية، مُجردة من كل طِلاء، عارية من كل رياء، وأن أُبرز ما خَفيَ من عواملها وما ظهر، إذ بغير ذلك لا يَتسنى ليَ أن أقوم بمهمة الدفاع فيها.
والواقع أنَّ هذه القضية التي تبدو في الظاهر بين النيابة والأستاذ العقاد، هي في الحقيقة بين الرجعية والدستور،‏‏ أو هي بالأحرى بين مبدأي التأخُّر والتقدم،‏‏ أيًّا الشكل الذي قد يتخذه كل من هذين المبدأين أو الاسم الذي يَتسمَّى به في مُختلف الأزمنة والظروف،‏ وما العقاد إلا خَصم للرجعية عنيد‏، انهال عليها بضربات قتَّالة‏‏ رأت ألاَّ قِبل لها به؛ فاعتزمت أن تُنكِّل به قبل أن يُنكِّل بها، ولمَّا لم تَقوَ على مُجابهته وجهًا لوجه، فرَّت إلى السُّدة المَلكية تتعلق بركابها، وتتمسّح بأعتابها، ولم تَستح أن تتخذ منها ستارًا لعيوبها، فأسندت العَيب للذات المَلكية والعَيب كل العَيب منها.
ولكن: ما هي الرجعية التي عناها العقاد؟ هي كل فكرة أو هيئة أو شخص مسئول عن العَبث بالدستور، أو بحريات البلاد في أي زمن من الأزمان، وبما أنَّ نفس الدستور الذي استمات العقاد في الدفاع عنه يقضي بأن الملك غير مسئول، وأن ذاته مصونة، فلا يُمكن أن ينصرف لفظ الرجعية إلى الذات الملكية لا موضوعًا ولا قانونًا.

- يا حضرات المستشارين:
لو أنَّ هذه القضية‏‏، هي الوحيدة من نوعها، لجاز أن يكون تصويرنا لها وتعليلنا لأسبابها مَحل ريبة وتَشكك، ولكن الدليل لا يُعوزنا على أنَّ الرجعية في صراعها الدائم مع خصومها طالما لجأت إلى مثل هذا السلاح المَعيب وهو التَحكك بالعرش وشخص الجالس عليه، من غير أن يكون للعَرش أي شأن من قريب أو بعيد في الخصومة، وإليكم بعض الأمثلة على ما ذكرناه، وهي أمثلة رائعة لا يأتيها الباطل من أي ناحية من نواحيها:

- قضية عيسى ومحمد عليهما السلام:
منذ أمدٍ بعيد، ينَيف علي الألف وتسعمائة سنة‏، ظهر بين الناس رجلٌ من رجال الله الأطهار‏ هو كلمة الله وروح منه،‏ ولكنه كان بَين الخلق متواضعًا فقيرًا‏، لا يكاد يكون لجسمه غطاء ولا مأوى‏، حتى أنه كان يقول عن نفسه:‏ إن لِطيور السماء أوكارها، وليس لابن الإنسان مأوي‏" وكانت رسالته إلي الناس أنْ اعبدوا الله عبادة الرُوح والحق‏، وانبذوا من الدين تقاليد الرجعيين من رجاله‏، إذ هي ليست من الدين في شيء‏.
خصومة دينية كما تَرون‏، ولكن الرجعيين من رجال الدين لم يجدوا سبيلاً للانتقام من خَصمهم؛ إلا أن يَنصبوا له شِراكًا ليتَّهمُوه بعدم الولاء لقيصر صاحب العرش‏‏، ورغم قوله صراحةً: "اعطوا ما لقيصَر لقيصر، وما لله لله" فإنهم شكُوه إلي الحاكم الروماني مدَّعين أنه طعَن علي قيصر، ولو أنَّ الخُصومة لسان النيابة المصرية، لقالوا بالأمس ما تقوله هي اليوم "إنه عابَ في الذات الملكية".
ألا ترَون يا حضرات المستشارين كيف تلجأ الرجعية‏ حتى في المسائل الدينية البحتة، التي لا شأن لها بالملِك ولا بالملوك إلى الانتقام باسم المَلكية‏؟ وهل لا ترَون بأنَّ الرجعية هي اليوم والأمس وإلى الأبد واحدة في تفكيرها وتدبيرها؟
ساقوا المَسيح عيسى إلى المُحاكمة، فأخذت الحاكم الروماني رَوعة مِن رَنَّة صوته وجلال صَمته، ولما تبينت براءته من كل عيب أُسقط في يده، ولم يدر ما عساه يفعل، ولعله أحسَّ في النفس حسرة، أو خشي من الضمير ثورة، فأمر بإحضار إناء من الماء وغسل يديه أمام الجميع، ثم صاح قائلا: "إني بريء من دم هذا البار" ولكن وأسفاه رغم مسؤوليته وإعلان حياده التام: سُلِّمَ المتهم البريء إلى خُصومه من الرجعيين، وكان اسمهم وقتئذ الفرنسيين، وأمر جنده من الرومان أن يرقبوا التنفيذ، فأحاطوا به مُهددين مُستهزئين.

- الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم:
لم يكد يَمضي على هذا الحادث الجليل بضع مئات من الأعوام، حتى ارتفع من صَحراء العرب صوتٌ عذب، يُنذر الكافرين فتَهلع النفوس لدويّه، ويُبشِّر المؤمنين فتَتفتح القلوب لِوَحيه.
بدأ الرسول الأمين بتبليغ رسالته إلى بنى قومه، فدعاهم إلى عبادة ربه وتحطيم أصنامهم، وما كان لقومه وقد عرَفوا فيه الأمانة والقناعة والوداعة أنْ يُسندوا إليه مَطمعًا خفيًّا، أو يَظنوا إنه كان يبغى من مَتاع الدنيا شيئًا؛ وهو الذي كان يدعو باسم ربه إلى الآجلة دون العاجلة.
ولكنَّ زعماء الجاهلية الأولى، والجاهلية هي الرجعية، اتهموه بالطعن على حكومتهم، والطموح إلى سلطانهم، وتَمادَى بهم الوهم إلى حدِّ أن عمَّه أبا طالب فاتحَهُ في ذلك، ولوَّح له بالحكم والسلطان على أن يتنازل عن رسالته، فما كان من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا أنْ قال له: "يا عَمّ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمرَ في يَساري؛ على أنْ أتركَ هذا الأمر ما فعَلتُ؛ حتى يُظهره الله أو أُهلَكَ دونه".
إذن يُستخلص من هذين المَثَلين الرَّهيبين، اللذين هما مَحل إيمان وإجماع، على أنَّ الرجعية لا تتورَّع حتى في المسائل الدينية البحتة في التَحكُك بنظام المَلك أو بشخص ولي الأمر، وذلك تحقيقًا للنِّكاية لهم، وإمعانًا في الانتقام منهم.
فكيف الأمر في قضية كقضيتنا هذه، تتصل مباشرة بالشئون السياسية والنُظم الحكومية؟ هل من عَجبٍ إذا كانت الرجعية السياسية أو الحكومية تنقم على الأستاذ العقاد دفاعه الباسل عن المبادئ والنُظم الدستورية، فترميه بتهمة العَيب في الذات الملكية، وترى من السهل عليها أن تَقلب بشيء من التحوير والتفسير والتنقيب بين السطور الطعن البريء في نظام الحكم إلى العَيب في شخص الملك؟
ولا عجَب ولا غرابة، بل الغريب أنْ تَطلَّب من الرجعية أساليب غير رجعية، ولا حياة للرجعية في جوٍّ من الإنصافٌ والحرية.
ولكي تتبينوا حضراتكم الأسباب الحقيقية التي دَعَت إلى رفع هذه القضية، وهي كما ذكرنا أسباب كيدية، وجبَ تَتبع أدوار هذه القضية، فهي أولا نفسية العقاد فيما كتَب، ثم نفسية خصومه وأساليبهم، ومتى وضحَت لنا هاتان النفسيتان أمكننا أن نَفهم التهمة على صحتها، سواء من جهة الواقع أو التكييف القانوني.
لقد شَحذ العقاد قلمه ولسانه وفكره - وهي كل أسلحته - لمحاربة الرجعيين والذَّب عن دستور الأمة الذي أقسَم يمين الولاء له والدفاع عنه، وما كان لمثل العقاد أن يَحنث بيمينه، وفي المقابل هناك عقلية أخرى، عقلية وزير تَسنَّم ذروة الحكم على أنقاض الدستور، وكان مُبيتًا النية على هدم الدستور حتى قبل أن يتولى الحكم، ولكنه كان مُضطرًا أول الأمر لمُداراة الرأي العام حتى لا يَصدمه صدمة عنيفة من جهة، وحتى يَتسع له الوقت لحَبك الدسيسة من جهة أخرى، لذلك أعلنت الوزارة عند تكوينها أنها لن تعتدي على الدستور أو تَمسه بسوء، وكان جُل همّها أن لا تفتضح نياتها للناس حين يَحين الحين لمُباغتتهم بها، ولكن رجال الصحافة وفي مقدمتهم الأستاذ العقاد سَخَّروا أقلامهم لفضح ما خَفيَ من النيات بما ظهر من الأعمال المُنافية للدستور، فبادرت الوزارة إلى غل الأقلام وساقت بعض الكتّاب فيها إلى الاتهام، ثم تدرجت من هذه إلى تعطيل الألسن بمنع الاجتماعات والقبض على الأفراد، ولقد ثارت لهذه الإجراءات الخانقة نفس العقاد الحرة، فكتب بقلم من نار مُحذرًا الوزارة وأنصارها من مَغبّة هذه الأساليب الرجعية، مُنذرًا إياهم في إحدى مقالاته بأنه إذا حُطمت الأقلام فالألسن تنطلق، وإذا كُممت الأفواه فالأنفس تَشتعل، وكأنه يقول مع القائل:
كسروا الأقلام هل تَكسيرها = يَمنع الألسن أن تنطلق جَهرَا
قطعوا الألسُن هل تقطيعها = يَمنع الأعين أن تنظر شرَرَا
أغمضوا الأعين هل إغماضها = يمنع الأنفاس أن تخرج زَفرَا
ذلكم بيان موجز لنفسية العقاد ونفسية خصومه، ومنه تَرون أن العقاد كان له نصيب الأسد في محاربة الرجعية، فلا عجب أن يكون له أكبر نصيب من نقمتها.
- يا حضرات المستشارين:
لا يعرف الشوق إلا من يُكابده = ولا الصَّبابة إلا مَن يُعانيها
لقد كنتُ نزيل السِجن في وقت من الأوقات، فإذا حدثتكم عن معيشة السِجن في الزنزانة فهو حديث الخبير ولا فخر.
تصوروا حجرة صغيرة جرداء وكأنها جُحر، ليس فيها نافذة يُطل منها السجين، وبجوار سقفها كوَّة تُطل هي على المسكين، أما الشمس فلا تدخلها مُطلقًا، بل من الساعة الرابعة بعد الظهر يدخلها الظلام ويبيت فيها حتى الصباح، إذ أن النور نِعمة حُرِّمت على السجين، ولم يَنعم بها العقاد إلا منذ أيام قليلة كما أخبرنا حضرة رئيس النيابة، ثم إن الزنزانة تظل مُغلقة صباح مساء، إلا عند الخروج لحاجة أو لرياضة في حوش السجن مرة أو مرتين، وبما أن ليل الزنزانة يبدأ حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، فليس في مقدور السجين أن يقرأ كتابا أو جريدة، بل كل ما يقدر عليه هو أن ينام أو لا ينام.
صوروا لأنفسكم حياة رجل مُفكر مُتحضر كالعقاد في مثل هذا الجُحر، ثم صوروه لأنفسكم مريضًا بصدره في حجرة مرطوبة لا تدفئها شمس ولا نار، لا سيما وأنه قد أصيب من زمن بداء الرئة، ثم إذا لم تزعجكم الصورة فصوروه لأنفسكم مريضًا بأمراض أخرى كالأعصاب والمَعدة والحنجرة والزكام المُزمن، ولكن ما حاجتكم إلى الصورة وقد رأيتم بالأمس وترون اليوم مرسومًا على جبينه أثر ما عاناه من الآلام التي كادت تُودي به إلى رمسه، لولا رحمة من ربه وقوة من نفسه، وقد رفع العقاد الشكوى إليه وإليكم.
هل تريدون مِنِّي بعد ذلك دليلاً يا حضرات المستشارين على أنَّ القضية المرفوعة على عباس العقاد إنما هي قضية كيد وانتقام؟ وهلا تَرون الآن لماذا حُوكم المتهم وقد رأيتم كيف عُومل المريض؟ وهلاّ ترون أنَّ الرجعية مُمثلة في الوزارة الحالية أرادت أن تُحطم هذا القلم الجبار.
- عبارة "أكبر رأس في الدولة":
- قال مكرم عبيد باشا: أما رواية أكبر رأس في الدولة التي قالتها النيابة في مرافعتها أمام قاضي الإحالة بأن قالت: "ولكن المقالات قد حوت أكثر مما يُظن وأبلغ في الإجرام، وهو المساس بأكبر رأس في الدولة ... تلك العبارة إذا قيلت لا يمكن أن تنصرف لأي شخص غير شخص جلالة الملك".
فليسمح لي حضرة رئيس النيابة أنه بفرض أنَّ العبارة قِيلت في مجلس النواب بالشكل الذي قيلت به، فليس للنيابة قانونًا أن تستعملها ضده كدليل، أو بأي طريقة من الطرق، إذ ليس لها أن تحاكمه عليه طبقًا لنص الدستور، هذا فضلا عن أن العبارة كما جاء في كوكب الشرق: "إن البلاد مُستعدة لأن تَسحق كل رأس يَخون الدستور، هكذا نقول اليوم وهكذا نقول غدًا، وهكذا يقول القانون والدستور، لأن مصر دولة مَلكية دستورية تُعَد خيانة الدستور فيها جريمة لا تُغتفر، وتُعد حماية الدستور لها فريضة لا تُنسى، وواجبًا أَقسم الجميع عليه يَمين الطاعة والولاء".

- الحكم:
وصدر الحكم بجلسة يوم الأربعاء 31 ديسمبر سنة 16930 م الموافق 11 شعبان سنة 1349ه، بحبس المتهم الأول محمد فهمي الخضري أفندي مدة ستة أشهر حبسًا بسيطًا، وبحبس المتهم الثاني عباس محمود العقاد أفندي مدة تسعة أشهر حبسًا بسيطًا، وأمرت بطبع الحكم في ثلاث جرائد يومية بمصاريف من قِبل المحكوم عليهما.


1638261550370.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى