يترك بطل القصة مرحلي سواركي ابن تاجر البقوليات عائلته ليعيش في مملكة قير ويلتقي هناك بكاتب التمائم الفارسي ديباج الذي وعده بأن يصنع له نهاية إمبراطور تليق به ، حينها سيقضي حياته مصاحبًا له ومنفذ لأوامره في قتل الكثير من الضحايا ..
وقبول مرحلي بالوظيفة التي أوكلت له نابعة من إدراكه لطاقة الشر التي بداخله، يقول:
كنت أبحث عن شيءٍ غامض ولا أعرف ما هو، حين وصلت إلى بيتي وهدأت، كنت قد توصّلت إلى سرٍ كبير، سر أعرفه لأول مرة، هو أنني لست عاديًا، أنا طاقة شر، نعم طاقة شر مروّعة.
وهي الطاقة التي سيشبع نهمها بالقتل،
وحتى لحظات الوعي التي تطفو على السطح سيتم قتلها حتى يظل قائما بفعل القتل كآلة غير مشفقة، من دون تأنيب ضمير؛ ومتى كان القاتل مشفقا؟
كان سواركي يطبق البرنامج السردي الذي خطه ديباج له بمكر وخبث دون أن يعلم أنه سيوصله إلى تلك النهاية الإمبراطورية التي وعده بها. ديباج كان يعلم بفراسته أن سواركي يحمل جينات قاتل، لذا استغله أبشع استغلال، وحين فرغ منه، قدمه أضحية لجماعة متطرفة بإيعاز من منافسه الشاب الغجري.
ومن العناصر الدالة على مأساة سواركي أنه لما غادر منزلهم لا أحد سأل عنه ولا سعى إلى البحث عنه رغم أن خاله يدخل ضمن شغله البحث عن الأشخاص الضالين، أو الفارين؛ يتعقبهم إلى أن يصل إليهم ويعيدهم إلى حيث يطلبون؛ خاله الذي قبض على شاب ومر من أمامه دون أن يدل سلوكه على اهتمام بابن أخته.
ومما يزيد من مأساة السارد أنه يحمل قدره معه؛ قدره الذي خطه له سيده ديباج. كان يثق ثقة عمياء في الرجل حتى أنه لم يكن يثيره فضول فتح الرسائل ومعرفة محتواها، وفي ذلك تكمن نهايته.
البنية الدائرية للرواية:
لتكسير السرد الكرونولوجي عمدت الرواية إلى جعل النهاية من قسمين، القسم الأول صيرته البداية، والثاني النهاية إنها اتخذت البناء الدائري تقنية لسرد عوالمها ، وكأن البناء بمثابة قصر ذي بوابتين كبيرتين تنفتحان على واقع يجمع بين العادي والغريب والمدهش في توليفة واحدة وكأن الجمع بينهما لا تنافر فيه ولا شذوذ؛ إنه عالم يجمع بين فضاءين مختلفين لكنه في الرواية من دون حدود فاصلة، وبهذا يتحول الغرائبي إلى عنصر عادي ضمن تركيبة أحداث الرواية وشخصياتها. فإذا كانت بعض الشخصيات ترتكب أفعالا شنيعة ليلا، فأين المانع من إدخال عناصر من العالم الآخر في بنيتها وتصييرها جزء من العمل؟ إن غرائبية تلك الشخصيات الما ورائية تفقد بعدها بفعل شناعة ما تقوم به الشخصيات الواقعية.
وقد اعتمدت الرواية في سردها على ضمير المتكلم الذي يعود على مرحلي مع انفتاح على أصوات أخرى تشاركه السرد وتحمل بعض أعبائه.
ينفتح بابا القصر السحري للسرد لننقذف في أتون أحداث تجمع الواقعي بالغرائبي من دون حدود فاصلة بينهما، ونتابع شخصيات العمل وما تقوم به لنصل إلى نهاية صادمة نتابعها بأعين سواركي المندهشتين، فهو السارد الأساس وأحد ضحايا خبث ديباج الذي لما قضى منه غرضه رمى به بين أيدي جماعة دموية بفكرة جهنمية من الشاب الغجري.
لم ينتبه سواركي للفخ الذي نصب له لكونه من جهة قاتل أعمى الدم عينيه، ومن جهة أخرى لم ينتبه للإشارات التي كان يتابعها بعينيه ولم يستوعبها عقله وبخاصة لما حضر الغجري وبدأ يجري تغييرات لدى الراقصة أولا ولدى ديباج ثانية ولما شعر بالنبش الذي طال حفرة نقوده، وقبل ذلك لما شعر الغجري برغبة سواركي في قتله، وأدرك مراميه وأفشل خطته. إشارات لو أفلح في فكها لما سار مغمض العينين إلى حتفه.
تنقل مرحلي بين مهن متعددة؛ أولها مهنة الحاوي التي تعلّمها عند ساحر مغرور يُدعى الطبطب ويفارقه بطريقة غريبة، قبل أن ينتقل من بلدته في الشمال إلى كونادي، ممارسا صناعة الأقفاص قبل أن يُصبح غاسلاً للموتى تحت إشراف قدار بتوصية من ديباج، صانع التمائم، كي يكتسب الخشونة في مواجهة الموت، ثم أصبح قاتلاً مأجوراً تأتيه الرسائل منه وينفذها في الحال من دون أن يعرف الأسباب.
تميل شخصية مرحلي سيكولوجيا نحو العزلة، و نحو القتل واعتماد السلوك الاجتماعي المنحرف؛ شخصية تميزت بعشقها للقتل الذي يمنحها شعورا بالنشوة.
بفعل افتقارها للضمير الإنساني. والمثير في هذه الشخصية أنها تقتل ولا تعرف لماذا تقتل؟ وما الأهداف الكامنة وراء هذا الفعل الشنيع؟.
كوابيس مرحلي:
تأتي بعد كل جريمة مقترفة فتجعل ليليه مليئة بالكوابيس المتشابهة ، وتستعيد الأسئلة عينها:
مرحلي ابن قاتل البقوليات؟ هل قتلتني؟ نعم يا أخ، لماذا؟لا أعرف.
ومع الوقت، تصبح الكوابيس بمثابة أنيس له تبعد عنه الوحشة والوحدة، وإذا مرتّ ليلته خالية منها، فإنه يستيقظ فزعاً وكأن يومه مر دون معنى.
أمكنة الرواية:
تجري الأحداث في أمكنة متعددة ومختلفة، نركز على الآتية:
مملكتا طير ومملكة قير:
وإذا كانت الرواية ذات مصراعين ومتن عنيف، فإن أحداثها تقع في مملكتين اثنتين، وهما: مملكة قير، ومملكة طير، وهما مملكتان من وحي خيال المؤلف، لكن أحداثهما يمكن أن تقع في أماكن مشابهة نعيش فيها ونشعر بمثل ما يقع فيهما.
طبيعة مكان عيش مرحلي:
يعيش مرحلي في بيت يشبه طبيعة عمله ونفسه: أغراض ململة من كل مكان وفوضى؛ عظام لحيوانات وبشر، أوراق مكتوب عليها شتائم وشعر غزل، صقر محنط سيحتضنه في وحدة لياليه مراراً. وفي المراحل الأخيرة سيجري على مكان عيشه تغييرات مهمة تجعله نظيفا ومنظما ومريحا.
دكة الإخباريين:
من الأمكنة الهامة التي يتكرر ذكرها في الرواية مكان الإخباريين ويقوم بديلاً عن وسائل الإعلام الحديثة: إنه مكان مزدحم بالناس المتعطشة للأخبار التي ينقلها لهم موظفون رسميون يسردونها وفق مصالح السلطات. وقد تردد عليه مرحلي في كل يوم يتلو جريمته، بحثا عن أخبار حولها. وكان يعود خائبا كون الحدث بقي دون أجوبة مقنعة إلى أن تم تلبيس الجنايات لغيره.
شخصيات الرواية غير مرحلي:
ظهور خفير كشخصية منافسة لمرحلي:
تظهر في مراحل متأخرة من العمل شخصية جديدة ستمنح الرواية دينامية بعد مرحلة ركود ناتجة عن تكرار فعل القتل وصيحات الضحايا أثناء نوم القاتل، وما يدور في دكة الإخبار؛ إنها شخصية "خفير التي ستحلّ تدريجيا محلّ مرحلي في حياة ديباج. وستلعب أدوارا متعددة كأن يتحول الولد مساعدا بعد تشرد، ويوصل الرسائل، وخياطا ذا مهارة لافتة، وخطيبا يلقي وعظه في السوق فقاتلا له قدرة على حبك السيناريهات المميتة. إن ظهور خفير على مسرح الأحداث كان مهما وله أثر في تسريع وتيرة الزمن وما تعرفه الرواية من أحداث. لقد كان لظهور هذا الصبي أثر في نفس مرحلي الذي سعى إلى قتله بعد أن أحس أن مكانته بدأت تهتز لدى مشغله_سيده وولي نعمته، وعنصر وجوده.
شخصية ديباج الساحر أو ممسك الدمى في مسرح عرائس النص:
إلى جانب شخصيتي مرحلي وخفير، تظهر شخصية "ديباج الفارسي"، صانع التمائم، وعاشق النساء والمزواج الذي كان وراء تحول مرحلي لقاتل بعد أن أدرك بفراسته طاقة الشر الكامنة فيه، فصاغها وفق رغباته الشريرة ؛ لقد أعاد خلقه بعد أن اكتشف تلك الطاقة الملعونة. يقول ديباج موجها خطابه للقاتل القادم: مرحلي، يعني أنك لا تزال في البداية، كن معي، فأصنع لك نهاية امبراطور.
كما أنه وظف خفير ليحل محل مرحلي بعد أن انكشف هذا الأخير أمام السلطات فأصبح ورقة محروقة.
الجانب الغرائبي في الرواية:
تستحضر الرواية، في هذا المستوى، عالَم الجن، وعودة الأموات، مع امتداد الأساطير القديمة في الزمن وتواصلها فيه، بل وديمومتها. هكذا نجد الجن يقيمون الأعراس كما يحتفلون في شوارع كونادي وأزقتها، كما نجد الأموات يخترقون جدار الزمن حيث يظهرون أمام ناظري مرحلي ومنهم سلاملي الكذّاب وزوجته وابنه الصغير، والبعض منهم يقوم بفعل الإيذاء كما وقع للراقصة الغجرية فكان أن شكل نقلة في حياتها بأن انصرفت عن الرقص تدريجيا، فضلا عن عودة ضحايا مرحلي على شكل كوابيس ليلية مُؤرقة تسأله عن سبب قتلها الذي لا يعرفه مرحلي؛ بالمقابل سيحصل على جوابه، كيف ذلك؟
في مستهل الرواية سيتسلم مرحلي رسالة تحتوي المهمة التي ستكون الأخيرة في مسيرته، ويطلب منه ألا يفتحها إلا في مملكة طير.
وفي منتهاها ستمنحه اللحظات التي يعيشها في آخر حياته الجواب: وأدركت أنني الآن في الدرب الذي طالما وضعتُ عليه ضحاياي؛ ولا أعرف لماذا وضعتهم؟ على الأقل، هؤلاء الغرباء يبدون واثقين، وغذا ما قرروا ذبحي، فسيذبحونني لأسباب مقنهة جدا بالنسبة إليهم. ص321.
إنه إقرار بأن ما ارتكبه من قتل لم يكن بالنسبة له مبررا.
لقد أوقع بين يدي طائفة متشددة تبحث عن الشيطان: "كنا نبحث عنك لنفتدي طائفتنا، واشتريناك بعد تأكدنا من أنك ابن الشيطان.
فمن هي هذه الطائفة؟
إنها طائفة من الرجال الموشومين في جباههم بوشم القراصنة سمحوا له بقراءة الرسالة السريّة قبل أن يموت حرقاً، وعليهم أن يسرعوا لأن النار المتقدة أوشكت على الانطفاء.
وفي الأنفاس الأخيرة من الرواية يقوم ديباج بتقديم أجوبة توضيحية كما لو أنها آخر وجبة تقدم لمحكوم بالإعدام حيث يقوم بجرد سيرة حياتهما معاً بشكل مركز، ومكانته عنده، والسرّ وراء كل المهام التي أوكلت له، وكيف أنه قام بتسليمه لهذه المجموعة من الوثنيين ذات الطقوس الدموية ليقتلوه كفداء. وبوضعه بين يدي هذه الطائفة يكون ديباج قد تخلص من ورطة قد تسبب نهايته، بمعنى أنه تخلص من دليل مادي ضده.
من قضايا الرواية:
تصفية المعارضين على يد قاتل نكرة:
قد ينهض اغتيال الياطور حسن المثقف المُعارض للسلطة، دليلا على أن الجرائم المرتكبة ليلا في مملكة قير مدبرة بخبث من قِبل السلطات، وإن سعى الأمير كرم، قائد الشرطة ونجل الملك إلى التغطية على التصفية بإقناع الناس عبر إيهامهم أنه منشغل بمطاردة القتلة واللصوص في أرجاء المملكة، ويعمل جاهدا على بثّ الأمن والأمان فيها.
لابد من الإشارة في هذا المجال إلى وسائل القمع المعتمدة من الشرطة من خلال أشكال نزع الاعتراف البشعة من المتهمين باستعمال قوارض فتاكة ومرعبة؛ الأمر الذي يرغمهم على الاعتراف باقتراف ما لم يقترفوا.
ويمكن سوق دليل اعتقال مرحلي الذي كان شاهدا على هذا اللون من التعذيب لما اتهم بقتل عنزة رغم أن الحدث مرت عليه سنوات. والمثير للسخرية أنه نجا من عواقب كل جرائمه وهو رهن التحقيق معه، فهل ذلك عنوان سذاجة رجال الشرطة أم تهربا من محاسبة عميل يقوم بالأعمال القذرة التي تصب في مصلحة سلطات البلاد؟
أسباب بداية التفكير في التخلي عن مرحلي:
يستحضر ديباج الأساطير بوصفها تنبيهاً سماوياً أو إنذارا؛ ويوظفها بهذه الصفة لإقناع مرحلي بالتوقف عن القتل مؤقتا أو بشكل نهائي، إذ يقول له: "سيأخذك الشبح معه "، "نحن مكشوفان للأساطير، ولن نستطيع أن نؤذي الناس مرة أخرى.
والحقيقة أن سبب التخلي عنه ترك مرحلي أثرا يدل عليهما؛ وهو ما لم يقع فيه الشاب الغجري، يقول ديباج في هذا الصدد جوابا عن سؤال ان كان خفير قد ارتكب جرائم قتل:
لقد نفذ.. وكانت مهمة قاسية عليه لكنه لم يرتبك، ولم يتردد وأداها على الوجه الأكمل، بحيث لم تترك أثرا يدل على أذى متعمد. ص 321.
**
اعتمدت الرواية البناء الدائري بغاية كسر السرد الكرونولوجي معتمدا ضمير المتكلم في حكيها مع انفتاح على ساردين آخرين يقاسمونه دفة القول مقدمين شروحاتهم وجهات نظرهم، كل ذلك بلغة انسيابية بعيدة عن التعقيد وقريبة في أحايين من اللغة الشعرية لتقديم أحداث عنيفة من طرف السارد الرسمي في مملكة تعتمد القانون العرفي ذي الوسائل العنيفة في زجر المخالفين والقتلة والمغتصبين.
1_ جزء مؤلم من حكاية لأمير تاج السر، صدارة عن نوفل في طبعتها الأولى من القطع الكبير سنة 2018.
2_ تم الاستفادة من بعض القراءات جزئيا دون تذكرها.
وقبول مرحلي بالوظيفة التي أوكلت له نابعة من إدراكه لطاقة الشر التي بداخله، يقول:
كنت أبحث عن شيءٍ غامض ولا أعرف ما هو، حين وصلت إلى بيتي وهدأت، كنت قد توصّلت إلى سرٍ كبير، سر أعرفه لأول مرة، هو أنني لست عاديًا، أنا طاقة شر، نعم طاقة شر مروّعة.
وهي الطاقة التي سيشبع نهمها بالقتل،
وحتى لحظات الوعي التي تطفو على السطح سيتم قتلها حتى يظل قائما بفعل القتل كآلة غير مشفقة، من دون تأنيب ضمير؛ ومتى كان القاتل مشفقا؟
كان سواركي يطبق البرنامج السردي الذي خطه ديباج له بمكر وخبث دون أن يعلم أنه سيوصله إلى تلك النهاية الإمبراطورية التي وعده بها. ديباج كان يعلم بفراسته أن سواركي يحمل جينات قاتل، لذا استغله أبشع استغلال، وحين فرغ منه، قدمه أضحية لجماعة متطرفة بإيعاز من منافسه الشاب الغجري.
ومن العناصر الدالة على مأساة سواركي أنه لما غادر منزلهم لا أحد سأل عنه ولا سعى إلى البحث عنه رغم أن خاله يدخل ضمن شغله البحث عن الأشخاص الضالين، أو الفارين؛ يتعقبهم إلى أن يصل إليهم ويعيدهم إلى حيث يطلبون؛ خاله الذي قبض على شاب ومر من أمامه دون أن يدل سلوكه على اهتمام بابن أخته.
ومما يزيد من مأساة السارد أنه يحمل قدره معه؛ قدره الذي خطه له سيده ديباج. كان يثق ثقة عمياء في الرجل حتى أنه لم يكن يثيره فضول فتح الرسائل ومعرفة محتواها، وفي ذلك تكمن نهايته.
البنية الدائرية للرواية:
لتكسير السرد الكرونولوجي عمدت الرواية إلى جعل النهاية من قسمين، القسم الأول صيرته البداية، والثاني النهاية إنها اتخذت البناء الدائري تقنية لسرد عوالمها ، وكأن البناء بمثابة قصر ذي بوابتين كبيرتين تنفتحان على واقع يجمع بين العادي والغريب والمدهش في توليفة واحدة وكأن الجمع بينهما لا تنافر فيه ولا شذوذ؛ إنه عالم يجمع بين فضاءين مختلفين لكنه في الرواية من دون حدود فاصلة، وبهذا يتحول الغرائبي إلى عنصر عادي ضمن تركيبة أحداث الرواية وشخصياتها. فإذا كانت بعض الشخصيات ترتكب أفعالا شنيعة ليلا، فأين المانع من إدخال عناصر من العالم الآخر في بنيتها وتصييرها جزء من العمل؟ إن غرائبية تلك الشخصيات الما ورائية تفقد بعدها بفعل شناعة ما تقوم به الشخصيات الواقعية.
وقد اعتمدت الرواية في سردها على ضمير المتكلم الذي يعود على مرحلي مع انفتاح على أصوات أخرى تشاركه السرد وتحمل بعض أعبائه.
ينفتح بابا القصر السحري للسرد لننقذف في أتون أحداث تجمع الواقعي بالغرائبي من دون حدود فاصلة بينهما، ونتابع شخصيات العمل وما تقوم به لنصل إلى نهاية صادمة نتابعها بأعين سواركي المندهشتين، فهو السارد الأساس وأحد ضحايا خبث ديباج الذي لما قضى منه غرضه رمى به بين أيدي جماعة دموية بفكرة جهنمية من الشاب الغجري.
لم ينتبه سواركي للفخ الذي نصب له لكونه من جهة قاتل أعمى الدم عينيه، ومن جهة أخرى لم ينتبه للإشارات التي كان يتابعها بعينيه ولم يستوعبها عقله وبخاصة لما حضر الغجري وبدأ يجري تغييرات لدى الراقصة أولا ولدى ديباج ثانية ولما شعر بالنبش الذي طال حفرة نقوده، وقبل ذلك لما شعر الغجري برغبة سواركي في قتله، وأدرك مراميه وأفشل خطته. إشارات لو أفلح في فكها لما سار مغمض العينين إلى حتفه.
تنقل مرحلي بين مهن متعددة؛ أولها مهنة الحاوي التي تعلّمها عند ساحر مغرور يُدعى الطبطب ويفارقه بطريقة غريبة، قبل أن ينتقل من بلدته في الشمال إلى كونادي، ممارسا صناعة الأقفاص قبل أن يُصبح غاسلاً للموتى تحت إشراف قدار بتوصية من ديباج، صانع التمائم، كي يكتسب الخشونة في مواجهة الموت، ثم أصبح قاتلاً مأجوراً تأتيه الرسائل منه وينفذها في الحال من دون أن يعرف الأسباب.
تميل شخصية مرحلي سيكولوجيا نحو العزلة، و نحو القتل واعتماد السلوك الاجتماعي المنحرف؛ شخصية تميزت بعشقها للقتل الذي يمنحها شعورا بالنشوة.
بفعل افتقارها للضمير الإنساني. والمثير في هذه الشخصية أنها تقتل ولا تعرف لماذا تقتل؟ وما الأهداف الكامنة وراء هذا الفعل الشنيع؟.
كوابيس مرحلي:
تأتي بعد كل جريمة مقترفة فتجعل ليليه مليئة بالكوابيس المتشابهة ، وتستعيد الأسئلة عينها:
مرحلي ابن قاتل البقوليات؟ هل قتلتني؟ نعم يا أخ، لماذا؟لا أعرف.
ومع الوقت، تصبح الكوابيس بمثابة أنيس له تبعد عنه الوحشة والوحدة، وإذا مرتّ ليلته خالية منها، فإنه يستيقظ فزعاً وكأن يومه مر دون معنى.
أمكنة الرواية:
تجري الأحداث في أمكنة متعددة ومختلفة، نركز على الآتية:
مملكتا طير ومملكة قير:
وإذا كانت الرواية ذات مصراعين ومتن عنيف، فإن أحداثها تقع في مملكتين اثنتين، وهما: مملكة قير، ومملكة طير، وهما مملكتان من وحي خيال المؤلف، لكن أحداثهما يمكن أن تقع في أماكن مشابهة نعيش فيها ونشعر بمثل ما يقع فيهما.
طبيعة مكان عيش مرحلي:
يعيش مرحلي في بيت يشبه طبيعة عمله ونفسه: أغراض ململة من كل مكان وفوضى؛ عظام لحيوانات وبشر، أوراق مكتوب عليها شتائم وشعر غزل، صقر محنط سيحتضنه في وحدة لياليه مراراً. وفي المراحل الأخيرة سيجري على مكان عيشه تغييرات مهمة تجعله نظيفا ومنظما ومريحا.
دكة الإخباريين:
من الأمكنة الهامة التي يتكرر ذكرها في الرواية مكان الإخباريين ويقوم بديلاً عن وسائل الإعلام الحديثة: إنه مكان مزدحم بالناس المتعطشة للأخبار التي ينقلها لهم موظفون رسميون يسردونها وفق مصالح السلطات. وقد تردد عليه مرحلي في كل يوم يتلو جريمته، بحثا عن أخبار حولها. وكان يعود خائبا كون الحدث بقي دون أجوبة مقنعة إلى أن تم تلبيس الجنايات لغيره.
شخصيات الرواية غير مرحلي:
ظهور خفير كشخصية منافسة لمرحلي:
تظهر في مراحل متأخرة من العمل شخصية جديدة ستمنح الرواية دينامية بعد مرحلة ركود ناتجة عن تكرار فعل القتل وصيحات الضحايا أثناء نوم القاتل، وما يدور في دكة الإخبار؛ إنها شخصية "خفير التي ستحلّ تدريجيا محلّ مرحلي في حياة ديباج. وستلعب أدوارا متعددة كأن يتحول الولد مساعدا بعد تشرد، ويوصل الرسائل، وخياطا ذا مهارة لافتة، وخطيبا يلقي وعظه في السوق فقاتلا له قدرة على حبك السيناريهات المميتة. إن ظهور خفير على مسرح الأحداث كان مهما وله أثر في تسريع وتيرة الزمن وما تعرفه الرواية من أحداث. لقد كان لظهور هذا الصبي أثر في نفس مرحلي الذي سعى إلى قتله بعد أن أحس أن مكانته بدأت تهتز لدى مشغله_سيده وولي نعمته، وعنصر وجوده.
شخصية ديباج الساحر أو ممسك الدمى في مسرح عرائس النص:
إلى جانب شخصيتي مرحلي وخفير، تظهر شخصية "ديباج الفارسي"، صانع التمائم، وعاشق النساء والمزواج الذي كان وراء تحول مرحلي لقاتل بعد أن أدرك بفراسته طاقة الشر الكامنة فيه، فصاغها وفق رغباته الشريرة ؛ لقد أعاد خلقه بعد أن اكتشف تلك الطاقة الملعونة. يقول ديباج موجها خطابه للقاتل القادم: مرحلي، يعني أنك لا تزال في البداية، كن معي، فأصنع لك نهاية امبراطور.
كما أنه وظف خفير ليحل محل مرحلي بعد أن انكشف هذا الأخير أمام السلطات فأصبح ورقة محروقة.
الجانب الغرائبي في الرواية:
تستحضر الرواية، في هذا المستوى، عالَم الجن، وعودة الأموات، مع امتداد الأساطير القديمة في الزمن وتواصلها فيه، بل وديمومتها. هكذا نجد الجن يقيمون الأعراس كما يحتفلون في شوارع كونادي وأزقتها، كما نجد الأموات يخترقون جدار الزمن حيث يظهرون أمام ناظري مرحلي ومنهم سلاملي الكذّاب وزوجته وابنه الصغير، والبعض منهم يقوم بفعل الإيذاء كما وقع للراقصة الغجرية فكان أن شكل نقلة في حياتها بأن انصرفت عن الرقص تدريجيا، فضلا عن عودة ضحايا مرحلي على شكل كوابيس ليلية مُؤرقة تسأله عن سبب قتلها الذي لا يعرفه مرحلي؛ بالمقابل سيحصل على جوابه، كيف ذلك؟
في مستهل الرواية سيتسلم مرحلي رسالة تحتوي المهمة التي ستكون الأخيرة في مسيرته، ويطلب منه ألا يفتحها إلا في مملكة طير.
وفي منتهاها ستمنحه اللحظات التي يعيشها في آخر حياته الجواب: وأدركت أنني الآن في الدرب الذي طالما وضعتُ عليه ضحاياي؛ ولا أعرف لماذا وضعتهم؟ على الأقل، هؤلاء الغرباء يبدون واثقين، وغذا ما قرروا ذبحي، فسيذبحونني لأسباب مقنهة جدا بالنسبة إليهم. ص321.
إنه إقرار بأن ما ارتكبه من قتل لم يكن بالنسبة له مبررا.
لقد أوقع بين يدي طائفة متشددة تبحث عن الشيطان: "كنا نبحث عنك لنفتدي طائفتنا، واشتريناك بعد تأكدنا من أنك ابن الشيطان.
فمن هي هذه الطائفة؟
إنها طائفة من الرجال الموشومين في جباههم بوشم القراصنة سمحوا له بقراءة الرسالة السريّة قبل أن يموت حرقاً، وعليهم أن يسرعوا لأن النار المتقدة أوشكت على الانطفاء.
وفي الأنفاس الأخيرة من الرواية يقوم ديباج بتقديم أجوبة توضيحية كما لو أنها آخر وجبة تقدم لمحكوم بالإعدام حيث يقوم بجرد سيرة حياتهما معاً بشكل مركز، ومكانته عنده، والسرّ وراء كل المهام التي أوكلت له، وكيف أنه قام بتسليمه لهذه المجموعة من الوثنيين ذات الطقوس الدموية ليقتلوه كفداء. وبوضعه بين يدي هذه الطائفة يكون ديباج قد تخلص من ورطة قد تسبب نهايته، بمعنى أنه تخلص من دليل مادي ضده.
من قضايا الرواية:
تصفية المعارضين على يد قاتل نكرة:
قد ينهض اغتيال الياطور حسن المثقف المُعارض للسلطة، دليلا على أن الجرائم المرتكبة ليلا في مملكة قير مدبرة بخبث من قِبل السلطات، وإن سعى الأمير كرم، قائد الشرطة ونجل الملك إلى التغطية على التصفية بإقناع الناس عبر إيهامهم أنه منشغل بمطاردة القتلة واللصوص في أرجاء المملكة، ويعمل جاهدا على بثّ الأمن والأمان فيها.
لابد من الإشارة في هذا المجال إلى وسائل القمع المعتمدة من الشرطة من خلال أشكال نزع الاعتراف البشعة من المتهمين باستعمال قوارض فتاكة ومرعبة؛ الأمر الذي يرغمهم على الاعتراف باقتراف ما لم يقترفوا.
ويمكن سوق دليل اعتقال مرحلي الذي كان شاهدا على هذا اللون من التعذيب لما اتهم بقتل عنزة رغم أن الحدث مرت عليه سنوات. والمثير للسخرية أنه نجا من عواقب كل جرائمه وهو رهن التحقيق معه، فهل ذلك عنوان سذاجة رجال الشرطة أم تهربا من محاسبة عميل يقوم بالأعمال القذرة التي تصب في مصلحة سلطات البلاد؟
أسباب بداية التفكير في التخلي عن مرحلي:
يستحضر ديباج الأساطير بوصفها تنبيهاً سماوياً أو إنذارا؛ ويوظفها بهذه الصفة لإقناع مرحلي بالتوقف عن القتل مؤقتا أو بشكل نهائي، إذ يقول له: "سيأخذك الشبح معه "، "نحن مكشوفان للأساطير، ولن نستطيع أن نؤذي الناس مرة أخرى.
والحقيقة أن سبب التخلي عنه ترك مرحلي أثرا يدل عليهما؛ وهو ما لم يقع فيه الشاب الغجري، يقول ديباج في هذا الصدد جوابا عن سؤال ان كان خفير قد ارتكب جرائم قتل:
لقد نفذ.. وكانت مهمة قاسية عليه لكنه لم يرتبك، ولم يتردد وأداها على الوجه الأكمل، بحيث لم تترك أثرا يدل على أذى متعمد. ص 321.
**
اعتمدت الرواية البناء الدائري بغاية كسر السرد الكرونولوجي معتمدا ضمير المتكلم في حكيها مع انفتاح على ساردين آخرين يقاسمونه دفة القول مقدمين شروحاتهم وجهات نظرهم، كل ذلك بلغة انسيابية بعيدة عن التعقيد وقريبة في أحايين من اللغة الشعرية لتقديم أحداث عنيفة من طرف السارد الرسمي في مملكة تعتمد القانون العرفي ذي الوسائل العنيفة في زجر المخالفين والقتلة والمغتصبين.
1_ جزء مؤلم من حكاية لأمير تاج السر، صدارة عن نوفل في طبعتها الأولى من القطع الكبير سنة 2018.
2_ تم الاستفادة من بعض القراءات جزئيا دون تذكرها.