د. محمد عبدالله القواسمة - عن الشعر الصوفي وتقليد الحلاج

لا شك في أن للشعر الصوفي تأثيرًا كبيرًا في الشعر العربي الحديث والمعاصر؛ بوصفه تجربة باطنية تتصل بالرؤى والاتجاهات المنحازة إلى المطلق، واكتشاف المجهول واللامرئي. ويتميز بالقدرة على الاستشفاف، أي تصوير الواقع بما يمكن أن يصير عليه غدًا، ويُنظر إلى هذا الشعر بأنه مكون بنائي تتجلى فيه العبارة بإشاراتها وومضاتها الإشراقية، إنه رؤية شاملة للوجود والحياة، بما يحمله من معان عميقة، وما فيه من سمو روحي وصور ورموز محركة للعقل والوجدان.

لا يكاد يوجد شاعر عربي لم يتأثر بهذا النوع من الشعر، وخاصة بشعر المتصوفين الكبار، مثل: محيي الدين بن عربي، والنفري، والحلاج، وابن الفارض، ورابعة العدوية.

من أوائل الشعراء العرب الذين أفادوا من الشعر الصوفي، وتأثروا به الشاعر أدونيس(علي أحمد سعيد) الذي وصف نفسه بأنه "صوفي وثني"، ورأى في كتابه "الصوفية والسوريالية" أن النفري صاحب كتابي: "المواقف"، و"المخاطبات" " هو السلف الشرعي لقصيدة النثر العربية." ثم جاء صلاح عبد الصبور ليصوغ من حياة الحلاج مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج". ومن الشعراء الذين تأثروا بهذا الشعر طاهر أبو فاشا، وهو شاعر مصري غير مشهور كثيرًا، وقد غنت له المطربة أم كلثوم قصيدة "أحبك حبين" التي أخذت عنوانها من قصيدة الشاعرة رابعة العدوية المعروفة بتبنيها فكرة الحب لإلهي. ووجدنا تأثير الشعر الصوفي عند غير هؤلاء من الشعراء، أمثال: أمل دنقل، ومحمود درويش، ومحمد عفيفي مطر، وعبد الوهاب البياتي، وعاتكة الخزرجي.

لعل من أكثر الشعراء المتصوفين الذين اهتم بهم الشعراء العرب الشاعر الحسين بن منصور الحلاج(ت309 هأ)، ويعود ذلك(كما أرى) إلى نهايته الحزينة أكثر مما يعود إلى شعره؛ فالرجل واجه التعذيب والقتل في عهد الخليف العباسي المقتدر، الذي انصاع لرأي العامة وحساد الحلاج من أئمة المتصوفين والفقهاء في عصره، على رأسهم شيخ المتصوفين الجنيد البغدادي المقرب من السلطة العباسية، فاتهموه بالكفر والعمل على تقويض السلطة، مستغلين شطحاته الصوفية الغريبة من مثل قوله" أنا الحق". ولم يكتف المقتدر ورجاله بجلده ألف جلده قبل قطع رقبته، بل تعدى ذلك إلى حرق كتبه التي لم ينج منها غير كتابه "الطواسين" وقليل من أشعاره وأقواله.

أما شعره فيتميز بعقلانية ومباشرة، ولغة واضحة لم يعرفها الشعراء الصوفيون قبله. كما أنه يعد مجددًا في الشكل الشعري الصوفي بابتداع المطولات الصوفية. ولكنه مع ذلك لم يكن متفوقًا على غيره من الشعراء الصوفيين كابن عربي وابن الفارض على سبيل المثال، ولا يخلو شعره من العيوب الشعرية.

من القصائد التي تظهر الاهتمام بشعر الحلاج مقطوعته رغم ضعفها الواضح التي نصها:

إذا هجرت فمن لي ومـن يجمِّل كلِّي

ومـن لروحي وراحي يا أكثـري وأقلِّي

أَحَبَّـكَ البعضُ منِّي فقد ذهبتَ بكلِّي

يا كـلَّ كلِّي فكـنْ لي إنْ لم تكُن لي فمَن لِي

يا كـلَّ كلِّي وأهـلي عنـد انقطاعي وذلِّي

ما لي سوى الروح خذها والـروح جهدُ المقلِّ

فهذه القصيدة تقوم على فكرة مكررة عند الشعراء الصوفيين تعبر عن الحب الروحي الذي يتحقق فيه الاندماج بين الحبيبين، والانصهار بينهما، وأن وجود كل منهما وجود للآخر، والفكرة نجدها في مواضع أخرى من شعر الحلاج كما في قوله:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا

لقد انتبه إلى تلك المقطوعة بعض الشعراء العرب قديمًا وحديثًا رغم ما فيها من تلاعب لفظي بتكرار كلمة"كل"، وحرف الجر "اللام"، وقافية ياء المتكلم المنفرة فعارضها من القدماء في الوزن والقافية؛ ربما لمجرد الاستخفاف بها الشيخ عبد القادر الجيلاني(ت561هـ) في مقطوعة مطلعها:

اكشفْ حجابَ التجلّي وأحْيني بالتملّي

ونرى حديثًا الشاعر إبراهيم نصر الله يظهر الاهتمام بمقطوعة الحلاج هذه في ديوانه "الحب شرير" 2017م إذ يعيد صياغتها بتغييرات سطحية هنا وهناك مع المحافظة على الفكرة نفسها في قوله:

من بعضِ بعضكِ كُلِّي يا كُلَّ كُلِّي لكُلِّي

شربتُ روحَكِ حتى جاوزتُ أرضَ التّجلِّي

هكذا كان التقليد واضحًا، وبخاصة في استخدام التباعض والكلكلة أي تكرار كلمتي: "بعض" و"كل" اللتين اعتاد الحلاج على تكرارهما كثيرًا في شعره كما نرى في قوله:

قد قام بعضي ببعض بعضي وهام كلي بكل كلي

إنها لغة" بكى بعضي على بعضي معي" الفارغة المعنى لكنها والحق يقال تبهرنا بالزخرفة الجناسية. ما نريد أن نقوله في هذه المقالة التي تحتاج إلى توسع أن الشعر الصوفي ما يزال له تأثير واضح في الشعر العربي، لكنه عند بعض الشعراء لم يكن غير مطية لإظهار البراعة في التلاعب اللفظي، وتكرار المعاني، والإفراط في استخدام المحسنات البديعية وبخاصة الجناس؛ فلم تخرج قصائدهم عن باب تقليد الشعر الصوفي وأحيانًا السطو عليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى