باسم أحمد القاسم - الصانعُ الأصيل: فن الهايكو الشعريّ والملاكُ السيّء (2/2)

(2/2)

مختبر ماتسو باشو:

فيما سلف اقتضاب كبير ولكن لو توفّرت المساحات الواسعة للتفاصيل ستكون الفكرة الاعتباريّة التي نخرج بها عن الصانع الأصيل لا تقل عن تلك الاعتبارات التي نحملها في جعبتنا عن آرثر رامبو أو مالارميه أو بودلير، كتب أحد الباحثين اليابانيين في الحداثة "بعد أن اطلع اليابانيون على مالارميه وبودلير لم يشكّوا أبدًا بأنّ ماتسو باشو هو سلف أفكارهم الأوّل"[12].

ولكن لا بدّ من إطلالة حقيقيّة مخصّصة ومقتضبة على مختبر ماتسو باشو الذي جعله يختلف عن هؤلاء العمالقة، وبذات الوقت، والأهمّ، لنستطيع أن نصنّف نوعيّة المختبرات العربيّة التي ترسم علاقتنا بالهايكو نقّادًا وشعراء، سنعرض بعضًا مما فعله ماتسو باشو في قصيدة الهايكو[13]:

- أبعدَ وظيفة الربط المعجمي في النصّ "mono-zukec". وإذا شرحناها بالأدوات والاصطلاحات التي اعتدنا عليها نجده أنّه يحذّر شاعر الهايكو من اعتماده في توليد الشعريّة من خلال تنوّع الدلالة لكل مفردة في أجزاء الهايكو الثلاثة، وقد أقصاها ماتسو باشو نهائيًّا عن طريقته shofu فالوردة في الهايكو هي وردة وحسب. وسنذكر مثالًا آخر: سئل ماساوكا شيكي الذي يُعتبر أحد آباء الهايكو الأربعة وآخر المحدّثين للهايكو، عن قصيدة الضفدع الشهيرة لماتسو باشو فقال: "هذه هايكو مثاليّة ولكن لا ينبغي أبدًا أن تُقرأ إلا كما هي عليه في القصيدة"، وعن قضية الرابط المعجمي نجد هذه الخلاصة: "الهايكو ليس كيانًا مصابًا بانفصام الشخصية متعدد الشخصيات بحيث يكون الضفدع ليس الضفدع، والشرغوف ليس جنينًا، ومع ذلك وللأسف، هذا ما يعتقده الكثيرون!"[14].

- أَبعِدْ وظيفة رابط المحتوى عن النصّ "kokoro-zuke" بحيث لا يتم بناء الهايكو عبر روابط سرديّة تؤمّن تناغم وتناسق بنيته الشعريّة وخصوصًا الترابط الدلالي الاستعاريّ، وبالتالي فإنّ الهايكو هو أبعد ما يكون عن أن يصنّف بأنّه "ومضة" قصصيّة أو شعريّة أو من شجرة العائلة ذاتها، فنحن لن نكون أمام معنى يفضي إلى معنى، لقد استبدل هذا الأسلوب لتوليد شعريّة الهايكو بأساليبه الخاصّة والفريدة والتي أطلقوا عليها لاحقًا تسمية روابط "المِزاج"، وعنها نستأنس بمقولة "أونيتسورا" وهو أحد الشعراء الأنداد لباشو في حقبة ولادة الهايكو يقول: "نعرف أنّ العندليب طائر صغير جميل أخضر اللون، ما لم يغرّد".

- نصل هنا إلى نقطة مهمّة وهي رفضه القاطع لما أطلق عليه تسمية "أومَامِي" وأحد تعريفاتها تعني لذّة الذكاء، كان يتشدد بها كثيرًا مع تلاميذه، وأقرب معنى لها هو تجنّب صياغة الهايكو عن طريق ترتيب افتتاحيّته أو قفلته بما يحقّق للشاعر لذّة الحِرَفيّة الشعريّة، فالحمولة الجماليّة للهايكو يساهم الترتيب في تأمينها ولكن عبر تناغم الانفعال الصادق والحقيقي الذي تفرضه طبيعة محتوى الهايكو وليس رغبة الجمهور، فالورود المرتّبة على أشجارها أناقتها طبيعيّة وفي جماليّتها الحقيقيّة تختلف فيما لو رأيناها مرتّبة في باقة نسّقتها ذهنيّة البائع وفق لذّتنا، ونورد مثالًا عمليًّا عن لذّة الذكاء:

في مدينة "كيوتو" أحد تلاميذ باشو كتب جزئين من هايكو وترك الجزء الأوّل وللاستشارة عرضه على المعلّم:
.....// تساقط الأمطار الغزيرة / على الثلوج الراكدة

فأشار إليه المعلّم أن يضع: جنوب كيوتو // تساقط الأمطار الغزيرة / على الثلوج الراكدة

يذكر أحد مرافقي باشو أن التلميذ تململ وعبّر عن عدم الرضا لرغبته في مقطع أكثر أناقة وجماليّة في الهدوء، فوبّخه المعلّم رافضًا طلبه[15].

هذا التوجيه الأخير واسع الطيف جدًّا ولكن يمكن أن نأخذ منه خلاصة أسلوبيّة وهي أنّ تنسيق وترتيب الهايكو مهمّ ولكن ليس سعيًا وراء قفلات الإدهاش والدهشة، وكم سعينا وهذا ما يكسر مفهوم "أناقة الطبيعي"، هذا المفهوم المقدّس عند ماتسو باشو الذي يمنح للهايكو حياةً. وهناك عبارة في هذا السياق مهمّة، يقول ماتسو باشو: "الهايكو الذي أكتبه مثل الموقد في الصيف أو المروحة في الشتاء. على عكس الحاجات اليومية الشعبية، ليس له التحصيل الاضطراري الفوريّ"، في هايكو باشو لايوجد انفعال عاطفي مهيمن بل يوجد ظلٌّ للعاطفة، يوجد مزاج غامضٌ في وضوحه يلبس ثوب الغبطة والهدوء.

هل يبدو بعد هذه النقاط الثلاثة أن أسلوبيّة الهايكو تدخل في حالة قطيعة مع أسلوبيّاتنا المعهودة في كتابة الشعر؟ يبدو أنّها كذلك، ولكن لماذا في النصوص المترجمة عن اليابانيّة نجدها؟ في الواقع، تتحول الترجمة في هذا السياق إلى فخ مميت، فما في النص لغويًّا هو من عدّة المترجم وحقيبة أدواته اللغوية وما يقارب أساليبنا المعهودة، فهو يواجه أصعب نص شعري يمكن أن ينقل عن لغة أجنبيّة، وهذه النصوص المترجمة لا تعدو كونها للمقاربة الجماليّة للمحتوى وحسب.

إضاءة:

لا بدّ من هذه الاضاءة قبل أن يتولّد لدينا شعور بأنّ ماتسو باشو كان يمارس فيتو على الشعر عامّةً.

ولنعلم أنّ ماتسو باشو كان يثمّن كلّ ما أقصاه عن قصيدة الهايكو فهو يعتبره صانع لجماليات الشعر أيضًا، لقد كان يقدّر مكانة أساليب كثيرة متحرّرًا من خصوصيّة الهايكو. على سبيل المثال لا الحصر كتب باشو الوصلات الغنائيّة التي تسمّى "Tsukeku" حتى في السنوات الأخيرة من حياته، وقد أشار بعض اليابانيين أنّ هذا النمط أوشك أن يكشف عن مخّ عظام هذا العجوز، وكلّ ما أشرنا إليه سالفًا كإقصاءات عن قصيدة الهايكو كان يزخر ويبني هذا النمط! وهو أقرب ما يكون للموشّحات من ناحية الأسلوب والتنغيم الياباني. نذكر منها:

عبر جفونها الخافتة
النجوم تفيض،
مجبرة على الوقوف
رغمًا عنها، ترقص
بنعومةٍ ولطف[16]

هذه الوصلة تشتغل على تراث قصصي وقصّة حب شائعة في اليابان، وكأنّ هذا الشاعر كان ينظم العتابا أو الميجنا ولكن على الطريقة اليابانيّة، وهي تعتبر بمثابة التوشيح[17]، ولكن عند كتابة الهايكو يتوقّف كلّ شيء، فمعه لسنا بإزاء شعر وحسب، وإنّما نكون وفق ماتسو باشو بإزاء أصالة كلّ شعر وهذه هي وجهة نظره الأساسيّة ومبتغاه النهائيّ "fuga no makoto"[****]، وهكذا يتحفّظ اليابانيون على إطلاق صفة قصيدة على نص الهايكو، هم يفضلون تسميته هايكو بدون إضافات، ولكن تماشيًا مع الغرب تم تمرير عبارة "Haiku poem"، وعلى ذلك فإنّ التقييمات اليابانيّة والعالميّة تشير إلى النص بأنّه هايكو أو ليس هايكو وليست معنيّة بالقول هل هو شعر أم ليس شعرًا، ليس هايكو لا تعني ليس شعرًا جميلًا، وربّما هذه الإضاءة تخفف حدّة الحساسيّة أثناء تقييم كتاباتنا.

الملاك السيّء:

ما تم تقديمه أعلاه هو جانب مقتضب يمكن أن نعتبره القليل من المواد الخام المنوطة ببناء قصيدة هايكو، فما الذي رحّلناه منها إلى مختبراتنا العربيّة؟ إن الإجابة تحتاج إلى وقت من التأمّل من المهتمّين العرب، وفي سياق هذا التأمّل يمكننا أن نقترح إعادة تقييم معرفتنا بماتسو باشو وتصحيح علاقتنا مع رؤيا الصانع الأصيل تجاه شعريّة الهايكو من خلال تجنّب المسلكين التاليين:

1- مسلكٌ قد يتخذه بالخصوص من كانت لهم تحيّزات ونوازع قداسة تجاه نظريّات النقد الغربيّة والعالميّة السائدة، وهكذا، وربّما بسبب الغموض الذي يلف سيرة الصانع الأوّل، يشرعون إلى فتح مختبرات تشتغل على ما قد يبدو مقابل ما عرضناه عن مختبر ماتسو باشو وسيرته الكتابيّة والنقديّة بمثابة جثث للنظريات والتسميات النمطيّة حول الشعر، تلك المرميّة في مقابر دوائر النقد الميتافيزيقي الغربي والعالمي السائد: تفكيكيّة، وتحليليّة، وتأويليّة ..إلخ. ما الذي ستفعله هذه المقرّرات أمام مطلب ماتسو باشو في أن يكون للقصيدة رائحة؟! ثم ماذا بعد ذلك، لن ينسى المختبر وضع ربطة عنق اسمها "الأدب الوجيز" ثمّ ننقعها جميعًا في إكسير "الومضة الشعريّة والقصصيّة" المألوفة لدينا مع صعقة من مفهوم "الدهشة" ثمّ تسلط جميعها على شكل كتابي في ثلاثة أسطر ثمّ يظهر لنا، ماذا سيظهر لنا؟ الواقع ثمّة إجابة يمكن أن نتلمّسها في العبرة مما فعله د. فيكتور فرانكشتاين في رواية ماري شيلي حين شرع إلى الجثث ليأخذ رأسًا من هنا وأطرافًا من هناك وقلبًا من ذاك ورئةً من تلك، ثمّ سائلًا مثل إكسير حياة وشرارةَ صاعقةٍ عملاقة تضرب هذه التشكيلة التي خاطها على هيئة جسد، ليصنع آدمه الخاص فحصل على الملاك السيّء، يبدو أن ماتسو باشو كان يهرب من تجميع الأعضاء فهدفه هو الخليّة القاعديّة الأوّلية لكائنات الشعر، مثل أي مختبر عالمي اكتفى بالعمل على سلالة DNA ليفهم أصل التخليق.

2- مسلك قد يتخذه من كان مدركًا لهذه القطيعة الجوهريّة بين شعريّة الهايكو الأصيل وشعريّة تراثنا وحداثتنا على حد سواء، ولكنّهم اعتمدوا على تنويعات من خصائص تجميعيّة قدّمتها اجتهادات الغرب تقتطف بدون تريُّث من قاطفها من مقال هنا ودراسات هناك، أُجريت على معطيات يابانيّة. وهذه بدايات مضيئّة لولا أنّها تسرّعت وجعلت منها قواعد قارّة وخلاصات نهائيّة، ولو تمّ بذل جهد أكبر بالتحرّي، سنجد أنّ غالبيّة هذه التنويعات والمقتطفات مجرّد مقترحات ومحاولات الكثير منها ابتعد عن جوهر الهايكو والقليل منها كان يقترب جدًّا، ولا بد من مثال كاشف نقدّمه عن هذا المسلك:

إنّ ما يسمّى بلحظة الهايكو أساسيّ في تدوين الهايكو وأوّل من أطلع الغرب عليه هو كينيث ياسودا، وواقع الأمر أنّ مفهوم لحظة الهايكو يعتبر قلب قصيدة الهايكو النابض ولكن قام كينيث ياسودا بإسناد هذه اللحظة للزمن الحاضر حصرًا (المضارع)، واشترط فيها أنّ محتوى نصّ الهايكو لا بد أن يكون مستندًا إلى التجربة المباشرة والفوريّة مع الحدث أو الرؤية البصريّة (استنارة الزن) وقد تم تقعيد هذا المفهوم في الغرب على مدى فترة طويلة من الزمن، وكانت تعليماتهم بضرورة استخدام الفعل المضارع أو أيّة أداة لغويّة تشير للحاضر الفوري مثل "للتوّ، توًّا، الآن" وهذا ما تأثّر به العرب وتبنّوه كقاعدة مطلقة في كتابة الهايكو، في حين أنّ نُقّاد الهايكو في اليابان، رفضوا أو تجاهلوا معظم نظريات كينيث ياسودا، إذ اعتبروا أنّ إسناد هذه اللحظة للزمن الحاضر حصرًا هو تضليل عن المفهوم الحقيقي لما يسمّى "لحظة الهايكو" وقدّموا نماذج كثيرة عن آباء الهايكو تشير إلى ما يعرف بـ"هايكو الماضي"، ومن الأمثلة عليه للماستر كوباياشي إيسّا:

ذاتَ غروب خريفيّ
كتبتُ مساءً على الحائط:
مضى قدُمًا.

والنماذج كثيرة من باب "الزمنيّة"، فهناك هايكو المستقبل وهايكو التحيّة وهناك هايكو الذاكرة الصوريّة وهناك هايكو يأتي على سبيل المعارضة لهايكو شهير مكتوبٌ منذ قرون، وجمعيها لا تُكتب في جو زمني يشير للحاضر الفوري داخل النصّ مقترن بلزوم تجربة مباشرة آنيّة.

خلاصة:

تحاول هذه الدراسة التنويه إلى أنّ الهايكو هو رؤيا صادرة عن جهة عارفة ومتمكّنة من ثقافة الشعر والشعريّة، وأن لها خصوصيّة فريدة لا بدّ كعرب أنّ نتجنّب الذهنيّة النقديّة البطوليّة في علاقتنا معها ولا نقفز فوق هذه الرؤيا، نحن نقترح هنا أن نعبر الممر أولًا كما يجب ولا نكتفي بتدوينات تأريخيّة اجتماعيّة عن حياة ماتسو باشو ثمّ فلنجتهد، فهذه الرؤيا تبقى الممر الإجباري نحو الهايكو الأصيل والحديث على حدٍ سواء، فالمسارات اليابانيّة وكذلك الغربيّة، تلك التي اتجهت لتحديث الهايكو وتنويع أصنافه، كان لا بد لها من عناوين أصيلة تبرّر القيام بهذا التحديث وهذا ما فعلوه، ولعلّ الغاية الأبعد من هذه الدراسة هي محاولة تقديم حصيلة عميقة ومحفّزة للمثقّفين العرب ممن أدار ظهره لهذه الظاهرة الملفتة في عالميّة الشعر، فالمنتج النقدي حول الهايكو جدير بأن يوضع في مكانه الصحيح عربيّاً حيث كلّ فكرة وردت أعلاه هي فكرة مستفزّة وما تزال جديدة جداً عالميّاً، فضلاً عن كونها عصيّة على أن نحولها إلى نظريّة في الشعر، وهي محفّزة للتفكّر بها والاشتغال عليها متجاوزين كوننا مع فن الهايكو الشعريّ ندخل في قطيعة مع ذهنيتنا النقديّة المنمّطة لنقاشاتنا حول ما الشعر ومن الشاعر.

ختامًا:

إنّ كتابة ثلاثة أسطر وجيزة بأفكارنا المألوفة عن الشعر يمكن أن تمنحنا فائضَا شعريًّا جميلًا ولكن هايكو لا تأخذ سمة شعر من الإيجاز أو من محتواها عن الفصول الأربعة، وربّما بغير هذه النتيجة تصبح عنونة هذه الكتابة بـ"هايكو" مأزقًا معرفيًّا، ربّما هذه الرؤيا بأسلوب مغاير في هذا البحث أفرزت تسمية "الملاك السيّء" إلّا أنّ ما يستهوي العرب للائتلاف مع هذا الكائن الشعري المختلف تتصاعد وتيرته إلى جانب نصوص محدودة الإنتاج يتم العناية بها جيدًا وهذا في المحصّلة مدعاة للتفاؤل، في مقابل قلق مبرّر من صدور بيانات نقديّة عربيّة هنا وهناك تشير إلى ما يسمّى "خصائص الهايكو العربي" وحين نلتفت إلى المكتبة العربيّة لانجد مؤلّفًا واحدًا تناول ماتسو باشو الناقد والمثقّف المهموم بأسئلة من الشاعر وما الشعر.

الهوامش:

[****]: هذه العبارة ذات دلالة شعريّة بحتة عند ماتسو باشو ولكنها بذات الوقت تستخدمها مدارس الزن إنّما في سياق فلسفي ديني وهذه أحد أسباب فهم طروحات باشو وتفسيرها على أنّها ترويج لدين فلسفي.

[12]: أوئيدا - ماكوتو "مقدمة إلى باشو ومترجميه" مطبعة جامعة ستانفورد.

[13]: مجموعة التطبيقات نشرت في مجلة هارفارد للدراسات الآسيوية.

[14]: بروفيسور "روبرت ويلسون"/ الجماليات اليابانيّة.

[15]: نشره "سوسومو-تاكيوتشي" في مؤتمر لندن للجمعية البريطانية للدراسات اليابانية عام 1983.

[16]: المصدر السابق.

[17]: هذه المقطوعات كانت توضع بمثابة روابط للترويح عن الشعراء بين مقاطع الهايكاي رينغا.


1638965248768.png
[تمثال للشاعر ماتسو بوشو في مقبرة Yamadera Risshaku ji]



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى