أ. د. لطفي منصور - مَنْ أَخْبارِ الْعِشْقِ: مالِكٌ وَصاحِبَتُهُ جَنُوبُ

هُوَ مالِكُ بنُ الْحارِثِ بْنِ الصَّمْصامَةِ الْيَمَنيُّ. وَهُوَ ابْنُ أَخي الشّاعِرِ الْكَبيرِ ذي الرُّمَّةِ، وَلَمْ يُعْقِبْ مِنْ إخْوَةِ الشّاعِرِ غَيْرُهُ.
مالِكٌ مِنَ الشُّعَراءِ الْمُقِلِّينَ، وَلَمْ أجِدْ لَهُ تَرْجَمَةً إلّا صَفَحاتٍ قَليلَةً في كتابِ الأَغاني (٢٢: ٨٣-٨٦)، وَكِتابِ تَزْيِّينِ الأَسْواقْ في أَخْبارِ الْعُشّاقْ (١: ١٥٠-١٥٢).
كانَ مالِكٌ شُجاعًا جَلْدًا ذا نَجْدَةٍ، فارِسًا جَوادًا جَميلَ الْوَجْهِ، ماتَ في الْعِشْقِ عَلَى نَحْوِ ثَمانٍ وَعِشْرينَ مِنْ عُمْرِهِ.
أَمّا صاحِبَتُهُ جَنُوبُ فَهِيَ بِنْتُ قَيْسِ بْنِ أَصْبَغَ ابْنِ مُحْصَنٍ الْجَعْدِيِّ. وَأَخْبارُها تَجِدونَها أَيْضًا في كِتابِ أَعْلامِ النِّساءِ لكَحّالة (١: ٢١٩).
عَلِقَ مالِكٌ جَنوبَ شابَّيْنِ عَرَضًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ جاءَ يَوْمًا إلَى أَخِيها يَسْتَرْفِقُهُ (يُصاحِبُهُ) إلى حَيٍّ مِنْ كِنانَةَ، لِحاجَةٍ عَرَضَتْ لِمالِكٍ عِنْدَهُم لِما بَيْنَهُما مِنَ الصُّحْبَةِ وَالْقَرابَةِ. فَرَأَى جَنوبَ وَقَدْ أَلْقَتْ عَلَيْها ثَوْبًا أَخْضَرَ شَفّافًا، فَرَآها عَلَى بَغْتَةٍ فَوَقَعَتْ في قَلْبِهِ، فَعادَ وَقَدْ تَمَكَّنَ حُبُّها مِنْهُ.
عَلِمَ بِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحابِهِ فَوَشَى بِهِ إلى أَخيها، وَكانَ مَعْرُوفًا بِالشَّجاعَةِ، فَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ إنْ تَيَقَّنَ ذَلِكَ.
فَضَمَّهُما يَوْمًا مَجْلِسٌ، وَقَدْ أَقْبَلَتْ جَنُوبُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَها، وَأَخَذَتْهُ رَعْدَةٌ فَضَمَّهُ شَخْصٌ إلى صَدْرِهِ، وَفَطِنَ أَخُوها فَقامَ خَجِلًا، وَبَقِيَ مالِكٌ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمّا أفاقَ أنْشَدَ: (مِنَ الطَّوِيل)
خَليلَيَّ إنْ حانَتْ وَفاتِي فَادْفِنا
بِرابِيَةٍ بَيْنَ الْمَقابِرِ فَالنَّفْرِ
لِكَيْما تَقولُ الْعَبْدَلِيَّةُ كُلَّما
رَأَتْ جَدَثِي: سُقِيتَ يا قَبْرُ مِنْ قَبْرِ
(الرّابِيَةُ طَريقٌ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهامَةَ تَسْلُكُهُ الْعَرَبُ، وَالنَّفْرُ: تُرْبَةٌ "مَقْبَرَةٌ" مَشْهُورَةٌ)
وَفي رِوايَةٍ أُخْرَى: إنَّ الْعَرَبَ نَجَعُوا نَجْعَةً وَسْمِيَّةً، يَعْني مَكانًا أُمْطِرَ وَأُعْشِبَ، (وَالنُّجْعَةُ الرَّحيلُ لِأَجْلِ الْكَلَإ وَالْماءِ) فَوَقَفَ مالِكٌ يَتَصَفََحُ الظُّعْنَ مُخْتَفِيًا، حَتَّى مَرَّتْ بِهِ جَنوبُ، فَأَخَذَ بِخُطامِ بَعِيرِها وَأَنْشَدَ: (من الطّويل)
رَأَيْتُكِ إنْ أَزْمَعْتُمُ الْيَوْمَ نِيَّةً
وَغالَكِ مُصْطافُ الْحِمَى وَمَرابِعُهْ
أَتَرْعَيْنَ ما اسْتُودِعْتِ أمْ أَنْتِ كَالَّذِي
إذا ما نَأَى هانَتْ عَلَيْهِ وَدائِعُهْ
(أَخْبِريني: أَإذا نَوَيْتُمُ الرََحيلَ بَعيدًا بَعْدَ جَدْبٍ أَصابَ مَصائِفَكُمُ وَرُبوعَكُم هَلْ أنتِ حافِظَةٌ الْعَهْدَ الَّذي اسْتَوْدَعَهُ قَلْبُكِ؟)
فَبَكَتْ ثُمَّ قالَتْ: أَرْعَى وَاللَّهِ ما اسْتُودِعْتُ، وَلا تَهْونُ عِنْدِي وَدائِعُهُ؛ فَأَطْلَقَها وَمَضَى في شِعْرِهِ:
أَلا إنَّ وِرْدًا دُونَهُ قُلَّةُ الْحِمَى
مُنَى النَّفْسِ لَوْ كانَتْ تُنالُ شَرائِعْهْ
وَكَيْفَ وَمِنْ دُونِ الْوُرودِ عَوائِقٌ
وَأَصْبَغُ حامي ما أُحِبُّ وَمانِعْهْ
فَلا أَنْتَ فِيما صَدَّني عَنْهْ طامِعٌ
وَلا أَرْتَجِي وَصْلَ الَّذِي هُوَ قاطِعُهْ
(الوِرْدُ: وُرودُ الْماء، قُلَّةُ الْحِمَى: الْقُلَّة الْجَبَلُ أو قِمَّتُهُ، الشَّرائِعُ جَمْعُ شَريعَةٍ وهي مَجْرَى الْماءِ. يُريدُ المكانُ بَعيدٌ وَدونَهُ صِعابٌ، أَصْبَغُ والِدُ جَنوبَ أوْ جَدُّها. ما أُحِبُّ: يَعني جَنوبَ الّتي يُحِبُّها. وفي الْبيتِ الأَخيرِ يَتَحَدَّثُ الشّاعِرُ عَنْ حَيْرَتِهِ: لا يَطْمَعُ في الَّذي صَدَّه أيْ والدُها، ولا يَرْجو وَصْلَ الَّذي قَطَعَهُ خَوْفًا وَهِيَ جَنوبُ)
وَانْصَرَفَ فَباتَ لَيْلَةً قَلِقًا، فَلَمّا أَصْبَحَ رَكِبَ وَضَرَبَ الْفَضاءَ لِيُنَزِّهَ نَفْسَهُ. فَبَيْنَما هُوَ عَلَى ماءٍ يَسْتَريحُ إذُ سَمِعَ شَخْصًا يَشْكُو إلَى شَخْصٍ آخَرَ حالَهُ، وَثُقَلَ رَأْسِهِ، وَقِلَّةَ سَمْعِهِ. فَقالَ لَهُ صَديقُهُ: مُنْذُ كَمْ أَصابَكَ هَذا الدّاءُ؟
قالَ مِنْ أَمْسِ. فَقالَ: مِنَ الْهَواءِ الَّذي كانَ الْبارِحَةَ فَإنَّهُ جَنُوبٌ، وَهَواءُ الْجَنُوبِ ثَقِيلٌ؛ قالَ: إي وَاللَّهِ، وَلا أَضَرُّ مِنْ هَوائِها أَحَدٌ؛ فسَقَط مالِكٌ كَالْمَصْروعِ في الْماءِ، فَجاءُوا إلَيْهِ وَاحْتَمَلًُوهُ بَعْدَ أنْ قارَبَ الْغَرَقَ، ثُمَّ مَضَوْا بِهِ إلى الْحَيِّ، فَأَقامَ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ قَضَى نَحْبَهُ.
وَوَجَدْتُ في كِتابِ "لَطائِفُ الْفَوائِدِ وَظَرائِفُ الشَّوارِدِ" لِابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ صاحِبِ كِتابِ الْعِقْدِ الْفَرِيدِ، أَنَّ مالِكًا هذا لَمّا قَضَى اتَّصَلَ نَعْيُهُ بِصاحِبَتِهِ جَنُوبَ، فَفَزِعَتْ وَمَكَثَتْ أَيّامًا لا تَتَناوَلُ طَعامًا وَلا شَرابًا، ثُمَّ قُدِّمَ لَها لَبَنٌ، فَلَمّا امْتَصَّتْهُ وَقَعَ ذِكْرُ مالِكٍ في أُذُنِها، فَاضْطَرَبَتْ خَفيفًا، ثُمَّ اضْطَجَعَتْ فَإذا هِيَ مَيْتَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى